إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

استضافت العاصمة الأرجنتينية "بوينس آيرس" في 3 يوليو 2025، القمة السادسة والستين للسوق المشتركة للمخروط الجنوبي "ميركوسور"، الذي يضم خمس دول أعضاء، أربع منها من المؤسسين: الأرجنتين والبرازيل وباراجواي وأوروجواي، أما بوليفيا، فقد&nbsp;أصبحت عضواً كامل العضوية&nbsp;في يوليو 2024. ويضم ميركوسور أيضاً تشيلي وكولومبيا والإكوادور وغيانا وبيرو وسورينام كأعضاء منتسبين. خلال القمة، ضغط "خافيير ميلي" رئيس الأرجنتين، الذي تولت بلاده الرئاسة الدورية للتكتل مطلع العام الجاري، من أجل مزيد من المرونة التنظيمية داخل ميركوسور، بما يسمح للدول الأعضاء بإبرام صفقات تجارة حرة مع أطراف ثالثة بصورة أحادية، في ظل سعي الأرجنتين إلى إبرام اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، مما سلط الضوء على مستقبل التكتل التجاري ومدى إمكانية استمراريته.سياقات حاكمةجاء انعقاد القمة نصف السنوية لتكتل ميركوسور التجاري في ظل صعود الحمائية التجارية الأمريكية، كما تزامنت مع مرور التكتل بلحظة حاسمة منذ تأسيسه في عام 1991 في ظل المطالب المتزايدة بضرورة إصلاح هياكله وآليات عمله، وذلك كما يتضح فيما يلي:1- تصاعد حدة الحروب التجارية العالمية: كان انعقاد قمة ميركوسور في ظل سيادة حالة من عدم اليقين الاقتصادي عالمياً، بفعل التدابير الحمائية التي اتخذتها الولايات المتحدة، والتعريفات الجمركية الأمريكية التي طالت دول ميركوسور، مما دفع الدول الأعضاء إلى السعي لتوسيع آفاق تعاونها الخارجي بحثاً عن شركاء آخرين يمكنها تحقيق تكامل أكبر معهم، مما يوفر لها هامشاً أكبر للحركة والمناورة. خلال كلمته التي ألقاها في قمة التكتل، دعا الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا"، دول ميركوسور إلى التركيز على تعزيز علاقاتها مع الدول الآسيوية التي وصفها بأنها "المركز الديناميكي" للاقتصاد العالمي. وقال لولا: "ستستفيد مشاركتنا في سلاسل القيمة العالمية من توثيق العلاقات مع اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند وفيتنام وإندونيسيا". 2- تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي لبعض دول التكتل: تتصدر الأرجنتين وباراجواي دول التكتل في توقعات النمو الاقتصادي لعام 2025، بنسبة 4.3 % و3.9 % على التوالي. في المقابل، يُعاني بعض دول ميركوسور من أزمات اقتصادية حادة، وفي مقدمتها بوليفيا، التي لديها مزيج معقد من الاعتماد المفرط على الدولار الأمريكي، واستنزاف الاحتياطيات الدولية، والديون المتزايدة، والفشل في إنتاج الغاز الطبيعي، الذي كان ذات يوم مصدراً مهماً للدخل القومي للبلاد، مما أدى إلى توقعات نمو معتدلة بنسبة 2.1 % لعام 2025. في الوقت نفسه، لدى دول مثل البرازيل توقعات اقتصادية متواضعة نسبياً. من المتوقع أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.2 % في عام 2025 وأن ينمو بنسبة 1.6 % فقط في عام 2026، بعد متوسط معدل نمو سنوي قدره 3.6 % على مدى السنوات الأربع الماضية. ولدى أوروجواي، توقعات بتباطؤ معدل النمو الاقتصادي، ليبلغ 2.5% في عام 2025، مقارنة بنسبة 3.1% في عام 2024. مثل هذه الأوضاع تدفع الدول الأعضاء لتعزيز شراكاتها التجارية من أجل تنشيط النمو الاقتصادي.3- تزايد الانقسامات السياسية بين الدول الأعضاء: نشأ ميركوسور في عام 1991 مع توقيع&nbsp;معاهدة أسونسيون، وذلك بفضل التقارب الدبلوماسي والتعاون الاقتصادي بين الأرجنتين والبرازيل في الثمانينيات. مع ذلك، تشهد العلاقات بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، حالة من التوتر الشديد في ظل الخلافات الأيديولوجية بين الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" والأرجنتيني "خافيير ميلي". سبق أن أدلى الأخير بتصريحات