ميرفت زكريا

أثارت المفاوضات النووية التي تجري بين إيران والولايات المتحدة منذ 12 أبريل 2025 الكثير من الانتقادات من قبل بعض المحسوبين على التيار الأصولي في إيران، وعززت بعض الأحداث من هذا التوجه وخاصة بعد مطالبة بعض المسؤولين الأمريكيين بتفكيك البرنامج النووي، ومنع إيران من تخصيب اليورانيوم. وقد توازى ذلك مع إشارة الأصوليين إلى أن إيران مستعدة للانخراط في الخيارات الأخرى، بما فيها الخيار العسكري، في حالة ما إذا وجدت أنها سوف تكون مضطرة لتقديم تنازلات صعبة تمثل خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، أو لم تحصل على ضمانات تفيد بأن الولايات المتحدة لن تنسحب مجدداً من أي اتفاق نووي محتمل قد يتم الوصول إليه في النهاية.دوافع متعددةيمكن تفسير دوافع التيار المعارض لاستمرار المفاوضات النووية مع واشنطن في ضوء اعتبارات عدة تتمثل في:1- الاستفادة من استمرار العقوبات: يدرك بعض المحسوبين على التيار الأصولي وغالبيتهم من التابعين للحرس الثوري والمؤسسات الخيرية التي يديرها المرشد الأعلى علي خامنئي أن التوصل لاتفاق يؤدي لرفع العقوبات من الممكن أن يتبعه الانضمام لبعض الاتفاقيات الدولية الخاصة بالرقابة على المعاملات المصرفية مثل اتفاقية مجموعة العمل المالي "فاتف"، ما يحرمهم من تهريب النفط عبر السوق السوداء، ويحد من دور الوسطاء الذين يتخذوا تجارة النفط ذريعة للاختلاس والفساد.وفي السياق ذاته، قد يؤدي انفتاح إيران أمام الاستثمارات الأجنبية إلى الحد من حصة شركات الحرس الثوري وبعض المؤسسات الخيرية الاقتصادية التي تسيطر عليها النخبة الأصولية من التجارة داخل القطاعات الحيوية في الاقتصاد الإيراني مثل النفط والبتروكيماويات. والشاهد على ذلك التوترات البارزة التي نشأت بين الحرس الثوري والحكومة في عهد الرئيس الأسبق حسن روحاني، وخاصة خلال فترة ما بعد توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في 14 يوليو 2015.2- إضعاف حكومة الرئيس بزشكيان: لا يرغب التيار الأصولي، ولا سيما جبهة "الثبات والصمود (بايداري)"، وهي جبهة برلمانية تحسب على الأصوليين المتطرفين، أن ينسب لحكومة بزشكيان الإصلاحية فضل التوصل لاتفاق نووي مع الولايات المتحدة، والحد من بعض التداعيات السلبية المباشرة للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران مثل تحسن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.ويقود هذه الجبهة المرشح الانتخابي الخاسر في الاستحقاقات الرئاسية الماضية سعيد جليلي، الذي يبدو وكأنه يحاول الانتقام لخسارته عبر إضعاف شرعية الحكومة؛ حيث اتضحت أبرز ملامح ذلك في إقالة وزير الاقتصاد الإيراني عبد الناصر همتي في بداية مارس 2025 بسبب اتهامه بالفشل في مواجهة تدني قيمة الريال وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتبعها استقالة نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية وزير الخارجية الأسبق جواد ظريف على خلفية مزاعم بتعطيله عمل الحكومة والجنسية الأمريكية لأبنائه.كما استغلت "جبهة بايداري" حادث انفجار ميناء الشهيد رجائي في بندر عباس لاستكمال سلسلة الإقالات الوزارية؛ حيث قدم عدد من النواب طلبات استجواب لكل من وزيرة الطرق والتنمية الحضرية فرزانة صادقة ووزير الطاقة عباس علي آبادي، الأمر الذي يظهر مدى إصرارها على تحميل الحكومة كافة الأخطاء حتى وإن كانت هناك بعض المؤسسات الشريكة لها في ذلك مثل الحرس الثوري الإيراني ومؤسسة المستضعفين؛ حيث يستورد الحرس المواد الكيميائية المستخدمة في صناعة الصواريخ والأسلحة عبر شركة تابعة لمؤسسة المستضعفين التي تعد إحدى الجهات المسؤولة عن إدارة الميناء.3- الاحتفاظ بالسيطرة على مؤسسات صنع القرار: يخشى الأصوليون من أن يؤدي نجاح الإصلاحيين في التفاوض مع واشنطن والتوصل إلى اتفاق نووي أن يزيد ذلك من قدرتهم على تعزيز نفوذهم داخل مؤسسات صنع القرار التي ما تزال تحت سيطرة الأصوليين مثل مجلس الشورى الإسلامي ومجلس الخبراء ومجمع تشخيص مصلحة النظام، أو أن يفوز بزشكيان بفترة رئاسية ثانية تمكنه من انتزاع المزيد من المكاسب من خلال توافقه مع المرشد الأعلى علي خامنئي.