عرض: صباح عبد الصبور ونورهان أبو الفتوح ونورا محمد

يكشف استقراء مشهد الصراعات المسلحة في مناطق العالم المختلفة عن عدد من السمات المشتركة؛ ففيما نجحت بعض الدول في تدشين مسارات للمصالحة والتعافي من الصراعات، بدا أن هناك مجموعة من الصراعات المستعصية على التسوية؛ نظراً إلى تداخل العديد من العوامل المؤثرة في مشهد هذه الصراعات، وتعدد الفاعلين المنخرطين فيه، فضلاً عن تعقيد التنافسات الجيوسياسية العالمية لواقع الصراعات في أكثر من دولة.

وفي هذا الصدد، نشر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) تقريره المعنون بـ"مسح الصراعات المسلحة في 2023"، الذي يشير فيه إلى أن العالم يهيمن عليه بشكل متزايد الصراعات المستعصية والعنف المسلح، وسط تزايد الجهات الفاعلة والدوافع المعقدة والمتداخلة والتأثيرات العالمية وتسارع تغير المناخ؛ إذ ارتفعت حدة الصراع على أساس سنوي في الفترة المشمولة بتقرير مسح النزاعات المسلحة لعام 2023، مع زيادة عدد الوفيات والأحداث بنسبتي 14% و28% تقريباً على التوالي. وبناءً على ذلك، سلَّط التقرير الضوء على الدوافع الإقليمية والعالمية للصراعات حول العالم، والجهات الفاعلة الرئيسية، وتداعياتها الإقليمية والدولية، وكذلك آفاقها المستقبلية.

أزمات أفريقيا

يطرح التقرير عدداً من الملامح الرئيسية للصراعات في أفريقيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– التسويات السياسية غير المستقرة وهشاشة المؤسسات: يفترض التقرير أن هناك عدداً من المحفزات الرئيسية للصراعات في أفريقيا، وأحد هذه المحفزات معاناة البلدان المتأثرة بالصراعات في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء في كثير من الأحيان من التحولات السياسية الفاشلة والتسويات السياسية غير المستقرة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الهشاشة المؤسسية العميقة، والفشل في تقديم الخدمات والسيطرة على المناطق الطرفية، قد أديا إلى توسع الصراع المسلح خلال العقد الماضي، كما يتفاقم العجز المزمن للدول الهشة عن بناء مؤسسات خاضعة للمساءلة، ودعم سيادة القانون، وتوفير الخدمات الكافية والفرص الاقتصادية الهادفة للمواطنين؛ بسبب ظهور الجماعات المسلحة من غير الدول، التي تجلب انعدام الأمن، ولكنها توفر أيضاً شكلاً من أشكال الحكم على المستوى المحلي، كما تتعزز السلطات والاقتصادات غير الرسمية الموازية في المنطقة. وفي بعض الحالات – كما هو الحال في إثيوبيا ومالي وجنوب السودان – يتقاطع العنف العرقي حول الأنماط التقليدية للتنافس على الموارد الشحيحة مع غياب الدولة.

2– استمرار الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة: في المناطق التي توجد بها سلع ذات قيمة عالية مثل المعادن (مثل جمهورية أفريقيا الوسطى، وشرق جمهورية الكونغو الديمقراطية)، تشرف الجماعات المسلحة من غير الدول على نظام استغلال العمالة المحلية والعنف والاتجار غير المشروع؛ وذلك بمشاركة أو تواطؤ النخب الاقتصادية والسياسية. ومن ثم، ترتبط بعض الصراعات ارتباطاً وثيقاً بالأسواق غير المشروعة؛ حيث تلعب الجماعات المسلحة من غير الدول دور أصحاب المشاريع في الصراع.

3– دعم بعض الدول الإقليمية لحركات التمرد في الدول المجاورة: تصاعدت صراعات جديدة في القارة في السنوات القليلة الماضية بسبب تدخلات الدول الإقليمية؛ ففي شرق الكونغو، يتعرض الصراع بينها وبين رواندا لخطر التصعيد بسبب الدور الذي تلعبه الأخيرة في دعم تمرد حركة 23 مارس.

4– تراجع فاعلية التحالفات العسكرية بين الدول: يشير التقرير إلى أن هناك تحالفات بين أطراف الصراع؛ إذ إن الطابع العابر للحدود الوطنية للنزاعات المسلحة في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل يدفع بلدان المنطقة إلى تبني استجابات منسقة. وتختلف هذه المبادرات الأمنية المخصصة اختلافاً كبيراً عن عمليات حفظ السلام؛ فعلى سبيل المثال، فإنه لمواجهة انعدام الأمن المتزايد في منطقة الساحل، أنشأت حكومات بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر القوة المشتركة لمجموعة الخمس في الساحل (FC–G5S) بهدف تعزيز التعاون العسكري، والعمليات المشتركة، خاصة حول الحدود المشتركة.

ومع ذلك، لم يكن للتحالف (الذي يعمل منذ عام 2017) أي تأثير كبير على تحسين الأمن؛ فقد تفاقمت الصراعات في المنطقة. ومن ثم، فإن النجاح المحدود الذي حققته هذه التحالفات ينبع من عجز البلدان المشاركة عن توفير استجابات الحكم والتنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى التدخلات الأمنية.

5– معضلة الطبيعة المحلية للتنظيمات الإرهابية: إن التنظيمات الإرهابية في أفريقيا جنوب الصحراء آخذة في التطور، وقد أصبحت أكثر محليةً بكثير، واعتمدت على المظالم المحلية، وأصبحت متشابكة مع الصراعات المجتمعية والعرقية؛ فلقد اختفى البعد الدولي للإرهاب عملياً في المنطقة، ولا تزال الروابط بين الجماعات المتمردة تقتصر على بعض التعاون دون الإقليمي. وجدير بالذكر أن تورط الجماعات الإرهابية المتزايد في الصراعات المحلية، ودور الحماية الذي تلعبه لمختلف المجتمعات، جعلها أكثر مرونةً وأكثر شعبيةً من الحكومات في بعض الأماكن.

