في يوم 13 يوليو 2023، أقرت الحكومة الألمانية استراتيجيتها الوطنية الأولى بشأن الصين، وهي الاستراتيجية التي طال انتظارها بعد شهور من الجدل داخل الائتلاف الثلاثي الذي يقوده المستشار الألماني أولاف شولتز. وقد حددت الوثيقة، القوة العظمى الآسيوية "شريكاً ومنافساً منهجياً" في الوقت ذاته، ودعت إلى تقليل الاعتماد على السلع الصينية بشكل كبير مع الحفاظ على العلاقات الاقتصادية التي تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات. كما ترفض الاستراتيجية فكرة الانفصال عن الصين، لكنها تشدد على حاجة ألمانيا إلى "التخلص من المخاطر"؛ أي تنويع سلاسل التوريد وأسواق التصدير بعيداً عن البلاد، ومن ثم تقليل تعرضها للصدمات الخارجية.

هذا وأضحت الاستراتيجية أن الأسباب في إطلاقها ترجع إلى السياسات الاستبدادية للحكومة الصينية، وقمعها الحقوق المدنية والأقليات العرقية، وصراعها على تايوان، والموقف العدواني في بحر الصين الجنوبي، وهي جميعها أمور أجبرت برلين على إعادة التفكير بشكل أساسي في العلاقة مع بكين، التي تسارعت عندما دخل الخضر المتشككون في السياسة الصينية الحكومة في أواخر عام 2021، الذين تنتمي إليهم وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك.

نهج جديد

تعد استراتيجية ألمانيا لتقليل اعتمادها على الصين خطوة مهمة يمكن أن يكون لها تأثير كبير على اقتصاد البلاد وأمنها في السنوات القادمة؛ حيث تستند إلى عدة توجهات رئيسة، منها:

1– سيادة النظرة الألمانية المتشككة لسياسة بكين: ترى برلين أن بكين تحاول خلق تبعيات اقتصادية وتكنولوجية من أجل تحقيق أهداف ومصالح سياسية، كما أنها أصبحت حازمة بشكل متزايد في محاولاتها لتغيير النظام الدولي القائم على القواعد، مع ما يترتب على ذلك من عواقب على الأمن العالمي؛ إذ تجد ألمانيا أن الصين قد تغيرت، وأن تصرفاتها قد تؤدي إلى تزايد حدة المنافسة الدولية؛ الأمر الذي يتطلب تغيير طريقة تعامل ألمانيا مع الصين؛ حيث ستُظهِر الأولى تضامنها مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تُواجِه ضغوطاً اقتصادية أو غيرها من الضغوط، كما ستستأنف الحوار حول حقوق الإنسان وسيادة القانون مع الصين، كما ستعمل على إقناع الأخيرة بعدم وضع مصالحها فوق مبادئ الأمم المتحدة المتعددة الأطراف، بجانب عدم تغيير سياسات وبرامج الأمم المتحدة بمبادراتها الخاصة.

2– تأكيد استقلالية تايوان: توضح الاستراتيجية أن ألمانيا تُعارِض العمل العسكري الذي تقوم به بكين لتأكيد مطالبتها بالسيادة على تايوان؛ بحيث لا يجوز تغيير الوضع الراهن لمضيق تايوان إلا بالوسائل السلمية والموافقة المتبادلة، مشيرةً إلى أن التصعيد العسكري سيؤثر أيضاً على المصالح الألمانية والأوروبية؛ إذ كشف الوضع في مضيق تايوان عن نقاط ضعف في سلسلة التوريد، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالرقائق الإلكترونية. ومن جانب آخر، تريد برلين توسيع علاقاتها الوثيقة مع تايبيه، فضلاً عن تدعيم مشاركتها في المنظمات الدولية.

