إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

اجتمع المئات من خبراء مجتمع الأمن والدفاع العالمي في سنغافورة خلال الفترة من 31 مايو إلى 2 يونيو 2024 للمشاركة في حوار شانجريلا، الذي يُعَد بمنزلة القمة الدفاعية الأهم في آسيا. هذا وقد اكتسب المنتدى الذي يعقده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية زخماً إضافياً هذا العام، واهتماماً كبيراً من أوساط السياسيين والمحللين؛ وذلك لتضافر عدة عوامل على الصعيدَين العالمي والإقليمي الآسيوي، جعلت انعقاده بمنزلة المنصة التي يمكن من خلالها توحيد الرؤى بشأن تهديدات بنية النظام العالمي، لا سيما في ضوء استمرار الصراعات على الساحة الدولية، وخاصةً في أوكرانيا وغزة، ناهيك عن مواصلة التنافس بين الصين والولايات المتحدة والدول الغربية، في منطقة الهندوباسيفيك وتأثيراته الجيوسياسية.سياقات معقدةخلال النسخة الحالية من حوار "شانجريلا"، ساهمت عدة عوامل – بعضها ظرفي والآخر هيكلي – في إكساب المؤتمر زخماً كبيراً، لعل أهمها:1– تصاعد حدة التنافس الأمريكي الصيني: يأتي انعقاد المؤتمر في ظل ارتفاع حدة التراشق بين واشنطن وبكين في الفترة الأخيرة؛ وذلك عقب فترة هدوء نسبي في العلاقة بدأت منذ زيارة بلينكن إلى بكين في يونيو 2023، ومبادلة وزير الخارجية الصيني "ونج يي" هذه الزيارةَ برحلة إلى واشنطن في أكتوبر 2023؛ وذلك قبل عقد لقاء قمة مرتقب بين الرئيسين الأمريكي والصيني في "وودسايد" كاليفورنيا، على هامش استضافة الولايات المتحدة قمة منتدى التعاون في آسيا والمحيط الهادئ في نوفمبر 2023، وكذلك زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى الصين في شهر أبريل 2024.&nbsp;وبالرغم من تعزيز وتيرة التعاون بين البلدين في عدد من المجالات عقب هذه اللقاءات، مثل المخدرات الاصطناعية والتواصل العسكري، فإن المناوشات الأخيرة بين الصين والفلبين في بحر الصين الجنوبي، والعقوبات الأمريكية الجديدة على شركات التكنولوجيا الصينية، كانت كفيلة برفع درجة التوتر رويداً رويداً، إلى أن وصلت مؤخراً إلى ذروة جديدة عقب المناورات الحربية التي أجرتها الصين حول جزيرة تايوان بعد حفل تنصيب رئيسها الجديد. هذا، ونتيجة لهذا التوتر، كانت الأنظار تتابع عن كثب اللقاء المرتقب بين وزيرَي الدفاع الأمريكي والصيني.2– بزوغ الفلبين كبؤرة توتر جديدة في الهندوباسيفيك: تقليدياً، كانت هناك مناوشات عديدة بين خفر السواحل الفلبيني والزوارق الحربية الصينية نتيجة المناطق البحرية المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، ولكن نتيجةً لحادث إطلاق نار من الزوارق الصينية، وإصابة أفراد من خفر السواحل الفلبيني، في شهر مارس 2024، زادت المخاوف بشأن ما تراه واشنطن "تهديدات صينية" للأمن والاستقرار في بحر الصين الجنوبي، خاصةً مع دولة ترتبط مع واشنطن باتفاقية دفاع مشترك.لذلك عمد الرئيس الفلبيني "ماركوس" إلى تعزيز تحالفه مع واشنطن عن طريق زيارة الولايات المتحدة في شهر أبريل 2024، كما تم الإعلان عن تدشين ممر "لوزون" الاقتصادي في الفلبين ليكون مناوئاً لمبادرة الحزام والطريق الصينية.3–تأكيد التحالفات الآسيوية المتعددة الأطراف: استغلت الولايات المتحدة – حسبما ظهر جلياً في كلمة وزير الدفاع "أوستن" بمنتدى شانجريلا – فرصة عقد المنتدي والتغطية الإعلامية الواسعة له، بإرسال رسائل بشأن سياستها الجديدة في تدشين التحالفات الثلاثية في آسيا وذلك باعتبارها وسيلة جديدة لطمأنة الشركاء وإشراك الحلفاء الأكثر قرباً في ترتيبات الأمن الإقليمي.