وفي هذا الصدد، طوَّرت الجماعات الإرهابية أساليب معقدة لجمع الأموال محلياً؛ فعلى سبيل المثال، أضافت حركة الشباب الصومالية إلى إيراداتها التقليدية، الضرائب على الطرق من خلال إدارة أقسام من تجارة الفحم، وفرض الضرائب على تصدير الماشية وإنشاء المباني الجديدة في جميع أنحاء البلاد، كما اخترقت مؤسسات الدولة المختلفة، وأنشأت شبكة واسعة من الفساد. وتشير التقديرات إلى أنه في عام 2022، جمعت حركة الشباب نحو 100 مليون دولار أمريكي من خلال الضرائب والابتزاز، مقارنةً بمبلغ 250 مليون دولار أمريكي من الضرائب التي جمعتها الحكومة رسمياً.

6– التأثير السلبي للتدخلات العسكرية الخارجية: تتميز أغلب الحروب الأهلية اليوم في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا بالتدخل العسكري الخارجي، وهو العامل الذي يعزز أيضاً استعصاء هذه الحروب؛ فعلى سبيل المثال، تنظر روسيا إلى منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا باعتبارها مسرحاً مثالياً لممارسة النفوذ وضرب المصالح الغربية. وتعد مجموعة فاجنر هي الشركة العسكرية الروسية الخاصة الأكثر شهرةً، ولكنها ليست الوحيدة؛ فبشكل جماعي، عملت الشركات العسكرية الخاصة الروسية في 19 دولة في المنطقة في العقد الماضي.

7– ارتدادات المنافسة المتزايدة بين الغرب وروسيا والصين: يفترض التقرير أن المنافسة بين الدول الغربية وبين كل من الصين وروسيا ساهم في تعقيد مشهد الصراعات بأفريقيا؛ فقد اتسمت السنوات الأخيرة بهيمنة القوى الخارجية على العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية مع القارة، وتقديم الدعم لمبادرات حل النزاعات وتحقيق الاستقرار وحفظ السلام.

وقد لعبت روسيا والصين دوراً دبلوماسياً وأمنياً متزايداً في البلدان الأفريقية المتضررة من الصراعات على مدى السنوات القليلة الماضية، وهو الوضع الذي أدى، في أغلب الأحوال، إلى تفاقم الصراعات القائمة، وأفضى إلى مستويات أعلى من العنف، ولا سيما في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي. وفي الوقت نفسه، على الرغم من أن الصين اضطلعت بدور اقتصادي قوي في القارة، بما في ذلك دورها في الصناعات الاستخراجية، فمن غير الواضح حالياً كيف يؤثر هذا على ديناميكيات الصراع.

8– تزايد المخاوف من استمرار الصراع في السودان: على الصعيد الإقليمي، يُعَد الصراع المسلح الأكثر أهميةً هو الحرب الأهلية في السودان؛ إذ يقع السودان في قلب منطقة هشة ومتقلبة للغاية ومتأثرة بالفعل بالصراع والعنف. ونظراً إلى تاريخه الحديث واعتماده على عائدات النفط من الخرطوم، فإن جنوب السودان هو البلد الأكثر تضرراً بشكل مباشر من القتال. وقد يؤدي النزوح الجماعي من السودان على حدوده الغربية – على نطاق أكبر مما حدث حتى الآن – إلى زيادة الضغط على توازن القوى المحلي الدقيق، كما أن إعادة تنشيط النزاع الحدودي العنيف بين السودان وإثيوبيا يمكن أن يؤدي أيضاً إلى أزمة إقليمية أكبر.

ويشير التقرير إلى أن الصراع الراهن في السودان بات أكثر تعقيداً؛ حيث تظل نتيجة المعركة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي امتدت إلى الخرطوم وغيرها من المراكز الحضرية، غير مؤكدة. علاوةً على ذلك، اتخذت الحرب الأهلية بعداً عرقياً في غرب السودان، وخاصةً في دارفور؛ فهناك يتصاعد الصراع، وتتحول التوترات الكامنة العميقة إلى العنف مرة أخرى.

صراعات الإقليم

يطرح التقرير عدداً من الأبعاد الرئيسية للصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1– قدرة النظام السوري على تجاوز العزلة الإقليمية: على الرغم من الضغوط والنداءات الغربية، أدركت الدول العربية أهمية تقبل وجود الرئيس السوري "بشار الأسد" وسياسته، وهو ما وضعها أمام خيار صعب؛ إما الاعتراف بالعلاقات مع سوريا و"الأسد" وإعادة تأسيسها دون أي ضمان لمعاملة متبادلة، وإما الاستمرار في تجميد نظامه باعتبار ذلك جزءاً من سياسة لم تنتج النتائج المرجوة على الرغم من مرور أكثر من عقد من المحاولة.

ومن هذا المنطلق، رحبت جامعة الدول العربية بعودة الرئيس السوري "بشار الأسد" إلى قمتها السنوية في مايو 2023، فضلاً عن تحسن العلاقات السورية ببعض الدول؛ حيث تطرق الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إلى تطبيع العلاقات مع النظام السوري.

2– المأزق السياسي المتواصل في ليبيا: لا تزال ليبيا في مأزق سياسي مع تقسيم البلاد بين الحكومتين المتنافستين: حكومة الوحدة الوطنية ومقرها طرابلس، وحكومة الوفاق الوطني المتمركزة في بنغازي وسرت، وساعد على تفاقم الخلافات دور الأطراف الخارجية المتداخلة في الصراع.

