كرم سعيد

استضافت إسطنبول في 15 مايو 2025 أول جولة من المفاوضات الروسية الأوكرانية المباشرة بعد تعثُّر ممتد منذ فبراير 2025، في خطوةٍ تعكس تطلع تركيا إلى دعم موقعها وسيطاً لتسوية الأزمة الأوكرانية، كما يكشف اختيار إسطنبول مركزاً للتفاوض عن ثقة طرفي الأزمة والقوى الدولية بتركيا كوسيط محايد؛ فمنذ اندلاع الحرب في عام 2022، حافظت أنقرة على نهجها الدبلوماسي المتوازن بين موسكو وكييف، وهو ما تجلى في دورها المحوري في إبرام اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود في يوليو 2022.وبالتوازي، سعت أنقرة، طوال الأشهر التي خلت، ومع بدء إدارة ترامب، إلى الانخراط المكثف لتسوية الأزمة الأوكرانية، لبناء بيئة خصبة لمعالجة مخاوف الطرفين، وإيجاد أرضية مشتركة لتسوية عادلة للأزمة؛ ما جعلها منصة مقبولة للحوار. وفي ظل التطورات المتسارعة للحرب الأوكرانية، فإن ثمة دلائل متعددة على تبني أنقرة نهجاً تعاونياً مع الشركاء الدوليين لمعالجة الأزمة؛ الأمر الذي لم يُعَد يقتصر على مجرد المواقف الدبلوماسية والاقتصادية، بل بدا واضحاً في سعي تركيا إلى حشد المواقف الدولية والإقليمية لضمان وقف الحرب.نهج متوازن<h4 class="ql-align-justify ql-direction-rtl">ثمة العديد من المؤشرات الدالة على تبنى أنقرة نهجاً متوازناً بين موسكو وكييف منذ اندلاع الحرب بينهما في عام 2022، ويتمثل أبرزها فيما يلي:</h4>1– الدعم الغربي للوساطة التركية: حظيت الوساطة التركية بين موسكو وكييف بدعم لافت من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية، خاصة بعد تأييد أنقرة مبادرة ترامب لإنهاء الحرب، وهو ما دفع واشنطن إلى تأكيد أن تركيا في موقع فريد يتيح لها لعب دور فعال في الوساطة، كما أن تركيا في رؤية الدول الأوروبية تمثل الوسيط الأكثر ملاءمةً وموثوقيةً في هذه المرحلة؛ ولذلك لم تكتفِ أوروبا بمناقشة الدور الذي يمكن أن تلعبه أنقرة في جهود السلام، بل سعت إلى تحفيز القيادة التركية على رعاية المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف، كما أكد الأمين العام لحلف الناتو مارك روتي في 15 مايو 2025 أن تركيا تلعب دوراً كبيراً في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا؛ لأنها تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الشركاء المعنيين. 2– ثقة طرفي الأزمة بوساطة أنقرة: تتمتع تركيا بمكانة استراتيجية ومميزة لدى روسيا وكييف، وهو ما أتاح لها التواصل المستمر مع الطرفين، خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ويعود ذلك في جانب واسع منه إلى الثقة النسبية التي تحظى بها تركيا لدى الطرفين؛ إذ ينظر إليها كثير من الأوكرانيين والروس كوسيط مقبول، وقادر على الدفع نحو تسوية متوازنة. ويشار إلى أن تركيا في رؤية موسكو وكييف تمثل بيئة مثالية لأي مفاوضات بين الجانبَين استناداً إلى تحركاتها الدبلوماسية خلال الفترة الماضية؛ حيث تمكنت من تحقيق اختراق ملموس في مفاوضات إسطنبول 2022، التي انتهت بحل معضلة تصدير الحبوب الأوكرانية بتأييد روسي. إضافة إلى ذلك، توسطت أنقرة في عمليات تبادل أسرى كتيبة آزوف الأوكرانية، الذين تسلمهم الرئيس زيلينسكي عشية زيارته إلى تركيا في يوليو 2023. 