عرض: د. إيمان عبد الحليم

احتدم النقاش بين العلماء وصناع السياسات في الأعوام الأخيرة حول المخاطر والمنافع المترتبة على الاعتماد الاقتصادي المتبادل؛ فمن ناحية هناك أنصار العولمة الذين يزعمون أن العولمة الاقتصادية تظل أفضل طريق إلى السلام والرخاء، حتى لو كانت مصحوبة ببعض المخاطر. ومن ناحية أخرى، هناك القوميون الذين يؤكدون أن الدول الغربية يجب أن تفصل اقتصاداتها عن الصين وغيرها من القوى المنافسة والخصوم لتجنب التبعات الخطيرة والحد من ضعف البنية التحتية الحيوية وسلاسل التوريد، على النحو الذي بينته بوضوح أزمة جائحة كورونا في عام 2019، ثم التبعات السلبية للحرب الأوكرانية منذ فبراير 2022، غير أن مثل هذه المناقشات تميل إلى وضع إطار ثنائي حاد وغير واقعي للمقايضات القائمة بشأن التكلفة والعوائد، بتبني العولمة في مقابل تفكيك العولمة، والاعتماد المتبادل في مقابل الانفصال.

ومن هنا كان اهتمام "أنثيا روبرتس" أستاذة الحوكمة العالمية في الجامعة الوطنية الأسترالية ومؤسسة Dragonfly Thinking والمؤلفة المشاركة لكتاب "أوجه العولمة الستة"، بعرض رؤيتها إزاء تلك المعضلة؛ وذلك من خلال المقال المنشور في مجلة "فورين أفيرز" في عدد نوفمبر/ديسمبر 2023، بعنوان "من المخاطر إلى المرونة.. كيف يمكن للاقتصادات أن تزدهر في عالم التهديدات؟"؛ حيث عرضت فيه لرؤيتها القائمة على تبني ما يمكن تسميتها "المرونة النظامية" (systemic resilience)، التي لا تقدم بديلاً عن التقسيمات الاقتصادية الثنائية الجامدة فحسب، ولكنها أيضاً قد تساعد في معالجة الإشكاليات التي ارتبطت مؤخراً بتبني بعض الاقتصادات لمفهوم "إزالة المخاطر" (de-risking).

معضلة الاعتمادية

لا شك في وجود منافع هائلة مترتبة على الترابط الاقتصادي؛ إذ تخلق الأسواق العالمية فرصاً غير عادية لاقتصادات الحجم الكبير، وتمكن الشركات والدول من تطوير قدراتها من خلال التخصص، والحصول على باقي احتياجاتها من خلال تعميق التجارة الخارجية، وبدفع من معاهدات التجارة والاستثمار، وذلك ما يفسر انتشار وتوسع سلاسل التوريد العالمية مباشرة في أعقاب الحرب الباردة؛ حيث بدا أن مكافآت التجارة والاستثمار الدوليين يفوقان بكثير أي مخاطر محتملة.

ولكن بحلول العقد الأول من الألفية التالية، أضحت مخاطر الترابط الدولي، بحسب المقال، أكثر وضوحاً؛ حيث أثارت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 المخاوف بشأن العدوى المالية، وكان "صعود الصين الاقتصادي وتزايد عدوانيتها سبباً في تغذية مخاوف العواصم الغربية بشأن الإكراه الاقتصادي"، كما أن العقوبات الغربية جعلت موسكو وبكين أكثر قلقاً بشأن الاعتماد المتبادل باعتباره سلاحاً، الذي يثير إشكاليات أخرى من بينها الآتي:

1- إشكالية الموازنة بين العائد والتكلفة: في مقابل منافع الترابط الاقتصادي، فإنه أيضاً يجعل الدول عرضة لتهديدات عدة، بعضها متعمد، مثل الإكراه الاقتصادي، فضلاً عن المخاطر غير المقصودة، كالأزمات المالية والأوبئة، وأيضاً يخلق التخصص نقاط ضعف إضافية في شكل مخاطر التبعية والتركيز، كما هو الحال عندما تعتمد دولة ما على السلع الحيوية المصنعة من قبل دولة أجنبية أو من قبل مجموعة صغيرة من الموردين في منطقة معرضة لظواهر مناخية قاسية. وفي ضوء أن السبيل نفسه الذي قد يعد بمكافآت اقتصادية يشكل في كثير من الأحيان مخاطر أمنية، فإن الاعتماد المتبادل يخلق معضلة.