انتخابية مهينة ضد رئيس الدولة البرازيلي، ووصفه بأنه "شيوعي" و"فاسد"، وكان من الواضح أن التوتر في العلاقات لا يزال قائماً، مع تجنب الرئيسين عقد اجتماع ثنائي على هامش قمة التكتل، في الوقت الذي زار فيه لولا الرئيسة السابقة للأرجنتين "كريستينا كيرشنر"، وهي منافسة رئيسية لميلي. علاوة على ذلك، لدى الرئيسين توجهات مختلفة بشأن مستقبل التكتل وأولويات التعاون مع الدول الأخرى. يُطالب ميلي بـ"إصلاحات مؤيدة لحرية التجارة"، في حين أعلن لولا أن&nbsp;البرازيل ستهدف إلى تعزيز انتقال الطاقة في إطار مكافحة تغير المناخ، وهو ما ينفي ميلي وجوده. وبينما يُولي لولا اهتماماً خاصاً بعقد اتفاقات للتجارة الحرة بين ميركوسور ودول آسيا وكذلك الاتحاد الأوروبي، يركز ميلي على إبرام اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة. أما رئيسا باراجواي&nbsp;"سانتياجو بينيا" وأوروجواي "ياماندو أورسي"، فقد أعربا عن دعمهما لاستراتيجية التفاوض المشترك&nbsp;لميركوسور. 4- صعود الدعوات لإصلاح ميركوسور: يعمل ميركوسور كاتحاد جمركي ومنطقة تجارة حرة، ولديه طموحات في أن يصبح سوقاً مشتركة على غرار الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، بعد أكثر من 30 عاماً من تأسيسه، لا يزال التكتل يكافح لتحقيق هذا الهدف. لسنوات، واجه ميركوسور تراجعاً في حجم التجارة البينية بالإضافة إلى الخلافات السياسية التي أعاقت التقدم وتحرير التجارة. ومع ذلك، انتعشت التجارة بين الأعضاء المؤسسين الأربعة إلى أعلى مستوى منذ عقد، وذلك في عام 2023، حيث بلغت التجارة في السلع بين الدول الأعضاء حوالي&nbsp;98 مليار دولار. مع ذلك، شهدت الفترة الأخيرة، تزايد الأصوات المطالبة بضرورة إصلاح التكتل وزيادة استقلالية الدول الأعضاء في إبرام اتفاقيات تجارية مع شركاء من خارج المنطقة، والتي يقودها الرئيس الأرجنتيني، مما قد يشكل تحدياً لوحدة التكتل. خلال كلمته في القمة، حث ميلي دول ميركوسور على التخلي عن "الجمود المدمر". كما شدد على التزام حكومته بـ"طريق الحرية"، محذراً من أننا "سنشرع فيه"، "سواء كان برفقة أو بمفردنا". جادل ميلي بأن ميركوسور أصبحت أقل من سوق مشتركة وتحتاج إلى قدر أكبر من الاستقلالية لكل عضو للاستفادة من مزاياه النسبية. محددات المستقبلمن المرجح أن يتحدد مستقبل تكتل ميركوسور وفقاً لعدة محددات، من بينها:1- القوة الاقتصادية النسبية لميركوسور: يعد ميركوسور واحداً من التكتلات الاقتصادية الرائدة في العالم، وتُشكل دوله الأعضاء مجتمعة خامس أكبر اقتصاد في العالم. ويبلغ إجمالي عدد سكان دوله أكثر من 285 مليون شخص، بناتج محلي إجمالي يقارب 3 تريليونات دولار. من هذا المنطلق، كان سعي الدول والتكتلات الأخرى حول العالم لتعزيز صلاتها بميركوسور، وهو ما أسفر عن توقيع عدد من&nbsp;اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقيات التجارة التفضيلية مع أطراف ثالثة، بما في ذلك تشيلي وكولومبيا وبيرو، بالإضافة إلى إسرائيل ومصر والاتحاد الجمركي للجنوب الأفريقي. تم الانتهاء من اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2024، لكن يتعين على الدول الأعضاء التصديق على الاتفاقية لتدخل حيز التنفيذ.وخلال قمة التكتل في الأرجنتين، جرى الإعلان عن اختتام المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين ميركوسور ورابطة التجارة الحرة الأوروبية (EFTA)، التي تضم أيسلندا وليختنشتاين والنرويج وسويسرا. ستؤسس الصفقة منطقة تجارة حرة بين الكتلتين تغطي ما يقرب من 300 مليون شخص وناتج محلي إجمالي يزيد على 4.3 تريليونات دولار. وسيستفيد الجانبان من تشجيع الاستثمارات وتحسين الوصول إلى الأسواق لأكثر من 97 % من صادراتهما. تُغطي الاتفاقية، التي سيتم التوقيع عليها في النصف الثاني من عام 2025، تجارة السلع والخدمات