أحمد خميس

عانت بوركينا فاسو -كما هو حال غيرها من دول الساحل- من تنامي ظاهرة الإرهاب منذ عام 2015، وذلك مع نشاط عدد من التنظيمات الإرهابية على أراضيها، مثل تنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش"، مع نشاط أوسع لكتيبتي "ماسينا" و"أنصار الإسلام" المكوِّنتين لما يُعرف بتنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، والذي يعتبر التنظيم الإرهابي الأكثر تأثيراً خلال السنوات الماضية في بوركينا فاسو. وفي سياق سياسي وأمني هش، فرضه وصول الجيش إلى السلطة عام 2022، وتولي "إبراهيم تراوري" رئاسة البلاد ضمن فترة انتقالية، باتت بوركينا فاسو أكثر عرضة لانهيار أجهزتها الدفاعية، خصوصاً في ظل القيود المفروضة على الدعم الدولي بسبب طبيعة الحكم العسكري. وفي الوقت الذي اعتمدت فيه الحكومة مقاربة أمنية شاملة ورفضت أي تفاوض مع الجماعات الإرهابية، واصلت تلك الجماعات تصعيد عملياتها بوتيرة غير مسبوقة، ما أعاد ترتيب موازين القوة على الأرض. وقد بلغ هذا التصعيد ذروته في 11 مايو 2025، حين نفذ تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" هجوماً واسع النطاق على قاعدة عسكرية في بلدة "جيبو" شمال البلاد، أسفر -بحسب بيان رسمي صادر عنه- عن مقتل 200 جندي. ولم يكن الهجوم مجرد عملية معزولة، بل مؤشراً نوعياً على حجم التطور العملياتي الذي بلغه التنظيم، وعلى عمق الأزمة التي تواجهها الدولة البوركينابية، التي بدأت تفقد تدريجياً السيطرة الفعلية على أجزاء واسعة من البلاد.تكتيكات إرهابية يشهد النشاط الإرهابي في بوركينا فاسو تصعيداً نوعياً في أدواته وأهدافه، مع اعتماد تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" تكتيكات متنوعة لتقويض سيطرة الحكومة وتوسيع نفوذه. ويمكن تحديد أبرز ملامح هذا التصعيد في أربعة اتجاهات رئيسية: 1- استخدام أسلوب "حرب العصابات" في مواجهة قوات الأمن: تقوم هجمات التنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، باستهداف المدنيين وقوات الأمن على حد سواء، وتعتمد التكتيكات المتبعة لتلك التنظيمات على نصب الكمائن على الطرق الواصلة بين البلدات والمدن، واستخدام العبوات الناسفة، والاغتيالات المستهدفة، والهجمات الموجهة ضد البنية التحتية الحيوية وأبراج الاتصالات، والهجوم على المقرات الحكومية وأقسام الشرطة، واستهداف العاملين في المجال الإنساني بالبلاد، بالإضافة إلى اتباع تكتيك حصار المدن والتهديد بغزوها، لثني السكان عن التعاون مع القوات الحكومية ضد التنظيم، ودفعهم إلى إبرام اتفاقيات مع التنظيم لفرض سيطرة غير مباشرة له على المجتمعات المحلية بتلك المدن، دون تكلف موارد إضافية لفرض السيطرة المباشرة عليهم.2- توظيف عنف الدولة كأداة لدعم التجنيد في صفوف التنظيم: استغلت التنظيمات الإرهابية في بوركينا فاسو، وعلى رأسها "نصرة الإسلام والمسلمين"، الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن والمليشيات المحلية بحق بعض المجتمعات المحلية، لا سيما من عرقية "الفولاني"، لتوسيع قدرتها على التجنيد. فعلى الرغم من إطلاق الحكومة حملة لتعبئة المتطوعين لمواجهة الإرهاب، تم استبعاد فئات بعينها من المشاركة، كما شجعت السلطات -بشكل غير مباشر– على تشكيل مجموعات مسلحة مارست عنفاً ذا طابع عرقي، ما عزز شعور تلك الفئات بالاضطهاد.وفي هذا السياق، قدم التنظيم نفسه كجهة قادرة على حماية هذه المجتمعات في مواجهة القمع الرسمي، مستغلاً مشاعر الغضب والانتقام لدى الشباب، مما مكنه من جذب عناصر جديدة. ويُرجح أن يستمر هذا الاتجاه خلال عام 2025، خاصةً مع غياب أي محاسبة واضحة لانتهاكات المتطوعين، وتفاقم التوترات الداخلية.3- تحويل النشاط العملياتي من مالي إلى داخل بوركينا فاسو: شهدت بوركينا فاسو تحولاً في مسار العمليات الإرهابية خلال عام 2025، تمثل في تركز النشاط العملياتي لتنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" داخل الأراضي البوركينابية مقارنة بكثافة العمليات داخل مالي. فبعد أن شجعت الحكومة المالية بعض القيادات المحلية على عقد اتفاقيات تهدئة مع كتيبة "ماسينا" التابعة للتنظيم، تراجع عدد الهجمات داخل مالي، وتم رفع الحصار عن عدد من المدن التي كانت مستهدفة.