وتزداد تلك المعضلة بالنظر إلى أن الاعتماد المتبادل يثير إشكاليات أوسع من مجرد المقايضات الخاصة بالمخاطر والمنفعة؛ ففي بعض الأحيان يمكن أن تؤدي المنافع إلى تقليل المخاطر، ويأتي في سياق ذلك الاعتقاد بأن التجارة تعمل على تعزيز السلام والازدهار؛ لأن الدول الغنية والمترابطة اقتصادياً لديها حوافز قوية لتجنب الحرب، لكن مع ذلك هناك تأثير آخر أكثر غموضاً: فالاعتماد المتبادل قد يقلل من احتمالية نشوب الصراع، ولكنه يمكن أيضاً أن يجعل عواقب الصراع أكثر خطورة إذا اندلع؛ حيث يمكن استخدام العلاقات الاقتصادية القوية سلاحاً لإحداث آثار مدمرة.

2- عدم الاستعداد للتضحية التي يستلزمها الفصل الجامد: تسببت أزمة "كورونا"، والحرب الأوكرانية، والتوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في جعل الشركات والدول الغربية أكثر حذراً بشأن المخاطر المرتبطة بالاعتماد الاقتصادي المتبادل. ومثلما كشفت جائحة "كورونا"، فإنها يمكن أن تترك المجتمعات عرضة بشكل خطير للاضطرابات، حتى بشأن إمدادات السلع الطبية الحيوية؛ وهذا فيما تسبب التكامل الاقتصادي العميق بين الولايات المتحدة والصين في خلق نقاط ضعف لكلا البلدين توازياً مع المكافآت الاقتصادية الهائلة.

ومع ذلك فإن قِلة من الدول والشركات، وحتى الأفراد، على استعداد لتقديم التضحيات التي يستلزمها الفصل التام بين اختيار المكسب أو الاستعداد للخسارة لتجنب التهديد، والنتيجة هي الاستقطاب الحاد بين فريقين؛ إذ يدافع أحدهما عن الترابط الاقتصادي والعولمة لأنها تعمل على تعزيز السلام والرخاء، في حين يدعو الفريق الآخر إلى الانفصال الاقتصادي باعتباره السبيل لتقليل مخاطر الإكراه وتحفيز الاقتصاد من خلال إعادة البناء داخلياً.

3- استمرار المعضلة مع التحول من "فك الارتباط" إلى "إزالة المخاطر": إزاء المعضلة الثنائية المشار إليها، لم يكن من المستغرب أن يدخل مصطلح "إزالة المخاطر" في قاموس السياسات باعتباره بديلاً أكثر ليونة للفصل، وهو المصطلح الذي تناولته رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" في يناير 2013، عندما عرضت استراتيجية الاتحاد الأوروبي للحد من "نقاط الضعف الحرجة" مع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين. ومنذ ذلك الحين تبنت الولايات المتحدة وبقية مجموعة السبع سياسة تقليص المخاطر، جزئياً لتهدئة المخاوف المتزايدة بشأن الطلاق الاقتصادي المؤلم مع الصين.

ويمكن اعتبار التحول الخطابي من فك الارتباط إلى إزالة المخاطر أمراً مهماً؛ لأنه يمثل تجاوزاً للتحيزات الثنائية الجامدة، ومع ذلك فإن المتأصل في عملية إزالة المخاطر فكرة مفادها أن صناع السياسات يحتاجون إلى قبول مقايضة محصلتها صِفر بين المخاطر والمكافآت المترتبة على التواصل البيني. وفي هذا الصدد، تبرز فكرة رئيسة مفادها التمييز بين الروابط ذات المخاطر العالية، التي يكون الفصل الانتقائي مناسباً لها، عن الروابط المنخفضة المخاطر، التي يكون من المنطقي الحفاظ على الروابط فيها مع التنويع أيضاً.