والاستثمار وحقوق الملكية الفكرية، من بين مجموعة من القطاعات الأخرى.2- إيمان الدول الأعضاء بفوائد التكامل الاقتصادي: يعتمد تعزيز التعاون التجاري بين دول ميركوسور على مدى إيمان كل بلد بفوائد هذا التكتل لاقتصاداتها الوطنية. لطالما أعربت بعض الدول عن استيائها من أن ميركوسور يفيد دولاً أكثر من غيرها، ولم تقتصر هذه الشكاوى على البلدان الأصغر في التكتل مثل أوروجواي وباراجواي، بل طالت أيضاً الأرجنتين، التي اشتكت من أن البرازيل تستفيد من ميركوسور أكثر من بقية الدول الأعضاء. مع ذلك، ثمة مؤشرات قوية على إدراك هذه الدول أهمية التكتل، في مواجهة الضغوط الاقتصادية الخارجية، وكذلك فوائد تحرك دوله كقوة تفاوضية موحدة في سياق مباحثاتها التجارية مع الدول والتكتلات الأخرى. وبالرغم من الاختلافات بين بعض الدول الأعضاء، سعى البيان الختامي لمؤتمر القمة إلى تحقيق التوازن من خلال تسليط الضوء على الاهتمامات المشتركة بين الأعضاء، مثل تعزيز التعاون "لمكافحة المنظمات الإجرامية عبر الوطنية" المكرسة للاتجار بالمخدرات والاتجار غير المشروع بالمهاجرين والأسلحة النارية. إضافة إلى أن عملية نقل الرئاسة المؤقتة للتكتل من الأرجنتين إلى البرازيل، قد تمت بسلاسة ووفقاً للقواعد البروتوكولية المتعارف عليها. 3- قدرة الدول الأعضاء على تجاوز خلافاتها البينية: ينبع جانب رئيسي من نجاح ميركوسور واستدامته من قدرة دوله على اتخاذ خطوات ملموسة لسد الفجوة في الرؤى بشأن آلية عمل التكتل. في ضوء هذا، تمكنت دول ميركوسور خلال القمة الأخيرة، من الإعلان عن زيادة عدد السلع المستوردة التي يسمح لكل دولة عضو بإعفائها من التعريفة الخارجية الموحدة للكتلة. حتى ديسمبر 2028، سيسمح للأعضاء الخمسة بتطبيق تعريفاتهم الجمركية من جانب واحد على 150 عنصراً، ارتفاعاً من 100 بند في السابق. وهذا بدوره سيمنح دول ميركوسور مزيداً من المرونة في إدارة سياساتها التجارية الخارجية، بما في ذلك من خلال التفاوض على صفقات ضيقة معفاة من الرسوم الجمركية مع دول خارج التكتل دون انتهاك قواعد ميركوسور. 4- نجاح الرئاسة البرازيلية للتكتل: خلال خطاب قبوله الرئاسة المؤقتة لميركوسور، حدد لولا أهداف البرازيل لفترة الستة أشهر القادمة، والتي تشمل تعزيز سياسات مكافحة تغير المناخ وتحقيق تحول الطاقة، تعزيز التنمية التكنولوجية الإقليمية، ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتزم على وجه التحديد بدراسة اقتراح ميلي لإنشاء وكالة مكرسة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية. وتتمثل إحدى الأولويات الرئيسية لرئاسة لولا في وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي والتوقيع عليها قبل نهاية العام، على الرغم من مقاومة بعض الدول مثل فرنسا. وأعرب لولا عن نيته متابعة اتفاقيات مماثلة مع كندا، ودولة الإمارات، وبنما، وجمهورية الدومينيكان. وبالمثل، حث ميركوسور على تبني "نظام دفع بالعملات المحلية يسهل المعاملات الرقمية". ويمكن أن تُشكل رئاسة البرازيل للتكتل نقطة تحول محورية في مسيرته، في حال نجحت في تحقيق هذه الأهداف خلال الفترة القادمة. من جملة ما سبق، يمكن القول إن قمة ميركوسور الأخيرة في الأرجنتين أظهرت قناعة الدول الأعضاء بجدوى التكامل التجاري وأهميته. وبالرغم من الخلافات السياسية بين رئيسي البرازيل والأرجنتين، فقد طغت البراجماتية على فاعليات القمة وبيانها الختامي، مما يعكس الإدراك القوي لأهمية الحفاظ على وحدة ميركوسور وتماسكه، خاصة في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية العالمية، مما دفع دوله إلى تبني نهج أكثر مرونة في التعامل مع التعريفات الجمركية الخارجية، والمضي قدماً في إبرام اتفاقيات تجارية مع التكتلات الخارجية مثل الرابطة الأوروبية.

كيف يمكن قراءة نتائج قمة تكتل ميركوسور في الأرجنتين؟