عبد الله جمال

دخلت الحرب الروسية–الأوكرانية عامها الثالث، ولا تزال تتسم بمزيد من التعقيد والاتساع في مساراتها العسكرية والسياسية؛ ففي تطور لافت يوم 8 يونيو 2025، أعلنت موسكو أنها شنت هجوماً على منطقة "دنيبروبيتروفسك" الواقعة في وسط شرق أوكرانيا، وبعد ذلك أُعلِن عن السيطرة على بعض الأراضي داخل المنطقة. وصرَّح الكرملين بأن هذه العمليات العسكرية جاءت في إطار ما وصفه ببدء إنشاء "منطقة عازلة" للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، في خطوةٍ تُعد تصعيداً إقليمياً ملحوظاً، خاصةً في ظل تعثر محادثات السلام. وفي السياق ذاته، جاء هذا التصعيد متزامناً مع مطالب روسية متزايدة لكييف تتضمن انسحاباً كاملاً من خطوط التماس، وإنهاء كل أشكال الدعم العسكري الغربي، وتخلي أوكرانيا عن تطلعاتها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.دوافع التوسعيمثل التوغل الروسي في "دنيبروبيتروفسك" تصعيداً استراتيجياً وجغرافياً نوعياً؛ إذ لم تكن هذه المنطقة من ضمن المناطق التي سبق أن أعلنت روسيا ضمها أو رغبتها في السيطرة عليها، لكنها برزت مؤخراً كهدف بالغ الأهمية؛ لعدة اعتبارات رئيسية، منها:1– توسيع النطاق الجغرافي للمنطقة العازلة: تعتبر دنيبروبيتروفسك ذات أهمية جغرافية واستراتيجية بالغة؛ إذ تمثل ممراً لوجستياً حيوياً يربط بين منطقتي دونيتسك وزابوريجيا المتنازع عليهما وبين العمق الأوكراني. ومن هذا المنطلق، يتماشى هذا التحرك مع أحد الأهداف الجوهرية للكرملين منذ بدء الحرب، المتمثل في خلق منطقة عازلة وممرات برية تربط المناطق الشرقية بالمناطق الجنوبية. وبناءً على ذلك، تمنح السيطرة على دنيبروبيتروفسك ميزة حاسمة لروسيا تُمكِّنها من شل قدرة القوات الأوكرانية في الشرق، وقطع طرق الإمداد الحيوية، وربما تطويق مواقع عسكرية أوكرانية أساسية. وفي هذا الصدد، صرح المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف، بأن التوغل الروسي في دنيبروبيتروفسك يندرج بالفعل ضمن إطار جهود إنشاء منطقة عازلة، مؤكداً أن هذه الخطوة تهدف إلى حماية المناطق التي سبق أن أحكمت موسكو سيطرتها عليها في جنوب وشرق أوكرانيا.2– خدمة الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا: ينسجم التحرك الروسي في دنيبروبيتروفسك مع النمط العام للاستراتيجية الروسية القائمة على التقدم التدريجي والاستنزاف الطويل الأمد؛ إذ تسعى موسكو إلى تكريس واقع ميداني جديد من خلال بسط سيطرتها على المزيد من الأراضي؛ ما يعزز موقفها التفاوضي ويفرض ضغوطاً متزايدة على كييف من الناحيتين العسكرية والنفسية.وقد أظهرت طبيعة التحرك العسكري حجم الجدية والموارد التي حشدتها موسكو، لا سيما باستخدامها وحدات مدرعة متقدمة مثل "فرقة الدبابات التسعين"؛ ما يدل على أن العملية ليست مجرد توغل محدود، بل امتداد لحملة عسكرية كبرى. وتكمن دلالة هذا التحرك في أنه يأتي بعد نجاح روسيا في الاستيلاء على أكثر من 190 كم مربع من منطقة سومي خلال أقل من شهر، وفقاً لبيانات الخرائط الأوكرانية. 