المرونة النظامية

يمكن أن يكون هناك طريق أفضل لمعالجة الإشكاليات التي تفرضها الأطروحات المختلفة بخصوص الاعتماد الاقتصادي المتبادل، بأن تعمل الدول والحكومات على دمج الحسابات المتعلقة بالمخاطر والمكافآت في إطار أوسع لـ"المرونة النظامية"، يكون قائماً على خصائص وقوة النظام التي تحدد قدرته على البقاء والصمود في مواجهة التحديات، وبما يتطلب تجاوز الاستقطابات الحادة من قِبل المركزية واللامركزية، والتنويع والتركيز، والاستقلال والاعتماد المتبادل.

وعلى سبيل المثال، عندما يتعلق الأمر بالتجارة الحرة، قالت الممثلة التجارية الأمريكية "كاثرين تاي" إن من "الأمور الحاسمة تحفيز المرونة بدلاً من التركيز على الكفاءة فقط". ومن ناحيتها، حددت "سابين وياند" المديرة العامة للتجارة في المفوضية الأوروبية، عملية إعادة توازن مماثلة للأولويات في عملية صنع السياسات، زاعمة أن "الأمر لا يتعلق فقط بالكفاءة في العلاقات التجارية اليوم، بل إن الأمر يتعلق بالمرونة"، التي يمكنها تحقيق المنافع الآتية:

1- تحقيق التوازن بين المنافع والمخاطر: على الرغم من أن المرونة تُفهم عموماً بأنها القدرة على تحمل الصدمات والضغوطات، فإنها تتعلق بأكثر من مجرد الاستجابة الفعالة للمخاطر؛ إذ يتعين على الحكومات والشركات إيجاد التوازن الصحيح بين المخاطر والمكافآت. إذا ما كانوا يهدفون دوماً إلى تقليل المخاطر، فلن يقللوا من مكاسبهم فحسب، بل سيخلقون أيضاً نقاط ضعف جديدة بمرور الوقت. وعلى نحو مماثل، إذا كانوا يهدفون دوماً إلى تعظيم المكاسب على المدى القصير، فقد يتجاهلون المخاطر القائمة ويخلقون مخاطر جديدة قد تكلفهم الكثير في وقت لاحق.

كما أنه في بعض القطاعات، تكون المكاسب الناجمة عن العولمة الاقتصادية مرتفعة والمخاطر منخفضة نسبياً. وبحسب تصريحات "فون دير لاين" في مارس 2023، فإن "معظم تجارتنا في السلع والخدمات تظل ذات منفعة متبادلة وغير محفوفة بالمخاطر، والفصل في هذه المجالات ليس له أي معنى". ولكن في قطاعات أخرى، تكون المخاطر الناجمة عن الاعتماد المتبادل مرتفعة والمكافآت منخفضة". على سبيل المثال، تشكل التجارة في التقنيات العسكرية الحساسة مخاطرة كبيرة للغاية بالنسبة إلى المكاسب المتوقعة، وفي مثل هذه الحالات يبدو الفصل منطقياً.

وأصعب الحالات هي عندما تكون المخاطر والمكافآت المترتبة على الاعتماد الاقتصادي المتبادل مرتفعة، وهنا يكون التركيز على المرونة النظامية مفيداً بوجه خاص؛ حيث تقدم إطاراً لصناع السياسات ومديري الأعمال، بما يساعدهم على التفكير في مسائل الاعتماد الاقتصادي المتبادل، ويمكن أن يساعدهم ذلك في تحديد متى يجب عليهم المخاطرة بحثاً عن المكاسب، وكيف ينبغي لهم الاستعداد للتغييرات المحتملة.