وظهرت أبرز مؤشرات ذلك في نجاح الرئيس في الإفراج عن السياسي البارز وأحد أبرز قادة "الحركة الخضراء" الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية منذ 14 عاماً مهدي كروبي، وتأجيل تنفيذ قانون "العفة والحجاب" الذي كان من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على شرعية الحكومة ويزيد من الانتقادات، لا سيما من قبل الإصلاحيين الذين يؤكدون أن بزشكيان فشل في الوفاء بوعوده الانتخابية وخاصة على صعيد تقليص القيود المفروضة على المجال العام.وفي السياق ذاته، يحاول الأصوليون استبعاد الإصلاحيين من ملف اختيار خليفة المرشد الأعلى الحالي علي خامنئي بعد وفاته، وذلك لتجنب تعزيز دور بعض الشخصيات المعتدلة أو زيادة تأثير الآراء الإصلاحية التي تطالب بأن لا ينحصر منصب المرشد في شخص واحد بل بمجلس يتكون من 4 أو 5 أشخاص يكون أكثر اعتدالاً وقدرة على التعامل مع التحديات التي تواجهها إيران خلال هذه الفترة والمرجح أن تستمر لعقود قادمة. ويرغب الأصوليون خلافاً لذلك في أن يكون هناك مرشد أعلى ذو توجهات متشددة يحافظ على استمرار النظام بشكله الحالي ويعزز من سيطرتهم على مؤسسات صنع القرار المختلفة.4- الإبقاء على مستوى العلاقات مع روسيا والصين: من شأن الحفاظ على الوضع الراهن (استمرار العقوبات وعدم التوصل لاتفاق) أن يُبقي على المستوى الحالي للعلاقات مع كل من موسكو وبكين ويعزز من الركائز المتشددة التي يتأسس عليها النظام في إيران، وهو ما يتوافق مع رؤى وحسابات الأصوليين الذين لا يستبعدون أن يؤدي التوصل لاتفاق مع واشنطن ودخول الشركات الأمريكية والأوروبية للسوق الإيرانية إلى تراجع أهمية الشراكات الاستراتيجية التي عقدتها إيران مع كل من روسيا والصين خلال الفترة الماضية.وتكمن أهمية القوى الكبرى الشرقية بالنسبة لنظام الولي الفقيه في أنها نظم شبه سلطوية مشابهة إلى حد كبير لأسس حكم النظام في طهران، ولا تعتمد على الآليات الدولية التي تنتهجها القوى الغربية في علاقاتها مع الدول مثل فرض العقوبات الاقتصادية والتدخل في ملف حقوق الإنسان.ورغم تقديم عروض استثمارية إيرانية تُقدر بتريليون دولار للولايات المتحدة على هامش المفاوضات النووية الجارية في سلطنة عمان، إلا أن الأصوليين يعتبرون أن دخول الشركات الأمريكية إلى إيران يعني تعزيز الانفتاح الشعبي على الثقافة الغربية، وخاصة على صعيد الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية من قبل الأجيال الجديدة. لذا، يعد تعزيز العلاقات مع روسيا والصين –حتى وإن كان لا يلبي متطلبات تحسين الأوضاع الاقتصادية– البديل الأكثر ملاءمةً بالنسبة لهم من أجل الحفاظ على المكتسبات الاقتصادية والسياسية التي استطاعوا انتزاعها خلال المرحلة الماضية، عبر استغلال تصاعد حدة التوتر في العلاقات بين إيران والدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة.محددات محورية في النهاية، يمكن القول إن الأصوليين لن يتوقفوا عن محاولات عرقلة إتمام صفقة نووية مع الولايات المتحدة، ولكن ذلك سوف يتوقف على بعض المحددات الرئيسية التي تتمثل في مدى قدرة حكومة بزشكيان وفريق التفاوض على استقطاب مزيد من الدعم الداخلي لأهمية الاتفاق المحتمل مع واشنطن لجهة رفع العقوبات وتحسين الأوضاع الاقتصادية، فضلاً عن طبيعة الملفات التي ستتضمنها المفاوضات وما إذا كانت ستقتصر على الملف النووي فقط أم ستتطرق إلى ملفات أخرى مثل البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي.

لماذا يعارض الأصوليون استمرار المفاوضات النووية مع واشنطن؟