3– تأكيد أنقرة أهمية الحلول الدبلوماسية للأزمة الأوكرانية: خلافاً لكثير من الدول الأوروبية التي أكدت أهمية توظيف القوة الصلبة لمعالجة الأزمة الأوكرانية، تبنت تركيا مقاربة دبلوماسية تعتمد على أهمية إعلاء الحوار بين موسكو وكييف، وضرورة توفير حاضنة لتفكيك القضايا الخلافية بين الطرفين، بما يضمن بناء السلام وإنهاء الحرب، وهو ما عكسه إعلان تركيا عن استعدادها لتقديم كافة أشكال الدعم الدبلوماسي والسياسي للتوسط لإنهاء الحرب الأوكرانية من خلال رعاية محادثات سلام بين الطرفين. وفي هذا الصدد، أكد الرئيس التركي في منتصف مايو 2025 أن بلاده تمتلك "الإرادة" لاستئناف الحوار المباشر بين طرفي الأزمة، وهي "مستعدة لتقديم كل أشكال الدعم في جميع مراحل التفاوض".4– توازنات مواقف أنقرة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية: بالنظر إلى الموقف التركي، منذ بداية التصعيد حول أوكرانيا في 14 فبراير 2022، نجد أن تركيا تتبنى موقفاً متوازناً؛ ففي الوقت الذي تؤكد فيه رفضها أي غزو عسكري روسي لأوكرانيا مع إبداء الاستعداد لتقديم الدعم لكييف بالسلاح والمسيرات، بالإضافة إلى رفض الاعتراف بانضمام شبه جزيرة القرم ومنطقة دونباس الأوكرانية إلى روسيا، فإن أنقرة من ناحية أخرى رفضت الانضمام إلى العقوبات الغربية ضد روسيا، ناهيك عن الانخراط مع موسكو في مشاريع الطاقة وتعزيز المبادلات التجارية، وكذلك البرنامج النووي السلمي التركي الذي تقدم خلال الأزمة؛ حيث تشرف شركة "روساتوم الروسية" على محطة الطاقة النووية التركية "أكويو"، وهو ما وفَّر لها فرصاً أكبر لطرح نفسها وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا.عوامل مفسرةثمة العديد من العوامل التي تفسر حرص تركيا على لعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:1– دعم المكانة الدولية لأنقرة: تسعى تركيا من خلال استضافتها المفاوضات الحالية لتسوية الأزمة الأوكرانية إلى تعزيز مكانتها الدولية، ودعم دورها الدبلوماسي بشكل أكبر مقارنةً بوساطتها في اتفاق الحبوب، مستفيدةً من الدعم الأمريكي والأوروبي لوساطتها تجاه طرفي الأزمة الأوكرانية، وهو ما أضفى ثقلاً دولياً على الدور التركي، كما عبرت الأمم المتحدة عن تثمينها التحركات التركية حيال الأزمة الأوكرانية؛ حيث رحب الأمين العام للأمم المتحدة برعاية تركيا المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف. يأتي هذا فيما تعمل تركيا على كسب التأييد الدولي والإقليمي لتحركاتها في سوريا ما بعد الأسد، ومن ثم يبدو أن النظام الحاكم في تركيا يحاول إعادة بناء صورته الذهنية باعتباره داعماً للسلام العالمي؛ وذلك بإبراز دوره في تسكين أوجاع الأزمة الأوكرانية. 2– إلجام الاضطرابات الأمنية في البحر الأسود: لا تنفصل رعاية تركيا المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف عن حسابات أمنية واستراتيجية تثير قلق تركيا؛ إذ إن استمرار الحرب ينعكس سلباً على أمن البحر الأسود؛ ما يعني استمرار تصاعد المخاطر التي تهدد طرق التجارة والطاقة الحيوية لأنقرة بجانب الارتدادات العكسية على الاقتصاد التركي. ومن ثم فإن تفكيك الأزمة الأوكرانية في رؤية تركيا يعني تعزيز حالة الاستقرار في الفضاء الجيوستراتيجي لمنطقة البحر الأسود ذات الأهمية الحيوية لمسارات نقل إمدادات الطاقة والتجارة. 