ميرال حسين

رداً على التهديدات الصاروخية المتزايدة من خصوم مثل الصين وروسيا، أطلق الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في يناير 2025 مبادرة طموحة عُرفت باسم "القبة الذهبية"، وهي نظام دفاع صاروخي فضائي متطور أوصى من خلاله وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" بإعادة النظر في منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية. وعلى الرغم من أن تقنيات اعتراض الصواريخ موجودة منذ عقود، فإن الدرع الصاروخي الذي يسعى "ترامب" إلى بنائه يُعد أكثر تعقيداً وتكلفة من سابقاته، مستلهماً في ذلك رؤية الرئيس الراحل "رونالد ريجان"، الذي كان قد أعلن في مارس 1983 عن "مبادرة الدفاع الاستراتيجي"، وهي خطة ثورية لإنشاء نظام دفاع صاروخي فضائي يقي الولايات المتحدة من الهجمات النووية، والتي عُرفت إعلامياً بـ "حرب النجوم"، لكنها توقفت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومع عودة هذا الطموح إلى الواجهة بعد أكثر من أربعة عقود، تسعى "القبة الذهبية" إلى تجاوز قدرات "القبة الحديدية" الإسرائيلية، التي تركز على اعتراضات قصيرة المدى، وذلك من خلال دمج صواريخ اعتراضية وأجهزة استشعار فضائية قادرة على استهداف الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ فرط الصوتية في مراحل الإطلاق الأولى. ومع تصاعد النقاشات حول هذا المشروع، تبرز تساؤلات حيوية بشأن مدى جدواه التكنولوجية، واستدامته الاقتصادية، وتأثيراته المحتملة على الاستقرار الاستراتيجي والتوازنات الجيوسياسية في المدى الطويل.دلالات متعددةتُشير التطورات التي يشهدها مشروع "القبة الذهبية" إلى تغييرات جوهرية في كيفية اكتشاف التهديدات الصاروخية ومواجهتها. ولهذه التطورات دلالات واسعة النطاق لاستراتيجيات الدفاع والاستقرار الجيوسياسي العالمي، وذلك على النحو التالي:1- تطور العقيدة الأمريكية من الردع إلى التحصين الكامل: يعكس مشروع "القبة الذهبية" انتقالاً في التفكير الاستراتيجي الأمريكي من "الردع النووي التقليدي" إلى فكرة "الوقاية الشاملة" عبر التكنولوجيا الفضائية، وذلك من خلال بناء قدرة دفاعية تمكن واشنطن من النجاة التامة من أي ضربة نووية محتملة. هذا الاتجاه يُبرز طموح الولايات المتحدة بأنها لم تعد تكتفي بالتوازن النووي، بل تسعى إلى تحييد التهديدات قبل وقوعها، وليس فقط موازنتها، وهو ما يمثل تحولاً جذرياً في عقيدة الدفاع القومي بإحياء أفكار كانت تُعتبر سابقاً غير واقعية في الاستراتيجية النووية. 2- بلورة الفضاء كساحة أساسية في الصراع الاستراتيجي: يشير مشروع "القبة الذهبية" إلى أن الولايات المتحدة باتت تعتبر الفضاء الخارجي ليس كمجال دعم تقني للعمليات العسكرية على الأرض فحسب، بل ميداناً قائماً بذاته للهيمنة والسيطرة وخوض معارك استراتيجية. فمن خلال نشر شبكة أقمار صناعية للدفاع عن الأرض، تعلن واشنطن عن نيتها ترسيخ وجود دائم ومسلح في المدار الأرضي المنخفض، بما يعادل إنشاء "مضاد صواريخ فضائي" يحاكي قواعد الدرع الصاروخي الأرضي، ولكن من الأعلى، وهو ما يُعيد تعريف الجغرافيا الاستراتيجية.3- مساعي واشنطن للتأكيد على هيمنتها التكنولوجية عالمياً: يكشف مشروع "القبة الذهبية" أن واشنطن ترى في التكنولوجيا المتقدمة – لا سيما الذكاء الاصطناعي، الأقمار الصناعية، والمعالجة اللحظية للبيانات – وسيلتها الأساسية للحفاظ على تفوقها الجيوسياسي. فالاعتماد على شركات مثل بالانتير وأندريل وسبيس إكس يُشير إلى أن التنافس مع الصين وروسيا لن يُحسم بالعدد أو الحجم، بل بالابتكار والسرعة والدمج بين القطاعات. وبالتالي، فإن مثل هذا المشروع هو بمثابة رسالة واضحة أن "التفوق التكنولوجي يساوي تفوق جيوسياسي". 