3– الرد على التصعيد الأوكراني في عملية "سبايدر ويب": أحد المحركات الرئيسية للهجوم الروسي على دنيبروبيتروفسك يتمثل في طبيعة الرد على تصاعد استخدام أوكرانيا أساليب الحرب غير التقليدية، وخاصةً من خلال الطائرات المسيرة والهجمات العميقة داخل الأراضي الروسية. وقد تجلى ذلك بوضوح في عملية "سبايدر ويب"، التي تمثلت في سلسلة من الضربات الجوية نفذتها كييف في بداية شهر يونيو 2025 باستخدام طائرات بدون طيار، استهدفت خمس قواعد جوية استراتيجية داخل العمق الروسي، في سابقة نوعية وُصفت بأنها نقطة تحول في حرب المسيرات. هذه الضربات لم تكن مجرد تطور تكتيكي، بل حملت طابعاً استراتيجياً واضحاً، لا سيما بعد أن تسببت في تعطيل أو تدمير أكثر من 40 طائرة استراتيجية روسية، منها طائرات "Tu–95MS" و"Tu–22M3"، القادرتان على حمل صواريخ كروز نووية؛ ما أدى إلى صدمة مزدوجة لموسكو: نفسية وعسكرية معاً.ومن اللافت أن هذه الهجمات نفذتها طائرات مسيرة ذاتية التشغيل تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي طورتها شركة "سوارمر" الأوكرانية الناشئة، وهو ما كشف عن ضعف في دفاعات العمق الروسي، وأظهر قدرة أوكرانيا على شن هجمات دقيقة وطويلة المدى. 4– استغلال تعقيد مسار المفاوضات الروسية–الأوكرانية: لم تسفر الجولات المتكررة من محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا عن أي اختراق جوهري، في ظل تشبث كل طرف بمواقفه المتضادة؛ فقد رفضت كييف بشكل قاطع المطالب الروسية، التي تتضمن اعترافاً بشرعية ضم خمس مناطق أوكرانية، معتبرةً إياها خطوطاً حمراء لا يمكن التفاوض بشأنها. وفي ظل هذا الجمود التفاوضي، تُوظف موسكو تحركاتها الميدانية كورقة ضغط سياسية في أفق أي مفاوضات مستقبلية، حتى ترفع من سقف الضغوط على كييف لتقديم المزيد من التنازلات.هذا وقد عبر عدد من المسؤولين الروس عن هذا التوجه بوضوح، وفي مقدمتهم ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الذي أكد أن أوكرانيا إذا لم تقر بـ"الواقع الجديد على الأرض"، فإنها ستتكبد مزيداً من الخسائر الإقليمية، مشيراً إلى أن هجوم "دنيبروبيتروفسك" دليل على جدية موسكو في إعادة تشكيل خارطة السيطرة الميدانية بالقوة. 5– توظيف الهجوم في الحرب النفسية داخل أوكرانيا: يتجاوز الهجوم الروسي على دنيبروبيتروفسك الأهداف العسكرية البحتة، ليأخذ طابعاً نفسياً مقصوداً يندرج ضمن استراتيجية موسكو لشن حرب نفسية شاملة ضد أوكرانيا؛ حيث إن اختيار منطقة مكتظة بالسكان، وتعد أيضاً من أهم المراكز الصناعية في البلاد، يحمل رسالة واضحة مفادها أنه " ليس في أوكرانيا ملاذ آمن، ولا مكان بعيد عن مرمى النيران الروسية". 6– الأهمية الاقتصادية لدنيبروبيتروفسك بالنسبة إلى أوكرانيا: تشكل منطقة دنيبروبيتروفسك واحدة من أهم الركائز الاقتصادية والصناعية في أوكرانيا؛ ما يجعلها هدفاً استراتيجياً بالغ الأهمية في سياق الحرب؛ فهي تعد مركزاً للصناعات الثقيلة، التي تشمل التعدين والمعادن والتصنيع العسكري، وتضم قاعدة سكانية كبيرة قُدِّرت بنحو ثلاثة ملايين نسمة قبل بدء الهجوم الروسي. وبناءً على ذلك، تدرك موسكو أن ضرب دنيبرو يعني ضرب صميم الاقتصاد الأوكراني؛ فمن خلال تعطيل منشآت الطاقة ومحطات النقل ومرافق الإنتاج، ستُلحِق روسيا ضرراً بالغاً باللوجستيات العسكرية الأوكرانية، ولا سيما إضعاف قدرة كييف على إدارة الجبهة الداخلية. 