3– تصاعد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني: ظلت الأوضاع في المنطقة مستقرة نسبياً، إلى أن شهد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تصعيداً ملحوظاً في التوترات والقتال، منذ بدء هجمات حركة حماس، وكذلك عنف المستوطنين الإسرائيليين، الذي زاد للعام السادس على التوالي في عام 2022؛ حيث شهد عام 2022 أعمال عنف في الضفة الغربية لم تشهدها منذ عام 2005، في حين أن تفاقم الوضع مع أعمال العنف في عام 2023 كان بسبب الحكومة الإسرائيلية بقيادة رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو"، التي واصلت بناء المستوطنات، ومحاولاتها لتعزيز السلطة التنفيذية على حساب القضاء.

4– تزايد التوترات بين تركيا والأكراد: في نوفمبر وديسمبر 2022، في أعقاب تفجير في إسطنبول، اتهمت تركيا حزب العمال الكردستاني بتنفيذ التفجير، وأمر "أردوغان" بشن غارات جوية على مدى أسابيع ضد المواقع الكردية في شمال سوريا؛ ما أسفر عن مقتل أكثر من 100 شخص، فيما ردت قوات سوريا في البداية بوقف جميع العمليات المشتركة ضد داعش مع الولايات المتحدة، على الرغم من تراجعها لاحقاً.

وفي الوقت نفسه، يسعى "أردوغان" أيضاً إلى ترحيل ما يقدر بنحو 3.6 مليون لاجئ سوري في تركيا، وبالمثل ربطت أنقرة صراع تركيا مع حزب العمال الكردستاني بقضايا دولية أوسع، وخاصةً جهود فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، في أعقاب التدخل الروسي في أوكرانيا طوال عام 2022. حذرت تركيا فنلندا عدة مرات من أنها بحاجة إلى اتخاذ خطوات ملموسة "للحد من أنشطة حزب العمال الكردستاني على أراضيها قبل أن توافق أنقرة على دعم طلبها للحصول على عضوية الناتو".

وفي أواخر مارس 2023، صوَّت البرلمان التركي في النهاية بالموافقة على انضمام فنلندا إلى الناتو على الرغم من أن "أردوغان" كرر أن السويد يجب أن تفعل المزيد قبل أن توافق تركيا على انضمامها إلى الحلف.

5– استمرار تأثير الانقسامات الطائفية في المنطقة: لا تزال التوترات العرقية والطائفية، بحسب التقرير، محركات هامة للصراعات الإقليمية وعدم الاستقرار؛ ففي العراق، لا تزال القضايا الطائفية تؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن داخل البلاد، وهو ما برز بسبب التوترات المتزايدة داخل الطائفة الشيعية في العراق، لا سيما بين أتباع "مقتدى الصدر" الذي انسحب من البرلمان في يونيو 2022، وأعضاء إطار التنسيق الشيعي المدعوم من إيران. وفي أغسطس 2022 اخترق أتباع "الصدر" المنطقة الخضراء، واشتبكوا مع عناصر المجلس الأعلى، وقُتل أكثر من 30 شخصاً في القتال.

وفي سوريا واليمن تواصل الأقليات الشيعية: العلويون في الأولى والزيديون في الثانية، القتال ضد السنة الأكثر عدداً. وفي كلا البلدين، تحدد الهوية الطائفية سياسات الفرد إلى حد كبير، كما يظل الصراع بين تركيا والأكراد، وبين الإسرائيليين والفلسطينيين في جوهره، صراعات عرقية أثبتت أنها مستعصية على الحل إلى حد كبير لعقود من الزمن.

6– هشاشة المؤسسات في بعض الدول: عُرف الشرق الأوسط تاريخياً بهشاشة مؤسسات الغالبية العظمى من دوله، ولكن ربما لم تكن المؤسسات الإقليمية في أي وقت آخر من التاريخ الحديث هشة كما كانت خلال العقدين الماضيين. وقد تفاقمت هذه الهشاشة وتوسعت بدورها النزاعات الجارية في المنطقة. ولعل النموذج الأبرز على ذلك اليمن وليبيا؛ حيث انهارت المؤسسات في الدولتين، كما أصبحت المؤسسات، وخاصةً في ليبيا في حالة المؤسسات التي تتحكم في الموارد مثل النفط، جوائز سياسية تستخدمها الجهات الفاعلة لمعاقبة أعدائها.

7– تزايد التنافس الجيوسياسي في المنطقة: مثلت الأهمية الجيوسياسية للمنطقة مصدراً للتنافس المتزايد بين القوى العظمى، وهو ما تجلى في التنافس بين الولايات المتحدة والصين. وقد ساهمت حرب روسيا وأوكرانيا في التأثير على مسارات الصراع في المنطقة. ويتجلى التأثير بشكل أوضح في سوريا؛ حيث تحركت روسيا لتوحيد قواتها، وسيطرت على مقاتلي مجموعة "فاجنر" في البلاد بعد محاولة التمرد في يونيو 2023 على يد "يفجيني بريجوجين". ومن غير الواضح ما الذي سيعنيه هذا بالنسبة إلى القوات الروسية في سوريا، أو إذا ما كان الرئيس "فلاديمير بوتين" سيكون قادراً على استيعاب قوات فاجنر في الجيش الروسي.

وتنشط الصين بشكل متزايد على الجبهتين الدبلوماسية والاقتصادية، مستفيدةً من وعود التنمية والقوة الاقتصادية في رأس المال السياسي؛ ففي مارس 2023 أعلنت الصين أنها توسطت في اتفاق بين السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهو ما اعتبره الكثيرون خطوة أولى نحو إنهاء الحرب في اليمن. وقد يساعد الحد من التوترات بين المملكة العربية السعودية وإيران أيضاً على استقرار الصراع في سوريا.

ويبدو أن بكين تريد أن تقدم لدول المنطقة بديلاً للولايات المتحدة. من خلال القيام بذلك، يعتقد الرئيس "شي جين بينج" أن الصين ستكون في موقف أقوى في مواجهة الولايات المتحدة. وتهتم الصين بوجه خاص بحماية إمداداتها النفطية من الشرق الأوسط.