3– تعزيز العلاقة مع إدارة ترامب: تسعى تركيا إلى توظيف استضافتها اللقاءات المباشرة بين موسكو وكييف إلى تأكيد مركزية دورها بالنسبة إلى الأمن الأمريكي، وأهمية موقعها في استراتيجية إدارة ترامب التي تسعى إلى إنهاء الحرب الأوكرانية. وعلى ضوء ذلك تراهن تركيا على أن تبنيها موقفاً داعماً لتسوية الأزمة الأوكرانية ومتماهياً مع سياسات ترامب، سيؤدي إلى تحسين علاقاتها بالولايات المتحدة وحل خلافاتها معها، التي يأتي على رأسها استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات "إف–35" بالإضافة إلى تسريع وتيرة تمرير صفقة شراء 40 مقاتلة أمريكية جديدة من طراز "إف–16" المتقدمة، بجانب دفع الولايات المتحدة نحو دعم التحركات التركية في سوريا من جهة، وتوظيف نجاحات دورها وسيطاً في الحرب الأوكرانية كورقة رابحة لإقناع واشنطن بالتخلي نهائياً عن دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من جهة أخرى.4– تأمين المصالح الاستراتيجية مع موسكو: يرجع حرص تركيا على رعاية المفاوضات المباشرة بين كييف وموسكو إلى رغبة أنقرة في إنهاء الحرب بين البلدين سلمياً؛ إذ إن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى تصاعد القضايا الخلافية مع موسكو، وهو ما قد ينعكس سلباً على العلاقات التركية المتنامية مع روسيا على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ فتركيا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي لسد احتياجاتها من الطاقة، وتخشى تركيا من حدوث اضطرابات في الإمدادات الروسية، لا سيما في ظل إصرار أنقرة على رفض الاعتراف بسيادة موسكو على القرم، وكذلك الدعم العسكري التركي لكييف، كما تمثل روسيا نقطة استناد استراتيجية للسياحة التركية، بالإضافة إلى أن روسيا تعتبر سوقاً مهمةً للمنتجات الزراعية التركية، كما تخشى تركيا من التأثيرات السلبية لاندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا على التنسيق القائم بين موسكو وأنقرة في مناطق الصراعات، في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وآسيا الوسطى.5– تجاوز إشكاليات الداخل التركي: تشهد الفترة الحالية تراجعاً لافتاً في شعبية حزب العدالة والتنمية؛ وذلك بعد اتهامات الرئيس أردوغان بالوقوف وراء اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، بعدما أعلن عن ترشحه للانتخابات الرئاسية 2028، بالإضافة إلى تراجع مؤشرات الاقتصاد، واستمرار حالة الاستقطاب السياسي في الداخل؛ الأمر الذي دفع العديد من الأصوات في الداخل التركي إلى المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة. ومن ثم تمثل رعاية المفاوضات المباشرة بين موسكو وكييف فرصة مواتية للنظام الحاكم للتغطية على إخفاقات الداخل، بل محاولة بناء رصيد سياسي يُمكن استثماره في قطع الطريق على الحضور المتزايد للخصوم المحليين.مدخل ضروريختاماً، يمكن القول إن الدور التركي كوسيط في الأزمة الأوكرانية مرشح للصعود في ظل تأييد أمريكي–أوروبي للوساطة التركية لإنهاء الحرب، ومعالجة الملفات الشائكة بين موسكو وكييف؛ ولذلك ستعمل تركيا على بذل ما هو مطلوب في محاولةٍ لإنجاح المفاوضات الحالية، باعتبار أن ذلك يمثل مدخلاً مهماً في التوقيت الحالي، سواء لدعم المكانة الدولية لتركيا أو على الأقل توظيفها كورقة رابحة لتحقيق انتصار داخلي.

لماذا تهتم تركيا بالوساطة بين موسكو وكييف؟