وفي المقابل، أعاد التنظيم توجيه موارده البشرية واللوجستية نحو بوركينا فاسو، ما أدى إلى تصاعد الهجمات الإرهابية داخلها بشكل ملحوظ. كما زاد مستوى التنسيق بين كتيبتي "ماسينا" و"أنصار الإسلام"، وهو ما ساهم في تكثيف وتيرة العمليات، ورفع درجة تعقيدها وانتظامها، ما جعل من بوركينا فاسو الساحة الأساسية لنشاط التنظيم في المنطقة.4- اتساع نطاق السيطرة الجغرافية للتنظيم في المناطق الحدودية: شهدت بوركينا فاسو منذ عام 2019 توسعاً تدريجياً في النشاط الإرهابي، لا سيما من قبل تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، الذي تمكن من بسط سيطرته على مراكز سكنية وحضرية في المناطق الشرقية من البلاد. ومع مرور الوقت، تحولت المناطق الحدودية بين بوركينا فاسو وكل من مالي، وبنين، وغانا، وساحل العاج، وتوجو إلى ساحات صراع مفتوح بين التنظيم والقوات الحكومية، وصارت أجزاء منها خاضعة فعلياً لسيطرة التنظيم، تُستخدم كنقاط انطلاق لتنفيذ هجمات عبر الحدود، مثلما حدث في توجو.وخلال عام 2025، تصاعد نفوذ التنظيم بشكل ملحوظ، خاصةً في المناطق الحدودية مع مالي، والنيجر، وبنين، وساحل العاج، وتوجو، حيث تمكن من السيطرة على مواقع حضرية واستراتيجية، كان أبرزها اجتياح "جيبو" شمال البلاد، في هجوم دموي يعكس مدى الاختراق الجغرافي الذي حققه التنظيم، ويؤكد تعاظم قدرته على تهديد العمق الأمني للبلاد.جهود متنوعةبدأت جهود مكافحة الإرهاب في بوركينا فاسو عام 2015، مع تعهد الرئيس السابق "روش مارك كريستيان كابوري" بالتصدي للتنظيمات المسلحة، إلا أن السياسات المتبعة افتقرت إلى الفاعلية، ما مهد لتصاعد السخط الشعبي وتولي الجيش مقاليد الحكم في يناير 2022. ومع تولي "إبراهيم تراوري" السلطة، تبنى عدداً من المقاربات الرئيسية المتمثلة فيما يلي: 1- توسيع صلاحيات السلطة الانتقالية عبر "التعبئة العامة": يُخول مرسوم "التعبئة العامة" للرئيس الانتقالي اتخاذ جميع التدابير التي تقتضيها الظروف لمواجهة التهديدات الإرهابية، وتشمل تلك التدابير إمكانية اعتقال الأشخاص، ومصادرة السلع والخدمات، وتقييد الحريات الأساسية بما يتناسب مع إجراءات قوات الدفاع والأمن البوركينابية.2- تعزيز أدوات الرقابة المالية لمكافحة تمويل الإرهاب: أفاد فريق العمل المختص بالإجراءات المالية في مجموعة العمل الحكومية الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في غرب أفريقيا بأن بوركينا فاسو قد اتخذت خطوات نحو تحسين عمليات مكافحة عسيل الأموال وتمويل الإرهاب، بما في ذلك إجراء تقييمات "موضوعية" للمخاطر في القطاعات عالية المخاطر، وتعزيز آلياتها للحفاظ على إحصاءات التعاون الدولي، والتحقيقات والملاحقات القضائية المتعلقة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.3- إطلاق عملية عسكرية شاملة: دعا الرئيس "تراوري" الجماعات الإرهابية إلى إلقاء السلاح، كما أنهى مبادرة "كابوري" التي هدفت إلى إدماج عناصر الجماعات الإرهابية المنسحبين منها في الجيش، وأعلن عن بدء "حرب شاملة" ضد الإرهاب ببوركينا فاسو، رافضاً الدخول في أي حوار مع تلك الجماعات، إلى جانب مبادرات تجنيد المتطوعين في القوات الأمنية بالبلاد.4- تجنيد المتطوعين وتوسيع دور فرقة "الدفاع عن الوطن": مع عملية إدماج المدنيين في القوات الأمنية البوركينابية للتصدي للهجمات الإرهابية، تشكل ما عُرف بفرقة "الدفاع عن الوطن" (VDP)، والتي