أعلن المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، في 26 أبريل 2025، أن القوات الروسية نجحت في تحرير منطقة "كورسك"، وهي خطوة قد تُشكل تطوراً بارزاً قد يُفقد كييف ورقة تفاوضية أساسية مع موسكو بعد نحو تسعة أشهر من فرضها سيطرة جزئية على هذه المنطقة. وفيما نفت الحكومة الأوكرانية تلك المزاعم، مؤكدةً نجاحها في صد الهجمات البرية الروسية المتكررة، ومقاومة محاولات الحصار، فإنها اعترفت في الوقت ذاته بأن قواتها لا تزال في موقع "حرج" داخل كورسك.

وفي تطور مفاجئ، أقر الكرملين أيضاً – لأول مرة – بوجود قوات عسكرية من كوريا الشمالية تشارك القوات الروسية في الحرب، وهو ما أعطى بعداً جديداً للصراع، لا سيما في منطقة "كورسك" ذات الأهمية الاستراتيجية، التي تقع على الحدود المباشرة مع أوكرانيا. هذا الحدث لن يقف عند تغيير التوازن في ساحة معركة محلية، بل قد يُفجِّر سلسلة من التداعيات الإقليمية والدولية؛ وذلك نتيجة الوضوح العلني للتعاون العسكري المتصاعد بين موسكو وبيونج يانج.

تحرير "كورسك"

إن نشر قوات كورية شمالية لمساعدة روسيا كان له بالغ الأثر في مساعدة الأخيرة على تحرير منطقة "كورسك" الاستراتيجية، بجانب مجموعة من العوامل الأخرى. ويمكن إبراز تلك العوامل على النحو التالي:

1– الدعم العسكري الكوري الشمالي: شكَّل الوجود العسكري الكوري الشمالي أحد العناصر الحاسمة في استعادة السيطرة على منطقة كورسك؛ إذ نُشِرت أعداد كبيرة من الجنود الكوريين الشماليين، في خطوةٍ لطالما التزمت موسكو وبيونج يانج الصمت إزاءها، رغم التقارير التي تحدثت عن وقوع جنود كوريين شماليين أسرى في أيدي القوات الأوكرانية.

ولكن فور إعلان روسيا استعادة كورسك، أكد زعيما البلدين علناً مشاركة تلك القوات في العمليات القتالية بجانب الجيش الروسي، مشيرَين إلى مساهمتها الفعالة في "تحرير" كورسك من القوات الأوكرانية؛ إذ أعلن الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، أنه أوفد وحدات عسكرية إلى روسيا في إطار تعزيز التحالف المشترك، وأشاد بـ"بسالة وتضحيات" الجنود الكوريين، وفق ما نقلته وسائل الإعلام الرسمية. ووجَّه كيم بإقامة نصب تذكاري لتخليد ذكرى الجنود الكوريين الذين قضوا على الأراضي الروسية، في خطوةٍ وُصِفت بأنها رسالة رمزية قوية إلى الرئيس فلاديمير بوتين، تُظهِر عمق الالتزام الكوري تجاه موسكو. من جهته، صرَّح بوتين في بيان نُشر على الموقع الرسمي للكرملين بأن "الشعب الروسي لن ينسى تضحيات القوات الخاصة الكورية الشمالية"، مؤكداً أن "أبطال كوريا الذين سقطوا في المعركة، سيُخلَّدون كأشقاء في السلاح بجانب الجنود الروس". كذلك عبَّر الجنرال فاليري جيراسيموف القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية، عن تقديره الشديد للقوات الكورية، مشيراً إلى دورها الحاسم في "التحرير الكامل لمنطقة كورسك"، وشاكراً إياها على "مساهمتها الجسيمة في دحر وحدات القوات المسلحة الأوكرانية".

وبحسب تقديرات استخباراتية من كوريا الجنوبية وأوكرانيا، أرسلت بيونج يانج ما يقرب من 14 ألف جندي إلى الأراضي الروسية، غالبيتهم من القوات الخاصة ذات التدريب العالي؛ حيث بدأت عمليات الانتشار الأولى في أواخر عام 2024، وتواصلت حتى أوائل عام 2025، بهدف تعويض الخسائر في صفوف القوات الروسية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعاون غير المسبوق قد جاء عقب توقيع اتفاقية دفاع مشترك بين الرئيسين بوتين وكيم في يونيو 2024، نصَّت على تقديم الدعم المتبادل في حال التعرض لأي عدوان خارجي. وقد استند كيم إلى هذا البند لتبرير ما وصفه بـ"الواجب المقدس" في حماية وحدة الأراضي الروسية، معتبراً أن مشاركة كوريا الشمالية في القتال تُمثِّل أكبر انخراط عسكري لها خارج حدود شبه الجزيرة الكورية منذ عقود طويلة.

2– قدرة موسكو على تكثيف ضغطها العسكري على القوات الأوكرانية: تُعزى استعادة روسيا السيطرة على كورسك أيضاً إلى تحديث عقيدتها العسكرية وتطوير أساليبها القتالية؛ فبعد أن باغتت القوات الأوكرانية نظيرتها الروسية بتوغل مفاجئ في كورسك خلال أغسطس 2024، عمد الجيش الروسي إلى إعادة تنظيم صفوفه بسرعة، ورفع مستوى التكتيكات الميدانية، مُركِّزاً على استخدام نيران البطاريات المضادة والطائرات المسيرة في تنفيذ ضربات مدفعية دقيقة.

وفي السياق ذاته، استفاد الجيش الروسي من الدروس المكتسبة في المراحل السابقة من الحرب، ونشر منظومات متقدمة للمراقبة الجوية، شملت طائرات بدون طيار من طراز "أورلان–30" وذخائر انتحارية من نوع "لانسيت"؛ ما مكَّنه من كشف مواقع المدفعية الأوكرانية وتدميرها بكفاءة عالية، كما لجأت القوات الروسية إلى استخدام المدفعية الثقيلة وأنظمة صواريخ بعيدة المدى، مثل راجمات "تورنادو–إس"، وربما حتى مدافع "هاوتزر" من صنع كوري شمالي، في سبيل الحفاظ على ضغط ناري متواصل ضد القوات الأوكرانية. وقد أدى التناغم العملياتي بين الترسانة الروسية والدعم الكوري الشمالي إلى بلورة نهج قتالي موحد، مكَّن القوات المشتركة من تنفيذ هجمات متواصلة أسفرت عن انهيار الدفاعات الأوكرانية داخل كورسك، وترسيخ السيطرة الروسية الكاملة على المنطقة.

3– استفادة موسكو من نقاط الضعف التكتيكية الأوكرانية: على الرغم من أن التنسيق الروسي الكوري الشمالي شكَّل عاملاً حاسماً في مسار المعارك، فإن الأخطاء الأوكرانية كانت بدورها سبباً مهماً في خسارة معركة كورسك؛ فبعد الهجوم الحدودي الناجح الذي شنته كييف في أغسطس 2024، تقدمت القوات الأوكرانية بسرعة داخل الأراضي الروسية، وتمكنت من السيطرة على عدد من القرى، بل تشير التقارير إلى أنها فرضت سيطرتها على ما يصل إلى 500 ميل مربع، غير أن هذا التوسع السريع اتضح لاحقاً أنه غير مستدام.

ومع إعادة تموضع القوات الروسية والكورية الشمالية وتنظيم صفوفها، أصبحت خطوط الإمداد الأوكرانية مكشوفة وعرضة للاستهداف، بل تفاقم الوضع سوءاً بعد قرار الولايات المتحدة تعليق مساعداتها العسكرية وتجميد تبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف مطلع مارس 2025، على خلفية توتر سياسي بين الرئيسَين ترامب وزيلينسكي. ومع فقدان أوكرانيا البيانات الفورية الخاصة بالاستهداف، وحرمانها من الذخائر المتطورة، واجهت قواتها صعوبات متزايدة في الحفاظ على فاعليتها العملياتية.

4– تراجع الدعم الأمريكي لأوكرانيا: بجانب الأخطاء الميدانية، شكَّل تدهور العلاقات بين واشنطن وكييف عاملاً إضافياً في تعميق أزمة أوكرانيا داخل كورسك، لا سيما بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعليق المساعدات العسكرية وتجميد التعاون الاستخباراتي؛ ما زاد من هشاشة الموقف الأوكراني في مارس الماضي؛ حيث تزامن ذلك مع فقدان نحو ثلثي الأراضي التي كانت القوات الأوكرانية قد سيطرت عليها داخل مقاطعة كورسك.