إشكاليات آسيوية

تشكل الصراعات القائمة في القارة الآسيوية تحدياً كبيراً للأمن الإقليمي والعالمي؛ حيث تتشابك وتتعقد العوامل المساهمة في تشكيلها، كما تتميز بوجود شبكة كبيرة من الجماعات المسلحة، فضلاً عن التدخل الدولي لقوى كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين. ومن هذا المنطلق، يمكن تناول اتجاهات الصراعات في آسيا من خلال ما يلي:

1– ارتدادات انعدام المساواة الاجتماعية وتهميش الأقليات: يعد انعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية من أهم محركات النزاعات في القارة الآسيوية؛ حيث يشكل الفقر وضعف مستوى التعليم دافعاً ومحركاً قوياً للأفراد للانضمام إلى الجماعات المسلحة، والمطالبة بتحقيق العدالة بأسلوب مسلح. وتهدف عمليات تجنيد الحركات المسلحة في الهند وباكستان والفلبين إلى تقديم المنافع لتجنيد الفقراء الذين يعانون من أوضاع اجتماعية متردية.

وعلى صعيد آخر، فإن تعرض الأقليات للتهميش من خلال السماح بعمليات الهجرة الداخلية للأغلبية العرقية إلى مناطق تركز الأقليات أو منح عقود للشركات المتعددة الجنسيات في مناطق الأقليات، أشعل ثورة المقاومة للدفاع عن حقوقهم الاقتصادية. وقد لعبت الشركات الصينية، بحسب التقرير، دوراً في هذا الصدد؛ حيث تسببت مشروعات مثل الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني، والممر الاقتصادي بين الصين وميانمار في تأجيج المقاومة في باكستان وميانمار.

2– تأثير نشاط الاقتصادات غير المشروعة: تسببت تجارة المخدرات في أفغانستان بوجه خاص في تأجيج الصراعات على مدار عقود؛ نظراً إلى ما توفره من تمويل للجماعات المسلحة، إلا أنه مع صعود طالبان إلى الحكم تراجعت معدلات الاتجار في المخدرات. وتؤكد التقارير انخفاضاً يقدر بـ99% في زراعة الخشخاش بإقليم "هلمند"، وقد لاقى هذا التقدم الملحوظ إشادة أمريكية بجهود طالبان.

3– تكلفة التغيرات المناخية والنزاعات على الحقوق المائية: أدت الكوارث الطبيعية الناجمة عن التغير المناخي إلى تعرض النازحين لظروف اقتصادية واجتماعية مُزرية، شكلت دافعاً لسهولة استقطاب الجماعات الإرهابية لهم. وعلى سبيل المثال، تعرضت باكستان لفيضانات عارمة في صيف 2022 أسفر عنها نزوح ما لا يقل عن 33 مليون شخص من "خيبر باختونخوا"، والسند الداخلية، وريف البنجاب وأجزاء من بلوشستان إلى المدن الباكستانية الكبرى.

وفيما يتعلق بالنزاعات المائية، شكَّل النزاع حول استخدام أنهار السند وتشيناب وجيلوم أحد محركات الصراع بين باكستان والهند حول كاشمير، وعلى نحو مماثل تسبب النزاع الإيراني الأفغاني حول نهر "هلمند" إلى تصعيد الخلافات بين البلدين ووصل إلى حد نشوب حوادث إطلاق نار بين القوات الإيرانية والأفغانية عبر الحدود.

4– معضلة التدخلات الدولية والدور الصيني: أثبتت التدخلات الأمريكية وتدخل قوات الناتو فشلاً ذريعاً في تهدئة التوترات في القارة الآسيوية، وعلى نحو خاص أدت هذه التدخلات في أفغانستان إلى تأجيج الصراع وتسارع وتيرة تدويله. وقد أدركت القيادة السياسية الهندية مخاطر تدويل الصراعات الإقليمية، وعارضت تدويل النزاع في كشمير منذ 2019.

وفيما يتعلق بالصين، فإن دور بكين يحضر بقوة في كافة النزاعات الآسيوية تقريباً؛ وذلك بالأساس لحماية مصالحها الاقتصادية وتأمين أي أخطار قد تنجم عن الصراعات الإقليمية في الدول المجاورة لها؛ فقد تدخلت الصين عبر إجراء حوار ثلاثي مع باكستان وأفغانستان للوساطة بينهما، كما توسطت في مفاوضات السلام بين الجيش الوطني في ميانمار والمنظمات المسلحة العرقية، وتحتفظ الصين بسفارة في أفغانستان؛ وذلك في الأساس لرغبتها في احتواء حركة تركستان الشرقية الإسلامية، والاستفادة من الفرص الاستثمارية المستقبلية.

5– انتشار الجماعات الإرهابية العابرة للحدود: تثير منطقتا جنوب وجنوب شرق آسيا مخاوف دولية متصاعدة؛ نظراً إلى تركز الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، التي بايع معظمها تنظيم "داعش". وتتزايد المخاوف في ظل تقلد طالبان السلطة في 2021، فضلاً عن نشاط حركة طالبان الباكستانية، التي تتخذ من الأراضي الأفغانية منطلقاً لتحركاتها ضد باكستان.

وتتورط الجماعات الإرهابية في الصراعات المختلفة بآسيا؛ إما لأسباب دولية أو عابرة للحدود مثل: تنظيمي القاعدة وداعش، أو لأسباب محلية وعادة ما تكون تلك الجماعات قائمة، على أساس عرقي أو ديني، مثل الجماعات الإسلامية في كاشمير، وجبهة "ملايو باتاني" الثورية الوطنية في جنوب تايلاند، والحركات الانفصالية البلوشية في باكستان، والمنظمات العرقية المسلحة في ميانمار. وتستهدف الجماعات الأخيرة بالأساس تحقيق أهداف لا تتجاوز حدود البلدان التي توجد فيها وفي أغلب الأحيان يكون نشاطها محدوداً في منطقة بعينها دون التوسع إلى الدول المجاورة.