كان قوامها 90 ألف عنصر، حسبما أعلنت الحكومة البوركينابية، ومع ذلك يوجه لهذه الفرقة بعض الانتقادات؛ حيث اعتبرها البعض قد ساهمت بشكل او بآخر في نمو الصراع داخل البلاد، وتشجيع العنف ضد الحكومة البوركينابية بسبب العنف التي تستخدمه تلك الفرقة في مهامها.5- استمرار التوسع في الاعتماد على الحلول الأمنية: رغم تنوع هذه الإجراءات، فإن تدابير حكومة "تراوري" اعتمدت هي الأخرى على مقاربة أمنية بحتة في مكافحة الإرهاب، دون معالجة جذرية للعوامل المحفزة على تصاعد هذا النشاط الإرهابي. ولم تُسهم سيطرة الجيش على السلطة في تحسين الوضع الأمني بالبلاد، إذ أثبتت التجربة أن الاستجابة الحكومية، التي ارتكزت على التدخلات العسكرية دون التعامل مع الأسباب البنيوية، لم تكن مجدية في معالجة الأزمة، خاصةً في ظل استمرار الفقر، والبطالة، والعنف القبلي والعرقي، كعوامل مغذية للتمرد ومولّدة للانقسام الاجتماعي.مسارات محتملةتضع أبعاد ظاهرة الإرهاب في بوركينا فاسو وضعف فاعلية الاستجابة الحكومية لتلك الظاهرة، البلاد أمام سيناريوهات محتملة، يُمكن أن تؤول إليها الأوضاع، أبرزها: 1- استمرار تمدد العناصر الإرهابية وتوسع نفوذها الإقليمي: يدعم هذا السيناريو التمدد المضطرد لسيطرة تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" على عدد متزايد من المدن والقرى الاستراتيجية في بوركينا فاسو، لا سيما في المنطقة الشرقية من البلاد، وانتقال العمليات الإرهابية للتنظيم لعدد من المناطق في شمال البلاد وجنوبها، بل وانتقالها إلى البلدان المجاورة، وهو ما يعكس زيادة النفوذ الذي يتمتع به التنظيم على المستوى الإقليمي، كما أن ترويج الجماعة لممارسة القوات المحسوبة على الحكومة لعمليات عنف عرقي يسهم في تأجيج مشاعر التمرد لدى المدنيين، ما يوفر بيئة خصبة لنشاط التنظيم، وإعادة تجديد دمائه من خلال تجنيد عناصر جديدة.2- تحقيق اختراق أمني ضد الإرهاب عبر دعم روسي وإقليمي: قد تؤدي التدابير الأمنية التي تتبعها الحكومة البوركينابية إلى إبطاء أو صد تمدد تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، لا سيما مع اعتماد الحكومة بشكل كبير على الدعم الروسي لها بعد توقف الدعم الغربي إثر تحول البلاد نحو الحكم العسكري، إلى جانب إمكانية نجاح البلاد في تشكيل تحالف إقليمي، وخاصة مع النيجر ومالي، للتصدي لظاهرة الإرهاب العابر للحدود، والذي يؤثر سلباً على كامل دول منطقة الساحل الأفريقي.3- اللجوء إلى تفاهمات مؤقتة لاحتواء التصعيد المسلح: في حالة عدم نجاح التدابير الأمنية الحكومية، فمن الوارد أن تلجأ حكومة "تراوري" للدخول في مفاوضات مع تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين" للتوصل إلى تهدئة من شأنها أن توقف الهجمات الإرهابية، أو تحد منها. قصور ممتدجملة القول، من غير المرجح أن تلجأ الحكومة البوركينابية -على الأقل في الوقت الراهن- للسيناريو الثالث، وذلك في ضوء النهج الأمني الصارم الذي تتبعه الحكومة، والذي يُظهر سعيها إلى اتباع استراتيجية القضاء الكامل على التنظيم، ناهيك عن الخطاب الذي تتبناه جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ضد الحكومة، والذي يظهر الصراع معها باعتباره صراعاً حتمياً بين "الخير والشر". كما أن نجاح السيناريو الثاني في القضاء على تمدد النشاط الإرهابي في الوقت الراهن غير مرجح، فبالنظر إلى التقدم المستمر لتنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، ثمة قصور كبير في الاستراتيجيات التي تتبعها الحكومة للتصدي لظاهرة الإرهاب، وهو ما يرجح استمرار توسع النشاط الإرهابي بالبلاد، ولا سيما مع المكاسب الميدانية التي يُحققها التنظيم بشكل مستمر، وغياب العلاج الفعلي لدوافع التمرد على الحكومة.

ما مستقبل النشاط الإرهابي المتصاعد في بوركينا فاسو؟