وخلال الشهر نفسه، خسرت أوكرانيا مدينة سودجا، التي كانت تعتبر أهم مركز حضري تسيطر عليه كييف على الجانب الروسي من الحدود، ولم تبقَ لها إلا رقعة ضيقة من الأرض؛ إذ جاء الهجوم الروسي الواسع في وقت حساس؛ إذ كانت الولايات المتحدة قد أوقفت بالفعل دعمها العسكري والاستخباراتي، وهو ما أكده مسؤولون أمريكيون وعسكريون أوكرانيون، مشيرين إلى أن غياب تبادل المعلومات حدَّ من قدرة كييف على استهداف مراكز القيادة والسيطرة الروسية، ومرافق الإمداد، وتجمعات الجنود بدقة.

تداعيات محتملة

مما لا شك فيه أن إعادة سيطرة روسيا على منطقة "كورسك" ستؤثر على مسار المفاوضات بين الجانبين، فضلاً عن تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وبيونج يانج. ويمكن قراءة أبرز تداعيات هذه التطورات على النحو التالي:

1– تعزيز الشراكة الروسية–الكورية الشمالية: أسهم التدخل المباشر لكوريا الشمالية في تعزيز أهميتها لدى موسكو على المستوى الدبلوماسي؛ حيث قد يُشكِّل هذا التعاون العسكري في كورسك بدايةً لتحالف استراتيجي أوسع بين البلدين. وفي بيانٍ للجنة العسكرية المركزية لحزب العمال الكوري، نُقل عبر وسائل الإعلام الرسمية، أكدت أن قرار كيم بإرسال قوات عام 2024 كان بمنزلة "فصل جديد من التاريخ، يجسد أرقى مستويات الصداقة العسكرية" بين الجانبين. ووفقاً للتقارير، فإن بيونج يانج تسعى إلى الحصول على مقابل ميداني من موسكو، يتمثل في مساعدات اقتصادية وتكنولوجيا عسكرية متقدمة، تشمل أنظمة الأقمار الصناعية وخبرات في تطوير الصواريخ.

ومن شأن هذه الشراكة أن تساهم في تسريع وتيرة التحديث العسكري لكوريا الشمالية، وتحد من فاعلية العقوبات الدولية المفروضة عليها، كما أن تشكيل محور روسي–كوري شمالي جديد قد يُقوِّض نفوذ الولايات المتحدة في كلٍّ من أوروبا الشرقية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويُلزِم واشنطن بإعادة النظر في أولوياتها الدفاعية.

2– انتزاع ورقة تفاوضية من أوكرانيا: شكَّلت خسارة مقاطعة كورسك نكسة حقيقية للموقف العسكري الأوكراني، وقلَّصت هامش المناورة في أيِّ مفاوضات سلام مستقبلية؛ إذ تزامنت هزيمة القوات الأوكرانية في كورسك مع تحولات أوسع في البيئة الجيوسياسية؛ حيث فقدت كييف واحدة من أبرز أوراقها التفاوضية، التي كانت تأمل توظيفها للضغط على موسكو في أي مسار دبلوماسي، خاصةً أن الهجوم الأوكراني على كورسك، في أغسطس 2024، كان يستهدف إجبار الكرملين على إعادة توزيع قواته بعيداً عن المعارك الشرسة في منطقتَي سومي ودونباس، اللتين تُعَدَّان من بؤر التوتر الأساسية منذ بداية الغزو الروسي الشامل عام 2022، بيد أن التطورات الأخيرة قلبت هذا الرهان رأساً على عقب.