4- صعود القطاع الخاص كفاعل رئيسي في الأمن القومي الأمريكي: يوضح مشروع "القبة الذهبية" مدى اندماج الشركات الخاصة في البنية الاستراتيجية للأمن القومي الأمريكي؛ حيث لم تعد وزارة الدفاع تعتمد فقط على شركات تصنيع السلاح التقليدية، بل على شركات تقنية بيانات وذكاء اصطناعي. وهذا يعكس اتجاهاً أعمق نحو خصخصة أدوات الردع والدفاع، مما يعيد تعريف طبيعة الدولة العسكرية الحديثة، بل ويحول الفضاء الأمني من "احتكار الدولة" إلى شراكة تكنولوجية معقدة.5- تزايد أهمية الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري: أحد أهم دلالات مشروع "القبة الذهبية" هو التكامل بين الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي في تحليل التهديدات والرد عليها خلال ثوانٍ. هذا الاتجاه يؤكد تصاعد دور "الخوارزميات" في اتخاذ قرارات الحرب والدفاع، ويعني انتقالاً من القرار البشري المؤسسي البطيء إلى الاستجابة الآلية فائقة السرعة. وبالتالي، تصبح "السرعة الحسابية" عاملاً حاسماً في صراعات القرن الواحد والعشرين، وتُعد ميزة لا يمكن للصين أو روسيا تجاهلها في تطوير نماذج رد مشابهة.6- تجديد عقيدة "الاستثنائية الأمريكية" في الحماية الذاتية: إذ يحمل مشروع "القبة الذهبية" دلالة سياسية وأيديولوجية تتمثل في تعزيز فكرة أن الولايات المتحدة يجب أن تكون منيعة ضد الأخطار الخارجية دون الحاجة للاعتماد على التوازنات الدولية أو الاتفاقيات. هذه الفكرة تعكس عمق التيار المحافظ الأمريكي الذي يؤمن أن التفوق الأمريكي يجب أن يكون ذاتي المنشأ، مكتفياً بذاته، ومستقلاً عن القيود الأخلاقية أو الدولية، خاصةً مع تراجع الثقة بالمعاهدات كضامن للسلام.7- إضفاء الطابع المؤسسي على مفهوم الحرب الدائمة: إذ إن بناء منظومة قبة ذهبية تعمل على مدار الساعة في الفضاء يعني أن الولايات المتحدة تتحضر لحالة استعداد دائم ومطلق، حتى في زمن السلم. وهذا يدل على ترسيخ عقيدة أن التهديد "دائم"، وأن التفوق لا يعني فقط الانتصار في الحرب، بل الاستعداد لمنعها دوماً. بهذا، يُعاد تعريف "السلام" على أنه ليس غياب الحرب، بل استمرار الحرب بأدوات رقابة ومنع مُسبقة في الفضاء. كما أن إعلان ترامب أن بناء المنظومة سيستغرق ثلاث سنوات، وأن تكلفتها ستصل إلى 175 مليار دولار، يُظهر ميلاً نحو تخصيص موارد ضخمة لمجالات ذات طابع ردعي طويل الأمد، رغم عدم وجود تهديد مباشر أو حرب وشيكة. تداعيات واسعةيحمل مشروع "القبة الذهبية" تداعيات استراتيجية بعيدة المدى على التوازنات الدولية والتسابق نحو التسلح الفضائي؛ إذ من شأن المشروع أن يُطلق سباقاً تقنياً وعسكرياً جديداً قد يغير طبيعة الصراعات ويزيد من تعقيد الأمن العالمي، وبالتالي سوف يتم تسليط الضوء على أبرز هذه التداعيات على النحو التالي:1- التوسع في اتجاهات عسكرة الفضاء: إذ يُمثل مشروع "القبة الذهبية" خطوة هامة نحو عسكرة الفضاء. وبذلك، تعلن الولايات المتحدة الفضاء كمجال جديد للدفاع الصاروخي، مع خطة نشر مجموعات من الصواريخ الاعتراضية وأجهزة الاستشعار في المدار الفضائي، مما قد يُشكل هذا سابقة لدول أخرى لتبني نفس النهج، مما قد يُحول الفضاء إلى ساحة حرب محتملة، بل ويزيد من احتمالات تطوير أسلحة مضادة للأقمار الصناعية أو أنظمة تشويش إلكتروني متقدمة، الأمر الذي يهدد حتى الاستخدامات المدنية للفضاء، من اتصالات وملاحة وإنترنت. 2- تصاعد سباق التسلح النووي والردع المتبادل: من أبرز التداعيات غير المباشرة لتطوير "القبة الذهبية" هو تهديد التوازن القائم على "الردع النووي المتبادل". فإذا نجحت الولايات المتحدة في تحييد التهديدات النووية الخارجية، فإن الخصوم مثل روسيا والصين قد يشعرون بأن مصداقية ترساناتهم النووية تتآكل. وبالتالي، هذه المخاوف قد تدفعهم إلى تطوير صواريخ أسرع، أكثر تنقلاً، أو مزودة بقدرات شبحية تتفادى الرصد الفضائي. بل إن بعض الدول قد تتجه إلى اعتماد عقيدة "الضربة الأولى" خوفاً من أن تُحرم لاحقاً من قدرتها على الردع، مما يُشكل خطراً مباشراً على الاستقرار الاستراتيجي العالمي.3- احتمالية تعزيز التحالف الدفاعي بين روسيا والصين: لا يمكن النظر إلى مشروع بحجم القبة الذهبية بمعزل عن موازين القوى الدولية؛ فقد تُفسره الدول الأخرى، خصوصاً الصين وروسيا، كخطوة هجومية تحت مسمى الدفاع، وقد تسعى إلى تشكيل تحالفات جديدة مضادة. هذا قد يؤدي إلى إعادة تشكيل توازنات أمنية إقليمية، مثل توثيق التعاون الصيني-الروسي في مجال الدفاع الفضائي، أو حتى إطلاق سباق مماثل لتطوير دروع صاروخية إقليمية في آسيا والشرق الأوسط، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني العالمي. 