2- المواءمة بين استيعاب الصدمات والتحول لمواجهتها: تعد المرونة مفهوماً غنياً، له تطبيقات عدة في الهندسة وعلم النفس وإدارة الكوارث والتكيف مع تغير المناخ، وغيرها. وعند تطبيق المفهوم على الأشخاص والمجتمعات والشركات والدول، فهو يصف القدرة على استيعاب التغييرات والتكيف معها، وهو ما يطلق عليه العلماء اسم "المرونة الاجتماعية والبيئية"؛ ذلك أن امتصاص الصدمات يعني تحملها دون التعرض لأضرار دائمة؛ وذلك عندما تقوم الدول، مثلاً، بتخزين أشباه الموصلات وغيرها من السلع التي تشكل أهمية بالغة للتصنيع، مع العمل على تعدد الموردين داخلياً وخارجياً، وبما يساعد الأنظمة على التغلب على الصدمات دون التعرض لضرر أو انقطاع.

في حين أن التكيف مع الصدمات أو الضغوطات ينطوي على إجراء تغييرات تدريجية غالباً ما تكون صغيرة وقصيرة الأمد. على سبيل المثال، حولت المدارس فصولها الدراسية إلى الإنترنت خلال ذروة وباء كورونا، لكن معظمها عادت منذ ذلك الحين إلى التواصل الشخصي.

غير أن التحول في مواجهة الصدمات يعد الأمر الأكثر تطرفاً، وينطوي على إجراء المزيد من التغييرات الهيكلية الدائمة التي إما تقلل من التعرض للمخاطر أو تزيد من القدرة على الحصول على منافع مكاسب جديدة. وفي حين يمكن تحقيق التكيف من خلال تعديلات تدريجية تحافظ إلى حد كبير على الوضع الراهن، فإن التحول ينطوي على تغيير جذري إلى حالة جديدة وأفضل؛ حيث مكنت لقاحات "كوفيد-19"، على سبيل المثال، الحكومات من تحويل استجابتها للجائحة؛ ما أدى إلى تغيير جذري في حساب المخاطر والمكافأة لعمليات الإغلاق والسماح للدول بفتح اقتصاداتها.

بل يمكن لهذه الأنماط الثلاثة من المرونة، والاستيعاب والتكيف، والتحول، أن تعمل بمفردها أو مجتمعة. على سبيل المثال، عندما قطعت الصين فجأة صادراتها من العناصر الأرضية النادرة إلى اليابان في عام 2010 وسط التوترات في بحر الصين الشرقي، استخدمت اليابان أساليب المرونة الثلاثة لتقليل الضرر؛ فاستخدمت على المدى القصير إدارة المخزون بعناية لاستيعاب الصدمة الأولية للانقطاع وتوسيع الإمدادات إلى أقصى حد ممكن، وتمكنت على المدى المتوسط من التكيف من خلال إعادة تدوير العناصر الأرضية النادرة القديمة وإيجاد بدائل لها، واستفادت على المدى الطويل من التحول في سوق المعادن الأرضية النادرة مع افتتاح مناجم جديدة خارج الصين.

3- منح الأنظمة القدرة على المواءمة بين مختلف البدائل: يشير المقال إلى أن الأنظمة تقع في الخطأ حينما تعتقد أن من الأفضل لها العمل فقط على تجنب المخاطر؛ لأن ذلك يمكن أن يولد منافع أقل، وخصوصاً على المدى الطويل؛ الأمر الذي يضر بالأنظمة التي تعطي الأولوية لحسابات الأمان على تعزيز منافع التواصل الخارجي. فحتى إن عملت هذه الأنظمة بشكل جيد على المدى القصير، وفي بعض الأحيان على المدى المتوسط، فإنه مع مرور الوقت، تتراكم نقاط الضعف النظامية، لتصل في نهاية المطاف إلى حالة من الهشاشة الشديدة الناجمة عن عوامل مثل التركيز المفرط، والافتقار إلى التنوع، وتراجع القدرة على المنافسة الخارجية.