6– بقاء احتمالات التصعيد في ميانمار وباكستان: ترتفع احتمالات التصعيد في ميانمار في ظل احتدام الصراع بين المجلس العسكري والمنظمات العرقية المسلحة الداعمة للديمقراطية، خاصة في أعقاب فشل الوساطة الصينية في الحد من التوترات بين الأطراف المتنازعة، كما تشهد باكستان احتمالاً مرتقباً لتسارع وتيرة التصعيدات من جانب حركة طالبان الباكستانية، خاصة في ظل إنهاء وقف إطلاق النار بين القوات المسلحة الباكستانية وتنظيم ولاية "خراسان" التابع لتنظيم داعش. ويفاقم من خطر التصعيد في باكستان تراجع الاقتصاد الباكستاني وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها البلاد والتي قد تكون موضع توظيف الجماعات المسلحة فيحدث المزيد من التصعيدات.

7– احتمالية تقدم مفاوضات السلام في الهند وتايلاند وأفغانستان: تمكنت مفاوضات السلام من تقليل حدة النزاعات في عدة مناطق؛ فعلى سبيل المثال، وقعت الحكومة في شمال شرق الهند اتفاقيات السلام مع ثماني جماعات مسلحة قبلية مقرها ولاية "آسام"، تضمنت جبهة "زيليانجرونج" المتحدة، والمجلس الوطني الاشتراكي في "ناجاليم".

وفي تايلاند، عملت جبهة "ملايو باتاني" الثورية الوطنية على إقناع الجماعات المسلحة الأخرى بالمشاركة في مفاوضات لإقرار السلام. وفي أفغانستان، أثبتت الفصائل المسلحة فشلاً في زعزعة حكم طالبان؛ حيث تمكنت الحكومة من 2021 من توطيد دعائم حكمها بالدرجة التي تجعل من غير المتوقع نشوب حرب أهلية وتفاقم مستويات العنف في البلاد في المستقبل القريب.

8– إمكانية تفاقم حدة الصراعات الإقليمية: يعد الصراع بين باكستان والهند، والصراع بين الولايات المتحدة والصين في مضيق تايوان من أكثر الصراعات خطورة وأكثرها قابلية للتحول إلى حرب، ويكاد يجزم البعض بأن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يُشجع الصين على تبني الخطوة نفسها إزاء تايوان، وهو ما سيستوجب رداً دولياً يفاقم التوترات في المنطقة، خاصة في ظل المناورات العسكرية الصينية بالقرب من مضيق تايوان، وتلويح بكين بالقدرة على التصعيد.

ومن ناحية أخرى، تسارعت وتيرة تدويل الصراع في ميانمار في ظل جهود الوساطة الصينية والعقوبات الأمريكية؛ ما ينذر بالمزيد من احتمالات التصعيد. فضلاً عن ذلك، تثير الجماعات المسلحة العابرة للحدود بين باكستان وأفغانستان الكثير من المخاوف الإقليمية، وتهدد بتصعيد عسكري في العلاقات بين البلدين. وعلى النقيض من ذلك، فإن الصراعات الداخلية في الهند والفلبين وتايلاند، لا تشكل تهديداً للأمن العالمي أو حتى الإقليمي بأي شكل في المستقبل القريب، بل تقتصر آثارها على المستوى المحلي فحسب.

تحديات أوراسيا

يكشف استقراء طبيعة الصراعات في أوراسيا عن عدد من الاتجاهات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– استمرار تأثير الصراعات الحدودية: كان عدم وجود حدود مقبولة ومشروعة من قبل الدول التي تشترك فيها هو المحرك المتكرر للصراع في المنطقة؛ فعلى سبيل المثال، في حالة الصراع بين قيرغيزستان وطاجيكستان، يرجع ذلك إلى أنه تم ترسيم نصف حدودهما فقط منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، كما تؤدي النزاعات حول الوصول إلى مصادر المياه المشتركة إلى تفاقم التوترات.

وفي حالة الاضطرابات في أوزبكستان، فإن القضية هي الحدود الداخلية؛ فقد اندلع الصراع بسبب قرار طشقند بالانسحاب، دون إجراء مشاورات فعالة، من الحكم الذاتي الدستوري الذي كانت تتمتع به كاراكالباكستان. وفي حالة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد تم قبول الحدود بين الدولتين باعتبارها شرعية من قبل البلدين، ولكن بعد عقدين من الزمن، قامت روسيا بمراجعة موقفها، وتوقفت عن احترام هذه الحدود الدولية، وسعت إلى احتلال أوكرانيا.

2– سعي روسيا إلى الضغط على الغرب: يهدف النصر الذي كان بوتين يأمل تحقيقه من خلال الهجوم على أوكرانيا في عام 2022 أيضاً إلى إبراز القوة الروسية في أوروبا للضغط من أجل إجراء مراجعة كبيرة للنظام الأمني الأوروبي. وهذا يستلزم، على وجه الخصوص، التراجع الفعلي عن توسعة الناتو في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وقد عكست معاهدتان مقترحتان مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، صاغتهما وزارة الخارجية الروسية بناءً على طلب بوتين في ديسمبر 2021، هذه الطموحات.

3– المساندة التركية المتواصلة لأذربيجان: تشكل السياسة التركية واحدة من أهم محددات الصراعات في المنطقة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك الدعم التركي العسكري المتواصل لأذربيجان، الذي يشمل المعدات والتدريب، وهو الدعم الذي كان أساسياً في حرب أذربيجان في ناجورنو كاراباخ، وساعدها في إلحاق الهزيمة بالقوات الأرمينية.

