عصام البدري

تُواجه بيرو في عهد الرئيسة "دينا بولوارتي" واحدة من أعقد الأزمات السياسية والأمنية في تاريخها الحديث، وسط تصاعد غير مسبوق في مستويات الجريمة والعنف، وانهيار ثقة الشارع في مؤسسات الدولة. فقد كشفت استطلاع للرأي أجرتها "شركة سي بي آي CPI" يوم 26 مايو 2025م انخفاض نسبة تأييدها إلى 2.4%، فيما ارتفعت نسبة عدم التأييد إلى 95.9%، حيث عبر عدد كبير من المواطنين عن رفضهم لسياساتها، في ظل اتهامات بفشل حكومي ذريع في التعامل مع الانفلات الأمني، وتواطؤ سياسي مع شبكات الجريمة المنظمة. ولا يعكس هذا التراجع الحاد في الشعبية مجرد مؤشر انتخابي، بل أزمة حكم عميقة تهدد استقرار الدولة وتُعيد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. أسباب عديدةيعود تراجع شعبية الرئيسة البيروفية "بولوارتي" بدرجة كبيرة إلى مجموعة من العوامل المترابطة، يمكن بيانها على النحو التالي:1- تصاعُد موجة العنف والجريمة المنظمة: تشهد بيرو موجة غير مسبوقة من العنف المنظم وارتفاع معدل الجرائم التي تشمل القتل والخطف والابتزاز من قِبل العصابات الإجرامية. كان آخر هذه الحوادث مقتل المغني "بول فلوريس" وكذلك مقتل 13 من عمال المناجم مما أثار الاستياء العام وأدى لاندلاع سلسلة من الاحتجاجات اليومية، فضلاً عن استمرار عمليات الابتزاز اليومي لشركات وسائقي النقل من أجل الحصول على المالي، والتي تُسفر عن عشرات الضحايا يومياً. 2- تحميل "بولوارتي" مسؤولية الإخفاقات الأمنية: على الرغم من أن الوظائف الأمنية تُسند لوزير الداخلية "خوان خوسي سانتيفانيز" إلا أن نسبة كبيرة من الشعب البيروفي قد حمل "بولوارتي" المسؤولية عن انعدام الأمن في استطلاعات الرأي. وفي محاولة لاحتواء الأزمة أجبر البرلمان وزير الداخلية على تقديم استقالته، في شهر مارس 2025، حيث وافق 78 نائباً على طلب البرلمان، فيما عارضه 11 نائباً وامتنع 20 آخرون عن التصويت، علماً أن تمرير هذا القرار يحتاج إلى 66 صوتاً فقط. 3- اتهامات لأعضاء الحكومة بالتواطؤ مع العصابات الإجرامية: يُواجه العديد من أعضاء الحكومة والبرلمان اتهامات بالتواطؤ مع العصابات الإجرامية والتقاعس عن مواجهة أنشطتها. ووُجهت هذه الاتهامات مباشرة لوزير الداخلية، بعد فشله في اتخاذ التدابير اللازمة للتصدي للتهديدات القائمة، فعقب إعلان البرلمان الموافقة على استقالته أمرت النيابة العامة بإجراء تفتيشين متتاليين لمنزله بحثاً عن أدلة على جريمة مزعومة تتعلق بـاستغلال النفوذ. 4- استخدام العنف لقمع الاحتجاجات الشعبية: يُعد استخدام العنف لقمع الاحتجاجات المناهضة للحكومة من أبرز أسباب تراجع شعبية "بولوارتي". فلم تكتفِ الحكومة بما سنته من تشريعات تصل لحد تجريم الاحتجاجات، بل وسعت من معدل استخدام للقوة لقمع الاحتجاجات الشعبية، والذي بلغ ذروته في عام 2022م عندما قتلت قوات الأمن نحو 50 مواطناً ممن شاركوا في التظاهرات، وخاصة في مناطق الأنديز الجنوبية في أبوريماك وكوسكو وبونو، فضلاً عن إصابة المئات من المتظاهرين واعتقال ومحاكمة العشرات. 