4- اعتبار الصين المشروع الأمريكي الجديد تهديداً للاستقرار العالمي: تنظر الصين بعين الارتياب تجاه مشروع القبة الذهبية الأمريكية، ولذا قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، خلال مؤتمر صحفي يوم 21 مايو الجاري، أن مشروع القبة الذهبية "ينتهك بدرجة عالية مبدأ الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي". وأضافت أن المشروع "يزيد من خطر تحويل الفضاء إلى ساحة معركة، ويهدد بإطلاق سباق تسلح جديد، كما يهزّ أسس الأمن الدولي ونظام الحد من التسلح"، وطالبت الولايات المتحدة بالتخلي عن هذا النظام. 5- ضغوط اقتصادية على الميزانية العسكرية الأمريكية: مع إعلان الرئيس ترامب أن مشروع القبة الذهبية سيستغرق ثلاث سنوات، وستصل تكلفته إلى 175 مليار دولار، وذلك مع إشارة تقارير إلى ارتفاع التكلفة التشغيلية لهذا المشروع، يبدو أن المشروع يشكل عبئاً اقتصادياً كبيراً على الميزانية العسكرية الأمريكية؛ حيث إن هذا الالتزام المالي الهائل يفتح الباب لتساؤلات حيوية حول جدوى المشروع في ظل احتمال تطوير خصوم الولايات المتحدة تقنيات للتشويش عليه أو الالتفاف حوله، مما يضع فعاليته موضع شك. وبينما يحظى المشروع بدعم من الحزبين، فإن استدامة تمويله تتطلب إرادة سياسية قوية وتأييداً شعبياً واسعاً، لا سيما في ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة داخل الولايات المتحدة، التي تدفع بعض الأصوات للمطالبة بإعادة ترتيب أولويات الإنفاق القومي. 6- تعميق الانقسام السياسي الأمريكي حول الأمن القومي: من الناحية المحلية، يعكس مشروع "القبة الذهبية" توجهاً أيديولوجياً محافظاً يقوده ترامب ومستشاروه، يتمثل في تحصين أمريكا من أي تهديد خارجي. لكن هذا التوجه قد يُثير انقساماً داخلياً في حال تعارضه مع أولويات الديمقراطيين أو مجموعة من الرأي العام التي ترى أن الاستثمار في التعليم، الصحة أو البنية التحتية يجب أن يتقدم على المشاريع الفضائية المكلفة. وقد يُستخدم المشروع لاحقاً كورقة انتخابية في النقاشات السياسية حول دور القوة العسكرية والتكنولوجيا في حماية الولايات المتحدة. وإجمالاً لما سبق، فإن مشروع "القبة الذهبية" يمثل أكثر من مجرد مشروع تكنولوجي دفاعي؛ بل إنه انعكاس لتحولات استراتيجية عميقة في بنية النظام الدولي. فعلى الرغم من أنه يأتي في إطار سعي أمريكي لتأمين تفوق طويل الأمد، إلا أنه يحمل في طياته احتمالات خطرة لتقويض الاستقرار الاستراتيجي، وإشعال سباقات تسلح جديدة، وإضعاف المنظومة القانونية الدولية للفضاء. وبالتالي، فإن السيناريوهات المستقبلية متباينة؛ فمن جهة قد يؤدي نجاح المشروع إلى تغيير ميزان القوى العالمي وتعزيز الردع الأمريكي في مواجهة القوى الصاعدة، خاصة إذا تم تطوير منظومة فعالة تواكب التهديدات الجديدة مثل الصواريخ الفرط صوتية. ومن جهة أخرى، فإن المضيّ في المشروع دون ضمانات عملية لفاعليته قد يدفع الخصوم إلى سباق تسلح فضائي جديد، ويستنزف الموارد الأمريكية على حساب أولويات داخلية ملحة. وبالتالي، يقع مستقبل المجتمع الدولي بين مطرقة الطموح التكنولوجي وسندان الواقعية الجيوسياسية، لذلك يبقى مشروع "القبة الذهبية" مشروعاً محفوفاً بالفرص والمخاطر على حد سواء.

تداعيات خطة ترامب لبناء نظام صاروخي جديد لتأمين الولايات المتحدة