4– انعكاسات حرب أوكرانيا الحادة على مولدوفا: لا تزال مولدوفا، التي تشترك في حدود طولها 1200 كيلومتر مع أوكرانيا، تعاني من الاضطرابات الناجمة عن الحرب، مثل تحليق الصواريخ الروسية فوقها. وبحسب التقرير تحاول روسيا، التي يربطها علاقات تحالف مع القوى الانفصالية الحاكمة لمنطقة ترانسنيستريا في مولدوفا، زعزعة استقرار البلاد، بما في ذلك خفض إمدادات الطاقة وارتفاع الأسعار. وفي فبراير 2023، استقالت رئيسة وزراء مولدوفا ناتاليا جافريليتا، مشيرة إلى "الأزمات المتعددة" التي تسببت فيها تصرفات روسيا. وقد أعلنت الرئيسة مايا ساندو أن روسيا تخطط للإطاحة بالحكومة من خلال تنظيم احتجاجات عنيفة.

5– تغير التفكير الأمني الغربي بعد حرب أوكرانيا: لقد أحدثت الحرب الأوكرانية تحولاً في التفكير والتنظيم الأمني الغربي؛ ففي قمته التي انعقدت في يونيو 2022 في مدريد، تبنى الناتو مفهوماً استراتيجياً جديداً، ودعا فنلندا والسويد للانضمام إلى الحلف. وقد فعلت فنلندا ذلك منذ ذلك الحين، ووقعت جميع الدول الأعضاء في حلف الناتو على بروتوكول انضمام السويد؛ ففي قمة فيلنيوس لعام 2023، التزم أعضاء الناتو بتقديم المزيد من الدعم لأوكرانيا، وأنشأت دوله مجلساً جديداً بين الناتو وأوكرانيا، واتفقت على أنها ستكون في وضع يسمح لها بتوجيه دعوة إلى أوكرانيا للانضمام إلى التحالف عندما يوافق الحلفاء ويتم استيفاء الشروط.

6– تأثر الاقتصاد العالمي سلباً بالحرب الأوكرانية: كان للحرب عواقب اقتصادية كبيرة، فضلاً عن عواقب أمنية. وفي معظم عام 2022، أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الطاقة. كما استمرت القيود المفروضة على الصادرات الأوكرانية بسبب سيطرة روسيا على البحر الأسود، على الرغم من الاتفاق على السماح ببعض الشحنات إلى الأسواق العالمية، في تضخم أسعار المواد الغذائية. وأدى قرار روسيا في يوليو 2023 بعدم تجديد مبادرة حبوب البحر الأسود إلى ارتفاع فوري في الأسعار وهدد بوضع المجتمعات الفقيرة تحت مزيد من الضغوط.

وفي سياق ذي صلة، فرض الغرب وحلفاؤه عقوبات واسعة وقيوداً تصديرية على موسكو، بما في ذلك تدابير جديدة، مثل الحد الأقصى لأسعار مجموعة السبع الذي فرضته على صادرات النفط الخام الروسية في ديسمبر 2022 وعلى المنتجات النفطية في فبراير 2023.

وتركز التدابير الأحدث، ولا سيما حزمة العقوبات الحادية عشرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي، والتي تم اعتمادها في يونيو 2023، على عرقلة تحايل روسيا على العقوبات، وخاصة عن طريق إغلاق طرق الاستيراد عبر دول ثالثة. ومن ثم، فإن الأخيرة تواجه تدقيقاً أكبر وعقوبات محتملة.

7– تنامي تعقيدات مسار تسوية الحرب الأوكرانية: يفترض التقرير أن هناك تحديات وتعقيدات عديدة تواجه مسار تسوية الحرب الأوكرانية؛ حيث لا يزال الجانبان متباعدين بشأن أي شروط سلام محتملة؛ إذ تطالب روسيا أوكرانيا بقبول "الواقع الإقليمي الجديد" لاحتلالها الحالي باعتبار ذلك شرطاً مسبقاً لمفاوضات السلام، في حين تصر أوكرانيا على إعادة جميع الأراضي داخل حدودها المعترف بها دولياً.

بالإضافة إلى ذلك، ليس هناك ما يشير إلى أن روسيا قد تخلت عن الهدف الأساسي الأولي لغزوها، وهو إخضاع أوكرانيا. ومن ثم ليس هناك ما يضمن أن اتفاق السلام الذي يعترف بسيطرة روسيا على المناطق التي تحتلها حالياً سيمثل نتيجة مستقرة، وليس مقدمة لمزيد من العدوان.

علاوة على ذلك، فإن النهاية الحقيقية للحرب، وليس وقف إطلاق النار المؤقت، سوف تتطلب حل مجموعة من القضايا السياسية والقانونية والاقتصادية والأمنية الأوسع. وتشمل هذه مسألة الضمانات الأمنية ومدفوعات التعويضات لأوكرانيا، والمساءلة عن جرائم الحرب، وعودة المواطنين الأوكرانيين الذين تم ترحيلهم إلى روسيا، والشروط التي بموجبها سيتم رفع العقوبات المفروضة على روسيا. ومن ثم فإن التوصل إلى تسوية ما بعد الحرب يتطلب عملية دبلوماسية معقدة.

8– تعدد سيناريوهات العمليات العسكرية في أوكرانيا: يشير التقرير إلى أن مسار العمليات العسكرية في أوكرانيا يمكن أن يرتهن بثلاثة سيناريوهات؛ أولها تصعيد العنف وزيادة الموارد الروسية المستخدمة في الحرب؛ إذ يمكن أن تزداد كثافة الحرب إذا حولت روسيا المزيد من إمكاناتها البشرية والمادية إلى قوة عسكرية قابلة للاستخدام؛ فحتى الآن، قام النظام بالموازنة بين تعبئة الموارد والحاجة إلى الحفاظ على السيطرة الداخلية، وسعى إلى تجنب فرض ضغوط مفرطة على النخب والجمهور الأوسع؛ الأمر الذي قد يهدد الاستقرار.

وكما أظهرت محاولة تمرد مجموعة فاجنر في يونيو 2023، فإن المتشددين الأمنيين يضغطون من أجل تكثيف المجهود الحربي. وإذا نجحوا في تحقيق مرادهم، فسوف تقوم روسيا بالتعبئة على نحو أكبر بكثير، ولكنها من المرجح أيضاً أن تفرض قمعاً داخلياً أشد قسوةً، وربما تغلق حدود روسيا لمنع هروب المواطنين الذين يتجنبون التجنيد الإجباري. وعندها ستواجه الدول التي تدعم أوكرانيا خيار تصعيد المساعدة العسكرية رداً على ذلك.