5- الترويج لانتشار الفساد في مؤسسات الدولة: لا تزال العديد من الأطراف تروج لانتشار الفساد داخل المؤسسات الأمنية والقضائية مثل الشرطة الوطنية ووزارة الداخلية ومكتب النائب العام، وهو ما ساهم في ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما منح المنظمات الإجرامية حرية التوسع دون رادع. حيث أظهرت الدولة قصوراً واضحاً في الاستجابة للأزمة، إذ فشلت كافة التدابير الحكومية، كإعلان حالة الطوارئ ونشر الدوريات العسكرية، في تحقيق أي نتائج ملموسة، وسط غياب قيادة سياسية فعالة من الحكومة والبرلمان. كما تتفاقم الأزمة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، وسيطرة الاقتصاد غير الرسمي، والتهميش، مما يوفر بيئة مثالية لتجنيد العناصر الإجرامية. انعكاسات واضحةلا يعكس تراجع شعبية الرئيسة "بولوارتي" فقط أزمة ثقة سياسية، بل يترتب عليه عدد من الانعكاسات العميقة والخطيرة على النظام السياسي والاجتماعي في البلاد، يمكن توضيحها كما يلي: 1- تفاقم الاحتجاجات والإضرابات: انعكس تراجع شعبية "بولوارتي" بشكل واضح في تصاعُد موجة الاحتجاجات والإضرابات، حيث يُغذي استمرار الرفض الشعبي لإدارة الرئيسة "بولوارتي" حالة السخط الاجتماعي، والتي تظهر في شكل مظاهرات يومية، وإضرابات، واحتجاجات، خاصةً في المناطق المهمشة التي تشهد أعلى معدلات الجريمة، وهو ما يضع البلاد على شفا تصعيد شعبي يقترب يومياً من الانتفاضة الجماعية التي تُنذر بشل مؤسسات الدولة. 2- تراجع الثقة الشعبية في النظام الحاكم: يرى الغالبية العظمى من الشعب البيروفي أن الرئيسة "بولوارتي" منفصلة عن الواقع تماماً، وغير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة لمواجهة الأزمة الأمنية، كما تُتهم إدارتها بإعطاء الأولوية لمصالح النخب الاقتصادية، وتقليص حقوق العمال، وتخفيف القيود التنظيمية البيئية لصالحهم، بجانب السماح بتمرير القوانين التي تنتهك حقوق الإنسان. وقد انعكست نتائج هذه السياسات في تراجع معدلات الثقة الشعبية في صلاحيتها للحكم، حيث سجلت مناطق بأكملها مثل أقاليم الشمال انعدام التأييد. 3- تعميق الانقسام المؤسسي والاجتماعي: يعكس حكم الرئيسة "بولوارتي" حالة متفاقمة من الانقسام المؤسسي والاجتماعي، حيث يُنظر إلى إدارتها باعتبارها امتداداً لتحالف نخبة سياسية واقتصادية منقطعة الصلة عن واقع الأغلبية الشعبية. فقد شكلت "بولوارتي"، منذ وصولها إلى السلطة، جبهة حاكمة بالتحالف مع قوى اليمين المحافظ، مما زاد من شعور قطاعات واسعة من المواطنين بالتهميش؛ نتيجة تبني هذا التحالف سياسات لا تراعي العدالة الاجتماعية ولا تُعبر عن تطلعات الطبقات الفقيرة والمتوسطة، مما يُعمق الفجوة بين مؤسسات الحكم والمجتمع. 4- تهديد بانهيار الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة: تتعالى يومياً الأصوات المطالبة بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، كحل لإنهاء حالة الانسداد السياسي ووضع حد لتدهور الأوضاع الأمنية، خاصة مع غياب المخرج من الأزمة، ورفض "بولوارتي" التنحي أو تقديم خارطة طريق واضحة. واتسع حجم هذه الأصوات بشكل واضح مع فشل الإجراءات الأمنية المتبعة في ردع العصابات الإجرامية، رغم استمرار تجديد العمل بقانون الطوارئ لأكثر من عام. ختاماً، إن تراجع شعبية الرئيسة "بولوارتي" لا يُعد مجرد انعكاس لمؤشرات الرأي العام، بل يُمثل تجسيداً لأزمة شاملة تضرب مفاصل الدولة البيروفية على كافة المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية. فقد ساهم تصاعد الجريمة، وتفشي الفساد، وفشل السياسات الأمنية، إضافة إلى التعامل الأمني الحاد مع الاحتجاجات، في تفاقم فجوة الثقة بين الحكومة والمواطنين، وتعميق الانقسام داخل المجتمع. وفي ظل غياب حلول جذرية وإرادة سياسية حقيقية للإصلاح، فإن استمرار هذا الوضع قد يُهدد بانزلاق البلاد إلى حالة من الفوضى قد يصعب احتواؤها لاحقاً، لا سيما مع رفض "بولوارتي" دعوات الاستقالة وتمسكها بالحكم.

لماذا تراجعت شعبية رئيسة بيرو "بولوارتي"؟