فعقب تدشين تحالف "أوكوس" الأمني في 2021 الذي جمع واشنطن بأستراليا وبريطانيا لتزويد البحرية الأسترالية بغواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالدفع النووي؛ قامت الولايات المتحدة بتدشين تحالف ثلاثي آخر يجمعها بكل من اليابان وكوريا الجنوبية بعد قمة "كامب ديفيد" بين زعماء الدول الثلاث في أغسطس 2023، ثم آخر يجمعها بكل من اليابان والفلبين في شهر مارس 2024؛ لذلك شكَّل المؤتمر فرصة سانحة لإلقاء الضوء على التحالفات الثلاثية الهامة، والتشديد على التزام واشنطن وطوكيو بشكل أخص بمزيد من الانخراط في ترتيبات الأمن الخاصة بجيرانها في المنطقة.4– استمرار تأثير حرب أوكرانيا في التفاعلات الدولية: منذ 2022، تغيب الوفد الروسي عن حضور المؤتمر؛ نظراً إلى انحيازاته الغربية وفقاً لوجهة نظره. ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، وبالتزامن مع تحقيق الجيش الروسي مزيداً من النجاحات العملياتية، اكتسب المؤتمر زخماً؛ لكونه منصة واسعة النطاق لإعادة حشد دعم مجتمع الأمن والاستخبارات لأوكرانيا، خاصةً ضمن وفود الدول الآسيوية المشارِكة. وقد ركز المؤتمر بالفعل على بعض الأبعاد التي ساهمت في ترجيح كفة روسيا خلال الآونة الأخيرة، ومنها المسيرات المتطورة (القادمة من إيران وغيرها)، وكذلك دعم كوريا الشمالية العسكري لروسيا منذ لقاء رئيسيهما خلال عام 2023، وأخيراً ما وصفته واشنطن بـ"الدعم الصيني للقاعدة الصناعية الروسية" بما مكن الأخيرة من الالتفاف على العقوبات والقيود الصارمة على الصناعات التكنولوجية.5– ترقب المواقف حول الحرب في غزة: بالرغم من عدم كون قضايا الشرق الأوسط هي محل الاهتمام الأساسي لمؤتمر "شانجريلا"، بعكس مؤتمر المنامة الذي يعقده المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن جزءاً كبيراً من الزخم الذي حظيت به الدورة الحالية من الحوار يرجع إلى رغبة المحللين والسياسيين في متابعة مواقف الدول الآسيوية الرئيسية تجاه الأزمة في غزة، خاصةً مع احتمالات تمدد الصراع إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، وما تحتفظ به الأخيرة – خاصة إيران – من علاقات متشابكة مع أقطاب آسيوية مثل الصين وكوريا الشمالية، كما أن المؤتمر شكَّل فرصة لمراقبة مدى اتساق السياسات المعلنة لبعض الدول في مجال حقوق الإنسان؛ ففي حين يتم انتقاد أوضاع حقوق الإنسان في ميانمار وشينجيانج والتبت، عزفت وفود بعض الدول عن توصيف الممارسات الإسرائيلية في غزة بالانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني.مخرجات الحواربعكس الاجتماعات الثنائية والمؤتمرات المتعددة الأطراف التي قد تخرج بوثيقة مخرجات مكتوبة، فإن مخرجات الحوار الأمني تتمثل بالأساس في مجموعة من الدلالات السياسية غير المباشرة، التي يمكن رصد أهمها على النحو التالي:1– رسم الفلبين خطوطاً حمراء أكثر وضوحاً في نزاعات بحر الصين الجنوبي: في ظل تنامي حدة التوتر في بحر الصين الجنوبي، كان من المهم أن تسعى الأطراف الإقليمية إلى رسم خطوط حمراء أكثر وضوحاً في هذا السياق، خاصةً مع ارتباطها باتفاقات دفاع مشترك مع الولايات المتحدة. وقد قام الرئيس الفلبيني "ماركوس" في خطابه الافتتاحي بالإشارة صراحةً إلى أن قتل فرد من عناصر خفر السواحل الفلبيني سيكون فعلاً قريباً جداً من إعلان الحرب؛ وذلك في رسالة ضمنية إلى الصين أن وقوع إصابات فلبينية سابقة من دون رد فعل صارم لا يجب بأي حال أن يشكل مسوغاً لتجربة إحداث أضرار أكبر.2– تمسك الصين بسيادتها في بحر الصين الجنوبي: لقد كانت قضية بحر الصين الجنوبي حاضرة في خطاب وزير الدفاع الصيني بحوار شانجريلا؛ حيث حذر "دونج" من الاستفزازات التي تتعرض لها بالمنطقة، وقال إن "الصين حافظت على ما يكفي من ضبط النفس في مواجهة انتهاكات الحقوق والاستفزازات، لكنَّ هناك حدوداً لذلك". ويبدو أن هذه التصريحات كانت وثيقة الصلة بالموقف الفلبيني من هذه القضية، وكذلك الدعم الغربي المتواصل للفلبين في هذا الشأن.3– الإبقاء على خطوط التواصل العسكري مفتوحة بين واشنطن وبكين: بعث اللقاء الجانبي الذي عُقد بين وزيري الدفاع الأمريكي والصيني برسائل هامة مفادها أنه بالرغم من تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وبكين خلال الآونة الأخيرة، فإن مسؤولي البلدين ما زالوا قادرين على التواصل