3– انتقاد موقف بكين من الحرب الأوكرانية: جاء في الاستراتيجية أن قرار الصين توسيع علاقتها مع روسيا كانت له آثار أمنية فورية على ألمانيا، مشيرة إلى أن بكين تفتقر إلى المصداقية في دعمها السيادة الأوكرانية؛ نظراً إلى احتضانها الروايات الروسية؛ ففي إعلانهما المشترك الصادر في 4 فبراير 2022، التزمت الصين وروسيا بتكثيف تعاونهما بشكل كبير في جميع المجالات، واتفقتا على رفض أي توسع إضافي لحلف الناتو. ولذلك لا تزال برلين منخرطة في الحوار مع بكين لحثها على الإعلان بوضوح عن معارضتها الحرب العدوانية الروسية، ولا سيما التوقف عن التعاون في مجال التسليح مع روسيا.

4– تنويع سلاسل الإمداد: ستسعى ألمانيا إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها للسلع والخدمات الهامة، وسيشمل ذلك العمل مع البلدان الأخرى لتطوير مصادر بديلة للإمداد بالسلع والخدمات. وتذكر الاستراتيجية، على وجه التحديد، عدداً من القطاعات الحيوية؛ حيث تعتمد برلين بإفراط على بكين فيها؛ أهمها التكنولوجيا الطبية والمستحضرات الصيدلانية، وتكنولوجيا المعلومات، خاصةً أشباه الموصلات، وكذلك المعادن النادرة التي تحتاجها ألمانيا في مجموعة متنوعة من الصناعات، بما في ذلك قطاعات السيارات والطاقة والدفاع.

5– استيعاب المخاطر الجيوسياسية: بموجب الاستراتيجية، تُدعى الشركات إلى استيعاب أقوى للمخاطر الجيوسياسية لممارسة الأعمال التجارية في الصين؛ فقد أوضحت الحكومة الألمانية أنها تعمل على تقديم الحوافز لتشجيع الشركات الألمانية على تنويع أعمالها خارج الصين، كما دعت إلى إعادة تقييم ضمانات التصدير لضمان حماية التكنولوجيا الحساسة، وشددت على نية برلين وضع قائمة بالتكنولوجيا المستخدمة في مجالات تشمل الأمن السيبراني والمراقبة التي ستخضع لضوابط التصدير.

6– التنافس في مجال الدفاع والأمن: تتخذ ألمانيا إجراءات مضادة على المستويين الوطني والأوروبي ضد تهديدات الأمن السيبراني المتزايدة، بما في ذلك من التهديدات الصادرة عن الصين؛ حيث تؤثر هذه التهديدات بشكل متزايد على شبكات الحكومة الأوروبية. وبناءً عليه، ستقدم الحكومة الألمانية المشورة للشركات والمعاهد البحثية بشأن مخاطر الأمن السيبراني والهجين بسبب عمليات التجسس الصيني، كما تحث ألمانيا الصين على إعلان التدريبات العسكرية في وقت مبكر، ودعوة مراقبين دوليين لتجنب سوء التفاهم، مشيرة إلى أنها ستوسع أيضاً التعاون الأمني والعسكري مع شركاء وثيقين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ وذلك من خلال عدة طرق تشمل نشر القوات البحرية، والمناورات المتعددة الجنسيات، بينما تهدف بكين إلى تعزيز وجودها العسكري في القطب الشمالي وأنتاركتيكا، بيد أن برلين تريد إبقاء هذه المناطق خالية من النزاعات.

7– التعاون في مجال البيئة والمناخ: ستسعى ألمانيا، بحسب الاستراتيجية، إلى دفع الصين نحو عدم استخدام التعاون الدولي في قضايا المناخ، باعتبار ذلك وسيلةً لممارسة الضغط لتعزيز مصالحها في مجالات أخرى. هذا وترى برلين أن هناك حاجة لتوجيه بكين نحو أهداف أكثر طموحاً لخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري؛ وذلك من خلال إجراء حوار مكثف معها حول التخلص التدريجي من الفحم، فضلاً عن مراجعتها ضمانات الاستثمار اعتماداً على التزام الصين بمعايير الاستدامة والبيئة.

