د. حمدي بشير

يعكس التصعيد المتواصل لهجمات فرع تنظيم "داعش الصومال" في إقليم بونتلاند عودة لافتة لنشاط التنظيم في المنطقة، حيث أعلن في 10 يونيو 2025 عن تنفيذه كميناً أسفر عن مقتل 46 عنصراً من قوات الأمن المحلية، في واحدة من أعنف هجماته خلال الأشهر الأخيرة. وتثير هذه العملية الدامية تساؤلات حول قدرة التنظيم على إعادة تنظيم صفوفه وشن هجمات نوعية رغم الضربات العسكرية التي تلقاها مؤخراً، مما يؤكد استمرار التهديد الأمني الذي يمثله للتوازن والاستقرار في شمال شرق الصومال.خصائص التنظيم ثمة العديد من الخصائص التي تميز التنظيم وتسهل من تصعيد هجماته في بونتلاند، ومن أبرزها:1- استثمار التنظيم للتضاريس الجغرافية والمناطق الرخوة: أظهر تنظيم داعش في الصومال قدرة لافتة على استثمار التضاريس الجغرافية الوعرة والمناطق الرخوة في إقليم بونتلاند لتعزيز نشاطه المسلح، حيث تمثل جبال "كال ميسكاد" حصناً طبيعياً يصعب الوصول إليه، وتصل ارتفاعات بعض قممها إلى 7000 قدم، مما يجعلها بيئة مثالية للاختباء وإعادة التموضع. كما توفر المنطقة للتنظيم مصادر طبيعية غنية من المياه والزراعة، إلى جانب منفذ بحري يتيح له فرص التهريب والتواصل مع فرع التنظيم في اليمن. هذه البيئة المعقدة تمنح داعش مزايا لوجستية مهمة تشمل فرض الضرائب، والتعبئة المالية، وإعادة تنظيم الصفوف بشكل دوري، ما يُصعّب مهمة احتواء تهديده أمنياً وعسكرياً.2- الاعتماد على عناصر ذوي خبرات قتالية سابقة: يعتمد "داعش الصومال" على تركيبة مقاتلين غالبيتهم من غير الصوماليين، ممن قدموا من العراق وسوريا أو انشقوا عن "حركة الشباب"، فبرغم تمركز مقاتلي التنظيم (عددهم بين 700 و800 مقاتل) في الصومال، إلا أن الصوماليين لا يشكلون سوى أقلية في صفوفه، بينما يُشكِّل الأجانب من أصول عربية وأفريقية الأغلبية الساحقة. وعلى عكس التنظيمات الإرهابية الأخرى، يضم داعش في صفوفه خبراء قادرين على تصنيع أسلحة فتاكة وحديثة ومنخفضة التكلفة. وقد جعلته هذه القدرة من أخطر الجماعات الإرهابية في السنوات الأخيرة. ويعزز هذا الطابع العابر للحدود قدرة التنظيم على الحفاظ على تماسكه الداخلي رغم الضغوط المحلية. وقد ساهمت الخبرات الميدانية السابقة لهؤلاء المقاتلين في نقل تكتيكات متطورة لبيئة القتال في بونتلاند، ما مكن التنظيم من شن عمليات نوعية ذات طابع مباغت. كما يُعزز هذا التنوع من قدرة التنظيم على تنسيق الدعم مع فروع خارجية وتمويل أنشطة عابرة للحدود، مما يمنحه بعداً إقليمياً يتجاوز التهديد المحلي.3- التخفي داخل المجتمعات البدوية لتعزيز الانتشار والبقاء: استقر التنظيم منذ 2015 في جبال "كال ميسكاد" الوعرة، وتشير بعض التقديرات إلى تنفيذهم نحو 20 هجوماً في يناير وفبراير2025، مقارنة بثماني هجمات في مارس وأبريل من العام نفسه، مستفيداً من صعوبة الوصول إلى المجتمعات البدوية لتطوير استراتيجيةِ تخفٍّ متقدمة تشمل ارتداء المقاتلين ملابس مدنية والاندماج في المجتمعات البدوية في إقليم باري، ويسهم هذا النمط من