بشأن القضايا العسكرية الأشد إلحاحاً منعاً لسوء الحسابات، كما يكتسب هذا اللقاء الجانبي دلالة إضافية للجانب الأمريكي، بإثبات إدارة بايدن قدرتها على ضمان هذا التواصل عقب قمة الرئيسين في كاليفورنيا في نوفمبر 2023 مقارنةً بعام 2022 الذي امتنع فيه وزير الدفاع الصيني السابق عن لقاء نظيره الأمريكي في حينها.4– تشديد الصين على ثوابت موقفها في قضية تايوان: استغل وزير الدفاع الصيني "دونج جون" وجوده في المؤتمر لإلقاء كلمة ركزت في الأساس على سياسة الصين تجاه تايوان، باعتبار الأخيرة جزءاً من أراضي البر الرئيسي، وأن أي محاولات انفصالية من القادة السياسيين بالجزيرة ستكون مرفوضة. وقد نجح المؤتمر ذو الأجندة الغربية بالأساس، في الظهور بمظهر المتوازن، وهو ما يُكسِبه زخماً إضافياً خلال دوراته المقبلة.5– تأكيد واشنطن التزامها بأمن دول الهندوباسيفيك: فقد لفت وزير الدفاع الأمريكي، خلال حوار شانجريلا، إلى ارتباط أمن الولايات المتحدة بأمن دول آسيا، وذكر: "لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون آمنة إلا إذا كانت آسيا آمنة؛ ولهذا السبب حافظت الولايات المتحدة، منذ فترة طويلة، على وجودها في هذه المنطقة". وأضاف أنه على الرغم من الصراعات في أوروبا والشرق الأوسط، فإن منطقة المحيطين الهندي والهادئ "تبقى مسرح عمليات ذا أولوية لنا".ولم يكتف الوزير الأمريكي بذلك، بل بدا أنه يوجه تحذيراً مبطناً إلى الصين؛ حيث ذكر أن "حقبة جديدة من الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادي بدأت تظهر"، وأن "الأمر لا يتعلق بفرض إرادة بلد ما، ولا بالترهيب أو الإكراه".6– مواصلة محاولات عزل روسيا وحشد الدعم لأوكرانيا: مثَّل المؤتمر فرصة أخرى لإظهار الدول الغربية قدرتها على عزل روسيا؛ حيث امتنعت أي وفود روسية عن المشاركة في المؤتمر. وفي كلمته يوم 2 يونيو 2024، حرص الرئيس الأوكراني زيلينسكي على حشد الدعم لبلاده في مؤتمر السلام في أوكرانيا الذي ستستضيفه سويسرا في منتصف يونيو 2024؛ حيث حثَّ زيلينسكي الرئيس الأمريكي جو بايدن على الحضور، لكن واشنطن لم تؤكد بعد مستوى المشاركة، كما حرص زيلينسكي على توجيه سهام نقده للصين وروسيا بوصفهما ساعيتين إلى عرقلة مشاركة الدول الآسيوية في مؤتمر السلام بسويسرا.7– الإعلان عن بعض نوايا التحرك الآسيوية إزاء الأزمة في غزة: بخلاف الموقف الاستراتيجية المعروفة للدول المشاركة فيما يتعلق بالأزمة في غزة، وفر المؤتمر منصة لبعض الدول لإعلان نواياها بشأن التحركات التكتيكية التي تنتوي اتخاذها في هذا الإطار، ولعل أهم مثال على ذلك ما أعلنه الرئيس الإندونيسي المنتخب حديثاً "برابوو سوبيانتو" في كلمته أمام المؤتمر من اعتزام إندونيسيا إرسال قوات حفظ سلام إندونيسية إلى غزة لتثبيت وقف إطلاق النار إن لزم الأمر، مع الإشارة إلى أن ما أعلنه الرئيس بايدن من خطة مكونة من ثلاث مراحل لوقف الحرب في غزة يمثل خطوة على الطريق الصحيح.8– تأكيد دور الآسيان في حل المشكلات الإقليمية: لم يقتصر الحوار على التنافس الأمريكي الصيني وأمن الهندوباسيفيك من الناحية الاستراتيجية، بل سلَّط الضوء أيضاً على قضايا إقليمية تهم في الأساس دول رابطة آسيان، وعلى رأسها الأوضاع السياسية والإنسانية في "ميانمار"؛ وذلك في إشارة من منظمي المؤتمر إلى محورية الرابطة في حل مشكلات دولها.الخلاصة أنه أتى انعقاد حوار "شانجريلا" الأمني في ظرف دولي وإقليمي حرج، سعى كل طرف مشارك فيه إلى استغلاله كمنتدى يعبر فيه عن مواقفه وسياساته إزاء هذا الظرف. وبالرغم من غلبة الطابع الآسيوي على المؤتمر، وبالأخص مظاهر التنافس الأمريكي الصيني، فإن مسائل مثل أوكرانيا – وبدرجة أقل غزة – حضرت على مستوى النقاشات والمداخلات، في انعكاس واضح لما يستشعره الغرب من ضرورة حشد الدعم على الساحة الأوروبية في ظل الانتصارات الروسية الأخيرة في الميدان.&nbsp;

كيف عكس حوار شانجريلا تعقيدات الأمن في الهندوباسيفيك؟