تداعيات متباينة

هناك العديد من التداعيات المتباينة للاستراتيجية الألمانية لتقليل اعتمادها على الصين، وهي تداعيات واسعة النطاق، قد تتضمن ما يلي:

1– تصاعد الاستياء الصيني: عقب إطلاق الوثيقة، انتقدت الصين دعوة الحكومة الألمانية للحد من الاعتماد على المنتجات الصينية، واصفةً ذلك بأنه شكل من أشكال الحمائية؛ حيث أوضح المتحدث باسم وزارة الخارجية "وانج وينبين" أن "استراتيجية الحكومة الألمانية التي طال انتظارها للعلاقات مع الصين، تتعارض مع اتجاه العصر، ولن تؤدي إلا إلى تفاقم الانقسامات في العالم". وقال "وانج" إن البلدين "شريكان وليسا متنافسَين"، وهي تعد صيغة نموذجية للحزب الشيوعي الصيني الحاكم لرفض الانتقادات. وقال "وانج" أيضاً للصحفيين: "نعتقد أن الانخراط في المنافسة والحمائية باسم تقليل المخاطر وتقليل التبعية، والإفراط في توسيع مفهوم الأمن وتسييس التعاون الطبيعي، لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية ويخلق مخاطر مصطنعة".

وفي السياق ذاته، عارضت السفارة الصينية في برلين بشدة الجهود الرامية إلى التدخل في الشؤون الداخلية للصين والإضرار بمصالحها الجوهرية. وأوضحت السفارة في بيان لها أن "الصين تأمل أن تنظر ألمانيا إلى تنمية الصين بعقلانية وشمول وموضوعية". وقالت السفارة: "الصين هي شريك ألمانيا في التعامل مع التحديات، وليس خصمها، وإن النظر إلى الصين وصياغة استراتيجيات تجاهها على أساس الأيديولوجية لن يؤدي إلا إلى تفاقم سوء التفاهم وسوء التقدير، وإلحاق الضرر بالتعاون والثقة المتبادلة بين الجانبين".

2– صعوبة التطبيق العملي لمضامين الاستراتيجية: مما لا شك فيه أن اقتصاد الماكينة الألمانية قد يواجِه العديد من التحديات الهيكلية التي تَحُول دون سهولة تطبيق مضمون هذه الاستراتيجية؛ حيث إن ما يقرب من نصف الاستثمارات الأوروبية في الصين تأتي من ألمانيا، ويعتمد ما يقرب من نصف شركات التصنيع الألمانية على الصين في جزء من سلسلة التوريد الخاصة بها، كما تُعَد الصين هي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا؛ إذ وصل حجم التجارة الثنائية إلى 227.6 مليار دولار العام الماضي، لكن العلاقات التجارية في صالح الصين بإجمالي صادرات 116.23 مليار دولار للسوق الألمانية؛ الأمر الذي يشير إلى مدى اعتماد السوق الألمانية على السلع الصينية.

ووفقاً لتحليل حديث أجراه معهد Kiel، فإن الصين تهيمن على الإمدادات الألمانية من المواد الأولية وبعض المنتجات المحددة، لا سيما في مجال الإلكترونيات، ولا يمكن استبدالها بصفتها مورداً على المدى القصير. ومن ثم، فإنه لضمان أمن الإمدادات فيما يتعلق بالمواد الخام الهامة، وكذلك المنتجات الوسيطة والنهائية، تحتاج ألمانيا بشكل عاجل إلى استراتيجية لمزيد من التنويع في سلاسل الإمداد.

3– تعزيز التعاون الألماني مع الدول الأخرى: يمكن أن تؤدي استراتيجية ألمانيا إلى زيادة التعاون مع دول أخرى، مثل الولايات المتحدة واليابان؛ من أجل تقليل الاعتماد على الصين، وقد يشمل ذلك تنسيق السياسات والاستراتيجيات وتبادل المعلومات، كما ستعمل ألمانيا مع دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، خاصةً في ضوء الرؤية المشتركة للتكتل نحو تخفيض اعتمادها على الصين، وتحديداً مع إطلاق المفوضية الأوروبية لاستراتيجية تعاملها مع الصين في عام 2021، التي دعت فيها الاتحاد إلى تنويع تجارته مع الصين وتعزيز تعاونه مع الدول الأخرى للحد من الاعتماد عليها.