3– إجبار أوكرانيا على تقديم المزيد من التنازلات لوقف الحرب: ارتباطاً بالنقطة السابقة، قد تجد الحكومة الأوكرانية نفسها مضطرةً إلى الاستجابة لمطالب الوسطاء الدوليين المتزايدة – وعلى رأسهم الولايات المتحدة – للقبول بشروط أقل من المأمول؛ حيث يُذكر أن واشنطن لوَّحت بنيتها الانسحاب من دور الوساطة خلال أيام ما لم يُسجَّل أي تقدم؛ ما يفرض ضغطاً إضافياً على كييف، التي ترفض المقترحات الأمريكية المطروحة للتفاوض، والتي تتضمن اعترافاً أمريكياً بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وتسليم المناطق التي تسيطر عليها موسكو مقابل وقف العمليات العسكرية، بجانب رفع فوري للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

4– تكثيف الضربات الروسية ضد أوكرانيا: بعد المكاسب التي حققتها روسيا في كورسك، يُتوقَّع أن تتجه القوات الروسية إلى تكثيف ضرباتها ضد الأهداف الأوكرانية. وفي هذا السياق، صرَّح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في مقابلة مع قناة "سي بي إس" الأمريكية بتاريخ 27 أبريل 2025، بأن بلاده "ستواصل استهداف المواقع التي يستخدمها الجيش الأوكراني وبعض المرتزقة وبعض المدربين الأجانب الذين أرسلتهم الدول الأوروبية لمساعدة كييف على تنفيذ عمليات ضد المدنيين في روسيا"، مشيراً إلى أن أوكرانيا تركز بشكل خاص على استهداف البنية التحتية المدنية في الأراضي الروسية، مضيفاً أنه "في منطقة كورسك الروسية، على سبيل المثال، لم يُسجَّل خلال الأشهر الستة الماضية أي هجوم أوكراني على أهداف عسكرية".

وفي ظل مساعي موسكو إلى فرض سيطرتها الكاملة على المقاطعات الأربع (دونيتسك ولوجانسك وزابوريجيا وخيرسون)، لا تزال السيطرة العسكرية الروسية غير مكتملة؛ إذ تهيمن روسيا حالياً على معظم منطقة لوجانسك، وثلثي دونيتسك، ونحو 73% من زابوريجيا وخيرسون. وإذا كانت روسيا تأمل الحصول على اعتراف أمريكي بسيادتها على هذه المناطق خلال المرحلة التفاوضية، فإنها قد تعمد إلى توسيع عملياتها العسكرية لضمان سيطرتها الكاملة عليها، لا سيما في ظل الضغوط الأمريكية على أوكرانيا لقبول تثبيت خطوط المواجهة الراهنة كأمر واقع.

5– تزايد المخاوف الأوروبية من التهديد الروسي: أظهر التقدم الروسي الأخير في كورسك مواطن ضعف مقلقة في العقائد العسكرية الغربية، خاصةً فيما يتعلق بكفاءة أنظمة المدفعية والدفاع ضد الطائرات المسيرة، وهو ما سيدفع مخططي الدفاع في الدول الأوروبية إلى إعادة تقييم جاهزيتهم إذا نشبت مواجهة مباشرة مع القوات الروسية أو حلفائها في نزاعات مستقبلية محتملة، لا سيما فيما يتعلق بإدماج الذخائر المتسكعة والطائرات المسيرة في بيئة المعركة.

في الوقت ذاته، كشفت الاعتمادية الأوكرانية على الاستخبارات والدعم اللوجستي الأمريكي عن محدودية القدرات الأوروبية الذاتية. وإذا استمر التراجع في دعم الولايات المتحدة، فإن ذلك سيجبر كلاً من الناتو والاتحاد الأوروبي على تكثيف التزاماتهما تجاه أوكرانيا – سواء من الناحية المادية أو المؤسسية – لموازنة الموقف. وتبدو هذه المسألة أكثر إلحاحاً بالنظر إلى تطلع روسيا – التي أصبحت أكثر جرأةً – إلى توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي في مناطق حيوية أخرى من العالم، تشمل القطب الشمالي، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا.

ختاماً، لا يتوقف تحرير روسيا مقاطعةَ كورسك عند كونه مجرد إنجاز ميداني، بل يعد نقطة تحول جيوسياسية فارقة، يُرجَّح أن تُفضِي إلى إعادة تشكيل موازين القوى في المعركة، وربما إعادة صياغة الأولويات الاستراتيجية في مسار مستقبل الحرب الأوكرانية، وكذلك مستقبل العلاقات مع أوروبا التي ربما باتت حذرةً تجاه تدخل كوريا الشمالية العسكري غير المسبوق والمدعوم بالعقيدة العسكرية الروسية المتقدمة.

كيف سيؤثر تحرير "كورسك" على محادثات تسوية حرب أوكرانيا؟