أما السيناريو الثاني فهو التصعيد الأفقي للحرب؛ حيث يمكن لروسيا التصعيد أفقياً من خلال الهجمات على الأصول الغربية. وقد أدت سلسلة من الهجمات غير المبررة على البنية التحتية تحت سطح البحر إلى زيادة هذا القلق. وهناك مخاوف أيضاً من أن روسيا قد تختبر عزيمة حلف الناتو من خلال استكشاف الحدود مع أعضاء الناتو؛ فعلى سبيل المثال، في يوليو 2023، انتهكت طائرات الهليكوبتر البيلاروسية المجال الجوي البولندي وسط تقارير تفيد بأن بيلاروسيا تستعد لإرسال موجة من المهاجرين عبر الحدود، كما فعلت في عام 2021.

بينما يشير السيناريو الثالث إلى التصعيد العمودي للحرب؛ إذ يمكن لروسيا التصعيد عمودياً باستخدام أسلحة الدمار الشامل، وخاصة الأسلحة النووية التكتيكية، كما هددت منذ بداية غزوها. ونظراً إلى المخاطر التي قد تتعرض لها روسيا نتيجة لذلك، فإن احتمالات مثل هذا الاستخدام منخفضة، ولكن لا يمكن استبعادها بالكامل. وهناك أيضاً مخاوف من أن تلجأ روسيا إلى خيار نووي أصغر حجماً، ولكنه يظل خطيراً للغاية؛ وذلك من خلال تدمير محطة زابوريجيا للطاقة النووية، وهو ما قد يؤدي إلى تعريض الأراضي المحيطة بها للإشعاع.

صراعات الأمريكتين

يواصل تقرير مسح النزاعات المسلحة 2023 تصوير عالم تهيمن عليه الصراعات المستعصية على نحو متزايد والعنف المسلح وسط تكاثر الجهات الفاعلة والدوافع المعقدة والمتداخلة والتأثيرات العالمية، وهو ما ظهر في ظل النزاع المسلح في الأمريكتين، وهو ما يستعرضه التقرير على النحو الآتي:

1– التأثير السلبي لتفشي الفساد وضعف الحكومات: خلق ضعف الدولة والفساد المستشري والعيوب المؤسسية التي تفاقمت، بحسب التقرير، بيئة مواتية لإنشاء وتوسع الجماعات المسلحة من غير الدول عبر الأمريكتين، وخاصة ضعف سيادة القانون في جميع أنحاء المناطق الريفية في كولومبيا، والأحياء المهمشة في أمريكا الوسطى والبرازيل، كما فتحت المناطق الحضرية في المكسيك الطريق أمام ديناميكيات الحكم الإجرامي والاقتصادات غير المشروعة. وتتفاقم الهشاشة المؤسسية بسبب الأنظمة الإجرامية المعيبة بشدة، وخاصة في أمريكا اللاتينية.

2– ارتدادات التفاوت الاجتماعي والاقتصادي في دول أمريكا اللاتينية: يعد انتشار التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والفقر من السمات البنيوية التي ميزت تاريخ أمريكا اللاتينية الحديث؛ الأمر الذي سهل ظهور واستمرار بؤر عدم الاستقرار؛ حيث تعد أمريكا اللاتينية واحدة من أكثر المناطق غير المتكافئة في العالم من حيث الدخل، والأكثر تفاوتاً من حيث تركز رأس المال؛ حيث يسيطر 10% من السكان على 77% من إجمالي ثروة الأسر.

وفي عام 2022، بلغت نسبة سكان المنطقة الذين يعيشون على خط الفقر 32.1%، ويعيش 13.1% في مستوى الفقر المدقع. وتؤدي هذه العوامل إلى تضخيم جاذبية الاقتصادات غير المشروعة المربحة، وخاصة بالنسبة إلى الشباب، الذين غالباً ما يكونون من الفئات الأكثر ضعفاً من السكان الذين يعانون من أعلى مستويات البطالة في العالم؛ حيث إن العنف الناجم عن الجريمة المنظمة، هو السبب الرئيسي لوفاة الذين تقل أعمارهم عن 24 عاماً في أمريكا اللاتينية.

3– تفاقم الأزمات في هاييتي: يشير التقرير إلى أن الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والإنسانية في هاييتي خرجت، بشكل أو بآخر، عن نطاق السيطرة، مع تسجيل أحداث العنف والوفيات زيادة بنسبتي 22% و100% (على التوالي) على أساس سنوي، مع ضآلة الأمل في التحسن وسط خطوات خجولة نحو التدخلات الخارجية لتحقيق الاستقرار في البلاد.

على الرغم من أن ديناميكيات العنف في هاييتي تظل محلية إلى حد كبير، فإن الانهيار الذي لا يمكن وقفه للدولة والعصابات المتزايدة القوة في البلاد يحذر من أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تنجم عن عيوب الحكم والضعف المؤسسي.

ومن غير المرجح إحراز أي تقدم ملموس في حل الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية الكبرى في هاييتي على المدى القريب؛ حيث إن الاهتمام الدولي بالتدخل ضئيل، ومن المحتمل أن يؤدي العنف وانهيار هياكل الدولة في البلاد إلى المزيد من الهجرة وامتداد عدم الاستقرار إلى البلدان المجاورة (وخاصة جمهورية الدومينيكان) والأمريكتين ككل على خلفية سياسات الهجرة التقييدية في الولايات المتحدة. وعليه سوف يستمر ارتفاع تدفقات الهجرة بسبب عدم الاستقرار في فنزويلا وأمريكا الوسطى ومنطقة البحر الكاريبي (بما في ذلك هاييتي وكوبا).