التمويه في إرباك الأجهزة الأمنية وإطالة أمد ملاحقة عناصر التنظيم، إذ يصعب تمييزهم عن السكان المحليين في ظل الطبيعة المتنقلة للمجتمعات البدوية. كما يُعد هذا التكتيك انعكاساً لقدرة التنظيم على استيعاب الدروس من تجارب فروعه الأخرى، ولا سيما في سوريا والعراق، حيث أظهر عناصره مهارات متقدمة في التكيف مع البيئات المحلية. ويمنح هذا التغلغل الميداني داعش ميزة تكتيكية مزدوجة: من جهة يُقلص فُرص استهدافه بعمليات مباشرة، ومن جهة أخرى يُتيح له بناء شبكات دعم محلية تسهّل الحركة والإمداد.4- تكثيف التنظيم لجهود التعبئة المالية والتمويلية: حيث تمكن التنظيم من تعزيز نفوذه الاقتصادي بشكل خاص في مدينة بوصاصو الساحلية، المركز الاقتصادي لبونتلاند، وهو ما مكنه من جني ملايين الدولارات من ابتزاز الشركات، وجمع فوائض مالية تفوق احتياجاته لتمويل عملياته الإرهابية، مما سمح له بتمويل جماعات متطرفة أخرى في أفريقيا، بما في ذلك داعش غرب أفريقيا وخلايا داعش في موزمبيق. ويدعم التنظيم بشكل مباشر مخططات هجمات داعش الخارجية نظراً لدوره كمركز إداري، وباعتباره مركزاً للمقاتلين الأجانب. 5-استغلال التنظيم تركيز حركة الشباب عملياتها ضد مقديشو: حيث ظلت حركة الشباب تمثل تحدياً كبيراً للتنظيم لتوسيع نشاطه وعملياته في الصومال، ويأتي هذا التصعيد من جانب داعش الصومال في الوقت الذي وجهت فيه حركة الشباب تركيز عملياتها ضد الحكومة الفيدرالية والعاصمة مقديشو، ما دفعها إلى الانسحاب من الكثير من المواقع التي سارع داعش للسيطرة عليها في الجبال، وبالتالي استفاد داعش الصومال من انشغال الحكومة الفيدرالية وحركة الشباب في حربهما ضد بعضهما بعضاً، في توسيع نشاطه في بونتلاند.6-ضعف التنسيق الأمني بين الحكومة الفيدرالية وحكومة بونتلاند: يعد غياب التنسيق الفعال بين الحكومة الفيدرالية الصومالية وسلطات ولاية بونتلاند من أبرز العوامل التي تضعف الاستجابة الأمنية في مواجهة تنظيم داعش. فالمسؤولون في بونتلاند يشتكون باستمرار من غياب الدعم الفيدرالي، ويتهمون مقديشو أحياناً بعرقلة محاولاتهم للتواصل مع المجتمع الدولي لطلب المساعدة. هذا الانقسام السياسي يعقد من بلورة استراتيجية وطنية موحدة ضد الإرهاب، مما يمنح التنظيم هامشاً واسعاً للمناورة وإعادة التمركز. كما أن غياب استراتيجية موحدة وطويلة الأمد يعزز من قدرة تنظيم داعش على ترسيخ وجوده في المنطقة. ويُثير مخاوف بشأن تدفق الأسلحة من الحوثيين في اليمن إلى الصومال، واستخدام طرق تهريب معروفة لنقل الأسلحة الصغيرة إلى التنظيم.تحديات متعددة على الرغم من قدرة داعش الصومال على الحفاظ على بقائه وتصعيد هجماته فإنه يواجه تحديات كبيرة، من أهمها:1-الضربات العسكرية المستمرة لمعاقل التنظيم: حيث صرّح مسؤولون في بونتلاند، في 31 مايو 2025، بأن تنظيم داعش "ينهار" في بونتلاند. وأكدت الأجهزة الأمنية في بونتلاند أنها سيطرت على آخر معسكر للتنظيم في جبال كال ميسكاد، حيث توجد مناطق دعمه الرئيسية. وجاء ذلك بعد أن أعلنت سلطات