7– تأكيد الضعف النسبي للدعم الغربي لكييف: يحمل الهجوم على "دنيبروبيتروفسك" أبعاداً رمزية تتجاوز الساحة الأوكرانية، ليوجه رسالة صريحة إلى العواصم الغربية؛ ففي ظل التوترات السياسية الداخلية في كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، واستمرار النقاشات حول حدود الدعم الممكن تقديمه لأوكرانيا؛ جاء التصعيد الروسي كاختبار مباشر لمدى التزام الغرب تجاه كييف. ومن خلال توسيع العمليات إلى مناطق لم تكن سابقاً ضمن مناطق النزاع، تسعى موسكو إلى إظهار أن الحرب لم تفقد زخمها، وأن الكرملين لا يزال يحتفظ بزمام المبادرة، وهو ما من شأنه أن يربك حسابات صانعي القرار في الغرب، ويدفعهم إلى إعادة النظر في جدوى الاستمرار في دعم أوكرانيا بالزخم نفسه، لا سيما في ظل ما يوصف بـ"إرهاق الحرب". وقد بدا ذلك واضحاً في تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي انتقد عبر قناته على تيليجرام ضعف الرد الغربي على التصعيد الروسي الأخير، مشيراً ضمناً إلى التردد الأمريكي والأوروبي في اتخاذ مواقف حاسمة.8– التنفيذ الفعلي للتهديدات الروسية ضد أوكرانيا: عقب تنفيذ أوكرانيا عملية "سبايدر ويب"، صعَّد الرئيس بوتين لهجته، معلناً صراحةً أن موسكو سترد على سلسلة الهجمات الأوكرانية الأخيرة؛ وذلك خلال الاتصال الهاتفي الذي أجراه يوم 4 يونيو 2025 مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ حيث شدد بوتين على أن الرد الروسي بات حتمياً ولا مفر منه، كما تبنى بوتين نبرة شديدة غير معتادة، متهماً أوكرانيا بمحاولة إطالة أمد الحرب من خلال العنف المستمر. من جانبه، سبق أن ألمح نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف، إلى أن روسيا بصدد استكشاف خيارات عسكرية مباشرة.9– الضعف الاستراتيجي للدفاعات الأوكرانية في دنيبروبيتروفسك: خلال أكثر من عشر سنوات من الصراع، لم تجد أوكرانيا نفسها مضطرة إلى خوض معارك ميدانية مباشرة على أرض منطقة "دنيبروبيتروفسك" حتى اللحظة الراهنة، بيد أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن تلك المعادلة قد تغيرت؛ فقد أفاد عدد من القادة العسكريين الأوكرانيين لوكالة "فرانس برس" في وقت سابق بأن طبيعة التضاريس الجغرافية في هذه المنطقة، التي تتسم بكونها منبسطة إلى حد كبير، وتفتقر إلى العوائق الطبيعية أو التجمعات السكانية الكثيفة التي يمكن استغلالها كمواقع دفاعية، تتيح للجيش الروسي إمكانية التقدم بوتيرة سريعة نسبياً.وتجدر الإشارة إلى أن روسيا سبق أن استخدمت مدينة دنيبرو كحقل اختبار لصاروخها "التجريبي" المعروف باسم "أوريشنيك" في أواخر عام 2024، مدعيةً حينها أنها استهدفت منشأة لإنتاج الطائرات. هذه التجربة العسكرية عززت من فهم روسيا لنقاط الضعف العملياتية في تلك المنطقة، وربما ساعدتها في التحضير للهجوم الحالي.تغيير نوعيختاماً، فإن الهجوم الروسي على "دنيبروبيتروفسك" لم يكن خطوة عدائية عشوائية، بل تحركاً محسوباً في إطار استراتيجيات معقدة تشمل الأبعاد العسكرية والسياسية والنفسية؛ حيث إن الهجوم الروسي على المنطقة يعد جزءاً من خطة شاملة تهدف إلى فرض تغيير نوعي في الموقف الدفاعي الأوكراني، واستدراج القوات الأوكرانية للابتعاد عن جبهات قتال أكثر أهميةً، وتعزيز موقف موسكو التفاوضي في المحافل الدولية، كما يمكن النظر إليه باعتباره تمهيداً لعملية ضم محتملة أو احتلال طويل الأمد للمنطقة. ومن ناحية أخرى، قد يُستخدَم هذا الهجوم كإجراء تحذيري، يهدف إلى توجيه إنذارات إلى أوكرانيا من مغبة تنفيذ هجمات أعمق داخل الأراضي الروسية.

لماذا تتجه روسيا نحو التوسع العسكري في منطقة "دنيبروبيتروفسك"؟