د. عمرو عبدالعاطي

في خطوة تهدف إلى إعادة هيكلة جذرية لمجلس الأمن القومي الأمريكي (NSC)، أقدم الرئيس دونالد ترامب ووزير الخارجية ماركو روبيو على تقليص عدد موظفيه بشكل كبير، وهو ما استهدف تقليص دور المجلس كمؤسسة لصنع السياسات الأمريكية الخارجية، وتحويله إلى هيئة صغيرة تُعنى بتنفيذ أجندة الرئيس بالتنسيق مع وزارتي الخارجية والدفاع. وقد أُعيد العديد من الموظفين المعارين إلى وكالاتهم الأصلية، فيما تم الاستغناء عن بعض السياسيين المعينين في المجلس، في إطار ما اعتبرته الإدارة "إعادة ضبط لحجم" المجلس بما يتماشى مع رؤية ترامب لإعادة هيكلة الحكومة الأمريكية وتركيز السلطة السياسية في يده.أسباب عديدة يكمن وراء قرار الإدارة بإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي، الذي يعكس تحولاً كبيراً في بنية صناعة القرار الأمني والخارجي في الولايات المتحدة، جملة من الأسباب التي يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- مواجهة ترامب ما يسميه بـ"الدولة العميقة": اتهمت إدارة الرئيس دونالد ترامب مجلس الأمن القومي بأنه مؤسسة بيروقراطية مترهلة، تضم عدداً كبيراً من الموظفين الذين يمثلون امتداداً لما يُعرف بـ"الدولة العميقة"، أي الشبكات المؤسسية غير المنتخبة التي يُعتقد أنها تُعيق تنفيذ سياسات الرئيس الأمريكي. وقد أُدرجت هذه الاتهامات في سياق تبرير حملة تقليص واسعة داخل المجلس تهدف إلى إعادة تشكيله من جهاز لصياغة السياسات إلى كيان تنفيذي يلتزم مباشرة بتوجيهات الرئيس ترامب.وقد لعب وزير الخارجية ماركو روبيو دوراً بارزاً في هذه الحملة، إذ تولّى بنفسه مسؤولية الإشراف على إعادة الهيكلة بصفته مستشار الأمن القومي بالإنابة بعد استقالة مايك والتز. وأكد روبيو في تصريحات رسمية أن الهدف من هذه الخطوة هو تعزيز فاعلية التنسيق بين المؤسسات التنفيذية الأمريكية، من خلال تقليص حلقات النقاش الداخلي التي تؤدي إلى بطء في اتخاذ القرار، وتجاوز العقبات البيروقراطية التي تعيق الاستجابة السريعة للتحديات الأمنية والدبلوماسية. وبهذا تسعى الإدارة إلى بناء مجلس أمن قومي أكثر مرونة وانضباطاً، يخدم رؤية الرئيس دون الدخول في صراعات داخلية أو تأخير في الإنجاز التنفيذي.2- تضخم الهيكل التنظيمي لمجلس الأمن القومي: جاء قرار تقليص حجم المجلس مدفوعاً إلى حد كبير بالقلق من تضخم وتعقيد هيكله التنظيمي. فقد توسّع ليشمل نحو 350 موظفاً إلى جانب عدد كبير من اللجان والهيئات الاستشارية، ما أدى إلى خلق طبقات متداخلة من البيروقراطية، رأت إدارة ترامب أنها تعيق سرعة اتخاذ القرار وتؤدي إلى اجتماعات متكررة دون جدوى. وقد اعتُبر هذا الهيكل المتضخم غير فعّال ومعرقلاً لقدرة المجلس على الاستجابة السريعة والحاسمة للتحديات الأمنية. ومن خلال تقليص عدد الموظفين إلى أقل من النصف وتخفيف عدد اللجان وتواتر اجتماعاتها، سعت الإدارة إلى إعادة ضبط حجم المجلس بما يتوافق مع رؤية الرئيس ترامب لأجهزة أمن قومي أكثر رشاقة وتركيزاً. وتعكس إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي جهداً أوسع لإزالة التعقيد البيروقراطي الذي اعتبرته الإدارة غير ضروري، وكان –من وجهة نظرها- عائقاً أمام التنسيق الفعال وتنفيذ السياسات. ومن خلال تبسيط هيكل المجلس، سعت الإدارة إلى تعزيز الكفاءة، وتسريع آلية اتخاذ القرار، وضمان أن يكون عمل المجلس مرتبطاً بشكل مباشر بتنفيذ أجندة الرئيس، لا أن يغرق في نقاشات داخلية وإجراءات تنظيمية متشابكة. وتُبرز هذه المقاربة تفضيل الإدارة لنموذج أكثر تركيزاً وانسيابية في إدارة ملفات الأمن القومي.3- نقل مسؤوليات مجلس الأمن القومي إلى وزارتي الخارجية والدفاع: في إطار إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي، سعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى نقل جزء كبير من صلاحيات المجلس إلى وزارتي الخارجية والدفاع (البنتاجون)، وذلك بهدف إعادة التوازن إلى عملية صنع القرار في مجالي السياسة الخارجية والأمن القومي. وجاء هذا التوجه انطلاقاً من قناعة الإدارة بأن المجلس، في شكله المتضخم، أصبح يتدخل في اختصاصات الوزارتين، مما أدى إلى تداخل الأدوار وعرقلة التنسيق الفعّال. وبنقل المسؤوليات إلى الوزارات التنفيذية ذات الصلة، أرادت الإدارة تمكين الدبلوماسيين والعسكريين من لعب دور أكبر في تحديد وتنفيذ السياسات، وضمان أن تكون هذه السياسات منسجمة بشكل مباشر مع أولويات الرئيس دون الحاجة إلى المرور عبر هياكل بيروقراطية متعددة داخل مجلس