وعلى نحو مماثل، فإن الدول التي تهدف إلى تعظيم المكاسب القصيرة الأجل غالباً ما تجعل نفسها عُرضة للصدمات في المستقبل. وعليه، ولكي تزدهر الأنظمة على المدى الطويل، تحتاج إلى إيجاد حل وسط بين الكفاءة والمرونة وبين الرغبة في تقليل المخاطر وتعظيم المكاسب. ولتحقيق هذا التوازن المطلوب، ينبغي للدول ألا تخوض المخاطر إلا عندما يتمتع النظام بالقدر الكافي من المرونة لاستيعاب هذه المخاطر أو التكيف معها أو تحويلها في حال ما أصبحت هذه المخاطر حقيقة واقعة.

فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بشبكات الجيل الخامس، اتخذت الدول خطوات واضحة نحو فك الارتباط؛ لأنها ترى مخاطر عالية مقابل انخفاض في قدرتها على الصمود، ومع الإشارة إلى أن شركة "هواوي" الصينية العملاقة تعد مزوداً رخيصاً لتقنيات الجيل الخامس الرائدة التي لديها القدرة على توليد مكافآت اقتصادية قوية، ولكن بالنسبة إلى العديد من الحكومات الغربية، فإن المخاطر المتمثلة في إساءة استخدام الحكومة الصينية لهذه الشبكة للانخراط في التجسس أو التخريب كانت مرتفعة للغاية بحيث لا يمكن استبعادها.

وعلى النقيض من ذلك، عندما تتمتع الدول بالقدر الكافي من المرونة، مثل تجارة السلع الأساسية؛ حيث تكون الأسواق العالمية عميقة ومتنوعة؛ فمن الأرجح أن تحافظ على الاعتماد المتبادل؛ فعندما تكون المرونة عالية، يصبح بوسع الدول أن تخوض مخاطر أكبر سعياً إلى الحصول على المكافآت؛ لأن لديها البديل الذي يمكنها الاعتماد عليه إذا ما تحققت المخاوف المحتملة. وبالنسبة إلى العديد من السلع المتداولة، بما في ذلك المنتجات الزراعية والموارد الخام، فإن التنويع، وليس الفصل، هو المسار الأكثر عمليةً وحكمةً.

4- تعزيز "التكيف المسبق" مع الظروف المستقبلية المتغيرة: من المزايا الأخرى للمرونة النظامية أنها يمكن أن تساعد الحكومات والشركات على التكيف بشكل استباقي مع الظروف المتغيرة، وهو ما يتطلب المزيد من الأساليب التحويلية لضمان المرونة على المدى الطويل؛ ولهذا السبب تلجأ العديد من الدول الغربية إلى السياسة الصناعية (التشجيع الرسمي لقطاعات اقتصادية محلية محددة) في إطار محاولتها معالجة تغير المناخ وتصورات التهديد المتزايدة الناجمة عن التوترات الجيوسياسية المتزايدة. وفي بعض الحالات، تستخدم الحكومات السياسة الصناعية لتشجيع الابتكارات التحويلية التي من شأنها الحد من المخاطر وبناء القدرة على الصمود.

وفي حالات أخرى، تستخدم الحكومات السياسة الصناعية حتى تتمكن من جني المكافآت المستقبلية، وكذلك الحد من المخاطر. وعلى سبيل مثال، تقوم الولايات المتحدة بدعم تطوير ونشر التكنولوجيات الخضراء، ليس فقط لمعالجة مخاطر تغير المناخ، بل أيضاً لضمان استحواذ الشركات الأمريكية على حصة كبيرة من الأسواق الناشئة المهمة، بما في ذلك أسواق السيارات الكهربائية. وقانون الرقائق والعلوم، الذي يهدف إلى تعزيز صناعة أشباه الموصلات المحلية، وقانون خفض التضخم، الذي قام باستثمارات تاريخية في الطاقة النظيفة، وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف، الذي عمل على تحديث البنية التحتية في مجالات مثل الجسور والسكك الحديدية والنطاق العريض، مصممة أيضاً لتعظيم المنافع المستقبلية.

وتعمل هذه القوانين، التي تم إقرارها في عامي 2021 و2022، على تقليل نقاط الضعف في سلاسل التوريد، وتقديم الحوافز لمصنعي الطاقة المتجددة، والبطاريات، والمركبات الكهربائية، وأشباه الموصلات، لتحسين نقل الطاقة النظيفة في المستقبل.