4– احتمالات حدوث صدمات للسوق الألمانية: إن الاستراتيجية الألمانية الجديدة تنطوي أيضاً على بعض المخاطر بالنسبة إلى السوق الألمانية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي خفض الاعتماد على الصين إلى ارتفاع الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين والشركات؛ وذلك على خلفية زيادة التكاليف الناتجة عن تنوع سلاسل التوريد وتطوير الإنتاج المحلي للسلع والخدمات. بالإضافة إلى ذلك، إذا لم تعد ألمانيا قادرة على الاعتماد على الصين في أحدث التقنيات، فقد يؤدي ذلك إلى تأخير الابتكار في بعض القطاعات؛ ولذلك فإن من المهم بالنسبة إلى ألمانيا النظر بعناية في هذه المخاطر قبل تنفيذ الاستراتيجية.

5– زيادة الانقسامات الداخلية: على المستوى الحكومي، قد نشهد مزيداً من الاختلافات بين الائتلاف الحكومي الحاكم، خاصةً خلال الانتخابات العامة المقبلة؛ إذ تأخَّر إصدار هذه الاستراتيجية لفترة طويلة بسبب الخلافات بين وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك التابعة لحزب الخضر الذي يدعم منذ فترة طويلة موقفاً متشدداً تجاه الصين، وبين المستشار الألماني أولاف شولتز، وهو ديمقراطي اجتماعي روَّج لنهج أكثر حذراً تجاه الصين.

6– تعقيد موقف قطاع الأعمال الألماني: شددت بيربوك على أن الشركات الكبرى ستحتاج إلى تحمل المزيد من المسؤولية عن "التخلص من المخاطر"، وعدم افتراض أن برلين ستقدم خطة إنقاذ إذا تعلق الأمر بحدث مثل الغزو الصيني لتايوان. وبالرغم من تلك التحذيرات، وكذلك التوترات الشديدة بين بكين وواشنطن، هناك ترحيب كبير من جانب مجتمع الأعمال في ألمانيا؛ حيث أوضحت أكبر جمعية أعمال في البلاد (BDI) أن الاستراتيجية تحقق التوازن الصحيح بين معالجة المخاطر الجيوسياسية وتأكيد اهتمام ألمانيا بمواصلة العلاقات الاقتصادية الجوهرية والتعاون مع الصين بشأن التحديات العالمية، مثل تغير المناخ، كما أشاد الرئيس التنفيذي لشركة (BOSCH) ستيفان هارتونج، الذي أعلنت شركته عن خطط لاستثمار مليار دولار في الصين في السنوات المقبلة، بالوثيقة لأنها حققت "توازناً" في لهجتها مع الصين.

ولكن في المقابل، قد لا يزال هناك العديد من التخوفات من جانب العديد من الشركات الألمانية العملاقة من تدهور العلاقات بين بكين وبرلين، خاصةً أنها تعتبر الصين سوقاً رئيسيةً لها؛ حيث قد سبق أن استثمرت شركات صناعة السيارات الألمانية الكثير للدفاع عن حصتها في السوق وسط المنافسة المتزايدة من العلامات التجارية الصينية.

ختاماً، لا تزال الاستراتيجية في مراحلها الأولى، لكنها تظل خطوة مهمة لألمانيا في تقليص اعتمادها على الصين؛ حيث من المحتمل أن يكون للاستراتيجية تأثير كبير على اقتصاد ألمانيا وأمنها في السنوات القادمة، وفقاً لما تقره الوثيقة، خاصة مع إقرارها بعدم الانفصال التام عن الصين، بل بمجرد الحد من الاعتماد عليها في القطاعات الحيوية. ومع ذلك، فإن نشر مثل هذه الوثيقة يشير إلى تغير مهم في برلين، يجعل الحكومة الألمانية تتماشى بشكل أكثر وضوحاً مع المفوضية الأوروبية، التي ظهرت باعتبارها صوتاً أكثر انتقاداً للصين في السنوات الأخيرة، كما يجب على واشنطن أن ترحب بموقف برلين الجيواستراتيجي الجديد تجاه الصين؛ لأنه يشير إلى مجال أكبر للتنسيق عبر الأطلسي.

ما أبعاد الاستراتيجية الألمانية الجديدة بشأن الصين؟