الأمن القومي. وقد اعتُبر هذا التحول خطوة نحو تعزيز المرونة المؤسسية وتسريع الاستجابة للتحديات الدولية والأمنية.4- معالجة الإخفاق في إدارة واختيار موظفي المجلس في ظل القيادة السابقة: جاءت إعادة هيكلة إدارة الرئيس دونالد ترامب لمجلس الأمن القومي الأمريكي ردّاً مباشراً على ما اعتبرته فشلاً في إدارة واختيار موظفي المجلس في ظل قياد مايك والتز. فقد تبيّن للإدارة أن العديد من المعينين السابقين، سواء من الموظفين المهنيين أو السياسيين، لم يكونوا على درجة كافية من الالتزام بأولويات الرئيس، كما لم ينسجموا مع رؤيته الخاصة لأمن الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية. أدى هذا الخلل في الاختيار، بحسب المسؤولين في البيت الأبيض، إلى تغلغل عناصر وصفوها بـ"المُعطِّلة" داخل المؤسسة، ما تسبب في تباطؤ اتخاذ القرارات وتصاعد الخلافات الداخلية.وجاء تعيين وزير الخارجية ماركو روبيو كقائم بأعمال مستشار الأمن القومي بعد إقالة والتز ليؤكد التوجه نحو إصلاح جذري في تركيبة المجلس. فقد اعتُبر والتز مسؤولاً عن إبقاء هيكل بيروقراطي مترهل، سمح ببقاء موظفين لا يحملون الولاء الكافي للإدارة، ولا يمتلكون الكفاءة المطلوبة لتنفيذ أجندة "أمريكا أولاً". وسعى روبيو، بالتنسيق مع ترامب، إلى بناء مجلس أكثر انضباطاً وفاعلية، من خلال تقليص عدد الموظفين، واستبدالهم بعناصر أكثر التزاماً بالرؤية الرئاسية، والعمل على تحويل المجلس من منصة لصياغة السياسات إلى جهاز تنفيذي ينفذ توجيهات الرئيس دون مماطلة أو مقاومة داخلية.5- تركيز القرار بيد الرئيس ترامب والمقربين منه: يكشف قرار ترامب بإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي إلى سعيه لتركيز السلطة التنفيذية المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية بيده وبيد دائرة ضيقة من المسؤولين الموثوقين، وعلى رأسهم ماركو روبيو، الذي يتولى أيضاً منصب مستشار الأمن القومي بالإنابة. وأكد مقربون من الرئيس أن "روبيو هو من يتخذ القرارات ويوجه الجميع"، مشيرين إلى أن هناك انسجاماً كبيراً بين وزراء الخارجية والدفاع والعدل والخزانة، ما يُغني، في نظرهم، عن البنية البيروقراطية التقليدية التي وُضعت تاريخياً للفصل بين السلطات التنفيذية المتنافسة.واستُشهد بقرار ترامب الأخير الداعي إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا كمثال على فاعلية الهيكل الجديد، حيث صدرت أوامر فورية من كبار المسؤولين لتنفيذ تعليمات الرئيس دون المرور بالسلسلة التقليدية المعقدة التي تبدأ من اللجان الفرعية وتصل تدريجياً إلى الوزراء. هذا "النهج العكسي"، كما وُصف، يعكس النية لتسريع القرار السياسي وتجاوز أي معوقات مؤسسية.إضعاف المهمة خلاصة القول، يُتوقع أن يؤدي قرار إدارة ترامب بإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي إلى إضعاف مهمة المجلس بشكل كبير. ويقلل التقليص الكبير في عدد موظفي المجلس وتحويل دوره من هيئة صنع سياسات مؤثرة إلى كيان أصغر يركز على تنفيذ توجيهات الرئيس فقط، من قدرة المجلس على التنسيق بين الوكالات المختلفة وإدارة الخلافات الاستراتيجية بين الوكالات الرئيسية مثل وزارة الخارجية والدفاع. وسيُضعف هذا التغيير الدور التقليدي للمجلس في جمع وتحليل المعلومات الأمنية والسياسية، مما قد يحد من فاعليته في مواجهة التحديات الأمنية المعقدة مثل الصراعات الدولية والتحديات الاستراتيجية الكبرى. وبالتالي، قد يؤدي هذا القرار إلى تقليل التنوع والخبرة داخل المجلس، مما يؤثر سلباً على جودة القرارات الأمنية التي تُتخذ في قضايا حاسمة مثل التنافس مع الصين، والصراع الروسي-الأوكراني، وبرنامج إيران النووي.وحذر المنتقدون من أنّ هذا التبسيط وإعادة الهيكلة المرتكزة على الولاء قد تقوض الأمن القومي الأمريكي من خلال الحد من التنسيق في الاستجابة السياسية وتقليص الوصول إلى الخبرات الشاملة، مما يجعل عملية اتخاذ القرار أكثر تركيزاً على حدس الرئيس بدلاً من الاعتماد على عملية واسعة وتعاونية.وتثير إعادة هيكلة المجلس تساؤلات عميقة حول مستقبل آلية صنع القرار في إدارة دونالد ترامب. فبينما يرى أنصار التغيير أن تقليص البيروقراطية يعزز الكفاءة ويُسرّع الاستجابة للتحديات، يحذّر المعارضون من تآكل دور المؤسسات المستقلة، وإضعاف الرقابة والتوازن، وتقليص النقاش الاستراتيجي الذي يُعدّ ضرورياً في بيئة معقدة مثل السياسة الخارجية الأمريكية.

دوافع ترامب لإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي