كرم سعيد

مثلت مجموعة من الوقائع والمتغيرات المحلية والخارجية خلال الفترة الأخيرة أسباباً دافعة لتعاطٍ مختلف من قبل أكراد سوريا مع أنقرة، ويدلل على ذلك تصريحات مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في 30 مايو 2025، والتي كشف فيها عن اتصالات مباشرة مع تركيا، وعن انفتاحه على تحسين العلاقات معها، بما في ذلك عقد لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ويعد تصريح عبدي تطوراً علنياً غير مسبوق، نظراً للتاريخ العدائي الذي طبع العلاقة بين "قسد" وأنقرة. ويمكن تفسير سعي "قسد" إلى الانفتاح على تركيا من خلال عدد من المداخل، يأتي على رأسها الاتساق مع طبيعة المرحلة الحالية في سوريا؛ حيث تغلغل نفوذ أنقرة في البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد. يُضاف إلى ذلك التفاهمات التركية مع إدارة ترامب بشأن سوريا، فضلاً عن التحول اللافت في الاستراتيجية الغربية تجاه "قسد" مقابل دعم واضح للإدارة السورية الانتقالية الجديدة في دمشق. مداخل تفسيريةيمكن تفسير تحول رؤية "قسد" تجاه أنقرة، ومحاولتها الانخراط في علاقة مغايرة مع النظام التركي، من خلال عدد من المداخل، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:1- إعلان حزب العمال الكردستاني حل نفسه: يرتبط تحول "قسد" تجاه تركيا في جانب منه بإعلان حزب العمال الكردستاني (PKK)، في 12 مايو 2025، في خطوة وُصفت بالتاريخية، حل نفسه، وإلقاء السلاح، وإنهاء الكفاح المسلح ضد الدولة التركية. ويعكس هذا التحول إدراك "قسد" العميق للمتغيرات المحلية التي فرضت نفسها في المرحلة الأخيرة، وفي مقدمتها تفكيك حزب العمال الكردستاني الذي ظل يوفر طوال السنوات التي خلت دعماً عسكرياً ولوجستياً لقوات "قسد" في شمال شرق سوريا.2- الاتساق مع طبيعة المرحلة الحالية في سوريا: يتمثل أحد دوافع "قسد" لتغيير سياستها تجاه تركيا في حرصها على الاتساق مع طبيعة المرحلة الحالية في الساحة السورية، المرتبطة بتنامي النفوذ العسكري التركي في سوريا، وهو ما تجلى في تكثيف مساعي أنقرة للتوسع في إنشاء قواعد جوية وبحرية وبرية في وسط سوريا، بالإضافة إلى قطع أنقرة ودمشق شوطاً معتبراً بشأن توقيع اتفاقية دفاع مشترك، فضلاً عن نجاحات تركيا بالتعاون مع دول الخليج العربي في دفع واشنطن والاتحاد الأوروبي لرفع العقوبات المفروضة على سوريا منذ عام 2011. كما تمكنت تركيا من ترتيب أوراقها الاقتصادية والاستراتيجية بما يكفل لها الإبقاء على نفوذها ومصالحها في سوريا. وفي ضوء ذلك، بات من الطبيعي أن تتقارب "قسد" مع أنقرة في ضوء الواقع الميداني الحالي، الذي بات يميل بشدة إلى القبول بالاستراتيجية التركية في سوريا.3- الرغبة في حماية المكتسبات الكردية: لا ينفصل إعلان مظلوم عبدي بشأن التطور الإيجابي في العلاقة مع أنقرة عن رغبته في تأمين المكتسبات الكردية، خصوصاً في ظل إصرار تركيا على وحدة سوريا، ورفض مشاريع الحكم الذاتي. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن تصريحات عبدي بشأن أهمية الحوار مع أنقرة، قد تكون محاولة لتحييد الضغوط التركية بشأن الملفات الخلافية بين "قسد" ودمشق، خصوصاً بعد اتهام أردوغان في 29 مايو 2025 لقوات "قسد" باستخدام ما سمّاها "تكتيكات للمماطلة" بشأن الاتفاق الموقع في مارس 2025، والذي يقضي بدمج هياكل "قسد" الأمنية والعسكرية في القوات المسلحة السورية. وفي ضوء ذلك، فإن التقارب مع أنقرة في رؤية "قسد"، قد يمثل مدخلاً لضبط شروط اندماج هياكل "قسد" مع الدولة السورية الجديدة، وبالتالي توفير فرص أفضل لتأمين مستقبل الكرد في سوريا ضمن إطار الدولة، بدلاً من التهميش الذي عانوا منه سابقاً.4- التفاهمات التركية-الإسرائيلية في سوريا: يمكن تفسير مقاربة "قسد" الجديدة تجاه أنقرة في التوقيت الحالي، بالتحول الحاصل في الخلافات التركية-الإسرائيلية على الساحة السورية، حيث توصل البلدان في 23 مايو 2025 برعاية أذربيجان إلى اتفاق يقضي بتجنب الصدام العسكري والاشتباك في سوريا، وإنشاء خط ساخن لمنع التوترات والصدامات في سوريا، بما في ذلك معلومات عن الأماكن التي ستضع فيها أنقرة أنظمة الدفاع الجوي والرادارات، وذلك بهدف منع الاحتكاك بين القوات من الجانبين. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن "قسد" كانت تراهن على الخلافات بين أنقرة وتل أبيب في الملف السوري، لضمان دعم الأخيرة في مواجهة تركيا، وزاد هذا الرهان مع دعوة وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في نوفمبر 2024 لبناء تحالف مع أكراد سوريا. بيد أن تحول الموقف الإسرائيلي نحو تركيا يمثل نقطة تحول حاسمة، فهذا التغيير فتح الباب أمام مفاوضات غير مباشرة بين دمشق وإسرائيل، ويشير من جانب آخر إلى أن الأولويات قد تبدلت بالنسبة لإسرائيل التي ربما ترى أن رسائل الشرع الإيجابية تجاه إسرائيل تلمح إلى إمكانية تطبيع العلاقات بين البلدين في المرحلة المقبلة، ما يعني تراجع إسرائيل عن الاستمرار في دعم طموحات "قسد" في الحكم الذاتي الواسع.5- الحراك الغربي لدعم تحركات تركيا في سوريا: يتواكب انفتاح أكراد سوريا على تركيا مع حراك غربي واسع في الفترة الأخيرة لدعم التحركات التركية على الساحة السورية. وقد تجلى هذا الحراك بوضوح خلال جولة ترامب الخليجية في 13 مايو 2025، حيث وافق الرئيس الأمريكي بعد اجتماعه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر تقنية الفيديو على رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا منذ عام 2011، وسبق ذلك تصريحات ترامب في أبريل 2025 عشية مهاتفته مع نظيره التركي، حيث قال: "أبلغت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهانينا. لقد فعلتَ ما عجز عن فعله الآخرون على مدى ألفي عام. لقد أخذت سوريا مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، عبر وكلائك".كما قلصت إدارة ترامب، في أبريل 2025، من تواجدها العسكري في سوريا، حيث أغلقت 3 قواعد عسكرية في شمال وشرق البلاد، وهو ما ينسجم مع المطالب التركية التي طالما دعت إلى ضرورة رفع الدعم الأمريكي عن "قسد". وبالتوازي، روجت قوى غربية، من بينها فرنسا وألمانيا، للمساعي التركية بشأن أهمية عودة سوريا إلى المجتمع الدولي. كما لا تختلف رؤية الدول الغربية عن المقاربة التركية المتعلقة بضرورة دمج هياكل "قسد" ضمن مكونات الدولة السورية. انعكاسات محتملةربما تؤدي تصريحات مظلوم عبدي بشأن توجه "قسد" للانفتاح على تركيا إلى بعض التداعيات المحتملة، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تراجع الاستقطاب بين أكراد سوريا: في رؤية مظلوم عبدي فإن التقارب مع أنقرة في التوقيت الحالي، بات من مقتضيات الضرورة، أو على الأقل مناورة تكتيكية وليس قناعة راسخة بأهمية التقارب مع تركيا. بيد أن هذا التوجه من المحتمل أن يقلص من حدة الاستقطاب السياسي بين المكونات الكردية السورية، وبخاصة التي ظلت تعارض إصرار "قسد" في وقت سابق على توظيف القوة الصلبة في مواجهة تركيا والفصائل الموالية لها في شمال شرق سوريا. وفي ضوء ذلك، فإن توجه مظلوم عبدي الجديد حيال تركيا قد يساهم في تطوير صورة "قسد" الذهنية في المجتمعات المحلية الكردية التي تحفز التهدئة وتدعو لوقف نزيف الحرب.2- تعزيز الحوار السياسي بين "قسد" ودمشق: من المحتمل أن تسفر مقاربة "قسد" في تفكيك القضايا الخلافية مع دمشق، خصوصاً في ظل تحول مهم في الموقف الأمريكي، الذي بات أقرب إلى دعم خيارات تركيا في الملف السوري، وهو ما يضع "قسد" في موقف لا يسمح لها بالمماطلة في تنفيذ تعهداتها مع إدارة أحمد الشرع. وتجدر الإشارة إلى زيارة وفد من "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا"، في 31 مايو 2025، إلى العاصمة دمشق، لبدء جولة من النقاشات مع حكومة الشرع لحل القضايا العالقة، وتأكيد التزام "قسد" بمنهج الحوار مع سلطة دمشق. 3- تقليص فجوة عدم الثقة بين "قسد" وأنقرة: تشير بعض التقديرات إلى أن مبادرة "قسد" تأتي في إطار الرغبة في إفساح المجال لجهود الوساطة التي تسعى إلى خفض التصعيد بين تركيا و"قسد". وفي ضوء ذلك، من المرجح أن تساهم المقاربة الجديدة لقائد "قسد" مظلوم عبدي في دعم فرص التوصل إلى حلول سياسية للملفات الخلافية مع تركيا. فبينما يمكن أن تساهم تصريحات عبدي في دفع أنقرة نحو تجميد تحركات وكلائها المسلحين في شمال شرق سوريا، فقد تلعب من جهة أخرى دوراً مهماً في تقليص فجوة عدم الثقة المتبادلة بين الدولة التركية و"قسد".ضغوط مقابلةوختاماً، يمكن القول إنه إذا كان الهدف الرئيسي من وراء تأكيد قائد قوات "قسد" على أهمية الحوار مع تركيا، هو تحييد الضغوط التي يواجهها أكراد سوريا، لا سيما في ظل التحركات الدولية والإقليمية الداعمة للمقاربة التركية في الملف السوري، لكن هذا التوجه الكردي ربما يصطدم بمجموعة من الضغوط، من بينها غياب الثقة بين أنقرة و"قسد"، وكذلك تصنيف أنقرة لــ"قسد" بأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني المصنف "إرهابياً"، بالإضافة إلى إصرار تركيا على معارضة خيارات "قسد" بشأن بناء نظام سياسي فيدرالي يمنحها حكماً ذاتياً في شمال شرق سوريا.

ما أسباب انفتاح "قسد" على تحسين العلاقات مع تركيا؟