4– تزايد العنف وعدم الاستقرار في الإكوادور: إن العنف المستمر وعدم الاستقرار في الإكوادور التي كانت هادئة ذات يوم، الذي تركز على مدينة جواياكيل الساحلية ومنطقة الحدود بين الإكوادور وكولومبيا، هو مثال على التداعيات الواسعة النطاق للنفوذ المتصاعد للمنظمات الإجرامية العابرة للحدود الوطنية في هذه المنطقة.

وفي حين استخدمت هذه المنظمات لسنوات المناطق الساحلية في الإكوادور والحدود التي يسهل اختراقها، فضلاً عن الوجود الكبير للجماعات المنشقة العنيفة التابعة للقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، لتسهيل تهريب الكوكايين، فإن هذه المنظمات ظلت لفترة طويلة قائمة.

وفي هذا الصدد، أصبحت موانئ الإكوادور غير الآمنة نسبياً، التي كان الكثير منها بمنزلة مراكز صيد تجارية لفترة طويلة، ذات أهمية متزايدة. على سبيل المثال، أصبحت المناطق المحيطة بميناءي مانتا وإزميرالداس مناطق انطلاق رئيسية للكوكايين المنتج على الجانب الكولومبي من الحدود والمخزن على الجانب الإكوادوري في سنتروس دي أكوبيو (مراكز تخزين ضخمة) بالقرب من قناة بنما.

9– تعقد محتمل لعمليات السلام الشامل في كولومبيا وفنزويلا: تواجه عملية "السلام الشامل" في كولومبيا، التي تنطوي على مفاوضات سلام متزامنة مع جميع الجماعات الإجرامية النشطة في البلاد، وكذلك مساعي تحقيق الاستقرار والمصالحة في فنزويلا، بعض التحديات في ضوء التقدم الضئيل على طاولة المفاوضات في كلتا الدولتين.

بالرغم من أن تفاوض الحكومة مع المعارضة في فنزويلا سيكون مهماً لنجاح سياسة "السلام الشامل" ولإزالة بؤرة عدم الاستقرار الدائمة في المنطقة، فإن المفاوضات التي بدأت في عام 2021، بين الرئيس الفنزويلي "نيكولاس مادورو" ومعارضته السياسية من أجل إيجاد طريق لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في عام 2024، قد وصلت إلى طريق مسدود منذ استئنافها في نوفمبر 2022، كما فشلت القمة التي دعا إليها الرئيس الكولومبي "جوستافو بيترو" في أبريل 2023 في حل الأزمة.

وعلى الرغم من تعقد الأمر فإنه ما زال هناك اهتمام بحل أزمة فنزويلا، وهو ما تجلى في استعداد الرئيس الأمريكي "جو بايدن" لرفع العقوبات عن نظام "مادورو"، بشرط اتخاذ خطوات حقيقية نحو إجراء انتخابات حرة في فنزويلا. وفي سياق متصل، تواجه خطة الرئيس الكولومبي "بيترو" الكبرى العديد من الرياح المعاكسة على الجبهتين المحلية والدولية، بما في ذلك اقتراب الانتخابات العامة الأمريكية في نوفمبر 2024، التي قد تصرف انتباه "بايدن" بعيداً عن أمريكا اللاتينية.

10– تأثير تجارة المخدرات على العلاقات المكسيكية الأمريكية: بالرغم من جهود المكسيك للتضييق على تجارة المخدرات، فإن هذه القضية تؤثر بشكل كبير على مسار العلاقات المكسيكية الأمريكية؛ حيث شهدت العلاقات الدبلوماسية والأمنية توتراً متزايداً مع الولايات المتحدة؛ حيث يتحول الاتجار في الفينتانيل والطوارئ الصحية المرتبطة به بسرعة إلى قضية أمن قومي في الولايات المتحدة، وخاصة مع زيادة الوفيات بسبب الجرعات الزائدة، وكذلك أعمال العنف المرتبطة بالاتجار في المخدرات بالمكسيك.

11– التكريس لحالة الطوارئ في السلفادور: يبدو أن الحملة الأمنية التي شنتها حكومة الرئيس "نجيب بوكيلي" على العصابات في السلفادور منذ مارس 2022 قد حققت تهدئة هشة في البلاد، مع انخفاض مستويات العنف إلى مستويات قياسية واستعادة الدولة السيطرة على معظم أراضيها.

ويشير استمرار حالة الطوارئ، التي تم إعلانها في مارس 2022 لمدة 30 يوماً ويتم تجديدها كل شهر منذ ذلك الحين، وافتتاح سجن ضخم جديد، إلى أن موقف "بوكيلي" لن يتغير على المدى القصير إلى المتوسط، على الرغم من القيود المحدودة للغاية على مستوى الموارد المالية العامة.

وعلى الرغم من أن هذا النهج كان فعالاً بلا شك في الحد من العنف في الأمد القريب، واكتسب العديد من المؤيدين في أمريكا الوسطى وخارجها، فإن تعليق الحقوق الدستورية والاعتقالات الجماعية لم يفعل الكثير للحد من التراجع الديمقراطي والمؤسسي في البلاد. علاوة على ذلك، أثار هذا سؤالاً أكثر عموميةً حول إذا ما كان تقويض حقوق الإنسان بمنزلة مقايضة مقبولة للحد من انعدام الأمن.

خلاصة القول أن الصراعات القائمة في أقاليم العالم المختلفة تدلل على درجة هائلة من التعقيدات في ظل التفاعل بين العوامل الداخلية للدول، على غرار الأوضاع الاقتصادية والمكونات المجتمعية والعرقية للدولة، وكذلك العوامل الخارجية المتعلقة بطبيعة العلاقات بين دول الإقليم وقدرة شبكات الجريمة على التشبيك فيما بينها والتحرك بحرية أكبر في أكثر من منطقة، ناهيك عن تأثيرات التنافس الجيوسياسي على النفوذ بين القوى الدولية.

اتجاهات الصراعات المسلحة في أقاليم العالم 2023