معضلة التوازن

يخلص المقال إلى أنه مع أهمية المحددات المرتبطة بالمرونة النظامية، لكن مع ذلك لا توجد صيغة سحرية لتحقيق التوازن بين المخاطر والمنافع والمرونة؛ فالجهات الفاعلة المختلفة لديها استعدادات مختلفة للمخاطرة، وما تراه الدول باعتباره التوازن الصحيح يعتمد أيضاً على مدى تفاؤلها بشأن المستقبل. فمن جهة أولى، تختلف التوقعات بحسب استقرار الأنظمة؛ فالقرارات التي قد تكون مثالية في البيئات المستقرة والتي يمكن التنبؤ بها، يمكن أن تكون كارثية في البيئات المضطربة وغير المتوقعة؛ فعندما تكون الاضطرابات منخفضة والقدرة على التنبؤ عالية، تستطيع الدول في كثير من الأحيان التركيز على تعظيم المكاسب، وهو ما كان الحال في فترة ما بعد الحرب الباردة، وهي الفترة الهادئة التي كانت فيها العولمة في طريقها إلى الأمام، ولكن عندما تكون الاضطرابات مرتفعة والقدرة على التنبؤ منخفضة، تبرز أكثر أهمية المرونة للمواءمة بين الفرص والمخاطر.

ومن جهة ثانية، تتأثر التوقعات أيضاً بالأحداث التي لا يمكن تقييمها؛ إذ تركز الأساليب القياسية لإدارة المخاطر على حساب الاحتمالية والتأثير المحتمل للمخاطر المختلفة، لكن العديد من المخاطر والمكاسب تنطوي على أحداث لا يمكن تقييمها ومعرفة تأثيرها؛ فمن المستحيل مثلاً حساب الاحتمالات أو الآثار المحتملة للغزو الصيني لتايوان، وعندما يكون عدم اليقين مرتفعاً، غالباً ما تفضل الجهات الفاعلة العمل لتقليل الخسائر المحتملة، ونتيجة لذلك يكون التركيز على حماية الاحتياجات الأكثر أهميةً، مثل البنى التحتية، وسلاسل التوريد الحيوية، والمعادن الاستراتيجية، والتكنولوجيات المؤثرة. ويعكس هذا النهج نظرة محافظة تعطي الأولوية لتخفيف المخاطر في الأوقات العصيبة على تعظيم المكافآت في الأوقات الجيدة.

ومن جهة ثالثة، يواجه العالم تحديات هائلة ومتعددة، من التنافس بين القوى العظمى إلى أزمة المناخ، ومن أجل البقاء والازدهار قدر الإمكان، ستحتاج الدول إلى فهم محددات المخاطرة والمكاسب والقدرة على الصمود، وكيفية الربط فيما بينها أو المقايضة بشأنها؛ فقد تؤدي المنافسة بين القوى العظمى إلى تقويض التعاون بشأن تغير المناخ، في حين تعمل على تعزيز سباق الطاقة النظيفة، وقد تتطلب الجهود المبذولة لزيادة القدرة على المرونة والصمود الحد من الاعتماد المتبادل بين المتنافسين مع تسريع وتيرة الاعتماد المتبادل بين الحلفاء، وقد تتطلب القدرة على الصمود في بعض الأحيان إعادة بناء القدرات الوطنية، وفي أحيان أخرى تتطلب إقامة تحالفات.

وعليه، فإن اتباع نهج نظامي في التعامل مع الأسس الخاصة بالمرونة لن يكون بالمهمة السهلة، وخاصة في عالم يتسم بالاستقطاب والتخصص، لكن الفشل في تبني المرونة النظامية لن يعني فقط التخلي عن العديد من مكافآت التكامل الاقتصادي، لكنه سيعني أيضاً خلق نقاط ضعف جديدة يمكن أن تكون كارثية في المستقبل.

المصدر:

Anthea Roberts, "How Economies Can Thrive in a World of Threats", Foreign Affairs, Volume 102, Number 6, November/December 2023.