بونتلاند، في ديسمبر 2024، عن شن عملية أطلقت عليها "عاصفة رعدية"، بهدف القضاء على الوجود المتزايد لتنظيم داعش في الولاية، وأكدت التقارير الصومالية أن "المرحلة الأخيرة" من العملية قد انتهت بانتصار حاسم. وعلاوة على ذلك، نفذت القيادة الأمريكية في أفريقيا ما لا يقل عن 19 غارة جوية استهدفت التنظيم منذ فبراير 2025، أسفرت عن مقتل العشرات من مقاتليه.2-خسارة مواقع لوجستية رئيسية في بونتلاند: حيث تشير التقارير الصومالية إلى سيطرة قوات الأمن في بونتلاند على مواقع رئيسية وتدميرها لمخابئ أسلحة يستخدمها المسلحون وتطهير مساحات شاسعة من أراضي التنظيم، وتدمير العديد من مناطق تدريبه، ومنشآت تصنيع الأسلحة، والاستيلاء على سيارات رباعية الدفع ومسلحة، فضلاً عن تدمير آبار وإمدادات غذائية يعتمد عليها التنظيم في توفير المؤن الغذائية لمقاتليه.3- تعزيز الضغوط على شبكات التمويل والتجنيد: حيث أكدت تقارير محلية في فبراير 2025 أن حكومة بونتلاند صادرت أموالاً من عشرات الحسابات المرتبطة بالتنظيم وأغلقتها. وعلاوة على ذلك، حظرت حكومة بونتلاند دخول الأجانب غير الشرعيين في يناير 2025، وذلك لمنع تدفق المقاتلين الأجانب إلى صفوف التنظيم. وشنت قوات أمن بونتلاند حملة قمع على المهاجرين غير الشرعيين في بوصاصو للحد من تجنيد داعش. ووضعت بونتلاند بعض الشروط لمواصلة الضغط على مناطق دعم داعش في الجبال من خلال التعاون مع المدنيين المحليين.4-التعبئة المجتمعية والدينية لمساندة الجهود الأمنية ضد التنظيم: حيث كشفت تقارير صومالية عن تبرع السكان بسخاء بالماشية والطعام لدعم جهود الأجهزة الأمنية، ويكثف رجال الدين من دعمهم لجهود مكافحة الإرهاب خلال حملات التوعية وخطب المساجد في بونتلاند، وإصدار الفتاوَى التي تحض على مكافحة الإرهاب، وقد أصدر الشيخ محمود حاجي يوسف، المرجع الديني البارز في الولاية، في وقت سابق، فتوى تعفي الجنود المقاتلين من الصيام، وذلك لدعم الجهود الأمنية في مكافحة الإرهاب.تعقد المواجهةختاماً، تكشف تجربة بونتلاند مع تنظيم داعش عن عمق التحديات الأمنية التي لا تقتصر على الجغرافيا المحلية، بل تتجاوزها نحو تهديدات إقليمية وبحرية ذات طابع معولم. فاستمرار التنظيم في إعادة التموضع وتوسيع شبكات التجنيد والتمويل يفرض واقعاً أمنياً مقلقاً يهدد استقرار الصومال ويقوّض جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة، ولا يمكن عزل هذه التهديدات عن غياب الانسجام بين الحكومة الفيدرالية وبونتلاند، وهو ما يمنح التنظيم هامشاً للحركة والتمدد. ومن ثم فإن التحرك الفاعل يستوجب مقاربة مزدوجة؛ أولها داخلية تُعالج الانقسام السياسي وتعيد بناء الثقة بين الحكومة المركزية والولايات، وثانيها خارجية تُبنى على شراكات أمنية دولية أكثر انخراطاً في دعم بونتلاند استخباراتياً ولوجستياً. إن تفكيك تهديد داعش في بونتلاند لن يتحقق إلا من خلال معالجة التصدعات البنيوية التي تمنح التنظيم فرصة لإعادة إنتاج نفسه.

دلالات تصعيد تنظيم داعش هجماته في إقليم بونتلاند