د. محمد عباس ناجي

تتجه إيران نحو تعزيز الانفتاح على الدول الأوروبية، بعد مرحلة من التوتر شابت العلاقات بين الطرفين؛ بسبب اتساع نطاق الخلافات حول ملفات عديدة إقليمية ودولية؛ فبعد الزيارتين اللتين أجراهما وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى كلٍّ من روسيا والصين، أبدى استعداده لإجراء زيارات إلى الدول الأوروبية، لا سيما دول الترويكا: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وعقد حوار منتظم حول هذه الملفات. وقد كان لافتاً أن هذا الانفتاح الإيراني جاء بالتوازي مع استمرار انعقاد جولات المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث تُعقَد الجولة الثالثة، على المستويين السياسي والفني، في العاصمة العمانية مسقط، في 26 أبريل 2025، كما أنه يأتي في خضم الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل الوصول إلى تسويةٍ تُنهِي الحرب الروسية–الأوكرانية، التي كان من تداعياتها تصعيد حدة التوتر في العلاقات بين إيران والدول الأوروبية.دوافع عديدةاعتبر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن العلاقات بين إيران والدول الأوروبية تشهد تراجعاً ملحوظاً؛ بسبب تمسُّك كل طرف بمقاربته الخاصة، مشيراً إلى أنه مستعد لإجراء زيارات إلى الدول الثلاث التي كانت معنيةً منذ بداية الأزمة النووية الإيرانية بالانخراط فيها، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ويمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تدفع إيران حالياً إلى تعزيز الانفتاح على الدول الأوروبية، يتمثل أبرزها في:1– تحييد استخدام "آلية الزناد": تدرك إيران أن الدول الأوروبية يمكن أن تتسبب في تأجيج أزمة البرنامج النووي الإيراني، باعتبار أنها تمتلك ورقة ضغط مهمة، يمكنها بها – إذا أرادت – عرقلة ما يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات التي تجري حالياً بين الوفدين الإيراني والأمريكي برئاسة وزير الخارجية عباس عراقجي والمبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف. وتتعلق هذه الورقة بما تسمى "آلية الزناد" أو "Snapback"، التي تتيح للدول الأوروبية تقديم شكوى إلى مجلس الأمن تفيد بتقاعس إيران عن الالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015، على نحوٍ يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إعادة تفعيل العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران وتم تعليقها بمقتضى هذا الاتفاق. ومن دون شك، فإن الوصول إلى هذا المستوى من التصعيد لن يكون في صالح إيران، باعتبار أن إعادة تفعيل العقوبات الدولية سوف تفرض مزيداً من الضغوط على إيران، التي تعاني في الأساس من التداعيات القوية للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية منذ 6 أغسطس 2018 بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه.2– استغلال التوتر بين ترامب والأوروبيين: تتابع إيران بدقة تطورات العلاقات بين إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والدول الأوروبية، التي بدأت تشهد تباينات متعددة حول العديد من الملفات الرئيسية، على غرار مستقبل تسوية الأزمة التي أنتجتها الحرب الروسية–الأوكرانية، والموقف من الالتزامات الأمنية والمالية في حلف شمال الأطلنطي، فضلاً عن الرسوم الجمركية التي فرضتها واشنطن منذ 3 أبريل 2025.ويبدو أن إيران ترى أن اتساع نطاق تلك الخلافات يتوافق مع مصالحها، باعتبار أنه يمكن أن يؤدي إلى توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة والمناورة المتاحة أمامها على الصعيد الدولي، خاصةً في المرحلة الحالية التي تجري فيها المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية حول البرنامج النووي.وربما يمكن تفسير ذلك بأن إيران اعتبرت أن التباين الأمريكي–الأوروبي عزز موقعها في مواجهة الضغوط الأمريكية خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، خاصةً بعد أن انسحب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، وهو ما تحاول إعادة استنساخه خلال المرحلة الحالية، رغم التحولات البارزة التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية في الأعوام الماضية.3– احتواء التوتر مع الدول الأوروبية: لم تقتصر الخلافات العالقة بين إيران والدول الأوروبية على البرنامج النووي أو الصواريخ الباليستية أو النفوذ الإقليمي، بل امتدت إلى ملفات أخرى ترتبط باعتبارات أمن قومي للدول الأوروبية، التي لم يكتفِ بعضها بتوجيه اتهامات مباشرة إلى إيران بالتدخل في شؤونها الداخلية والإضرار بالأمن القومي والمصالح العليا، بل اتخذت خطوات إجرائية في هذا الصدد. وقد كانت هولندا آخر الدول الأوروبية التي اتخذت قرارات في هذا الصدد؛ حيث استدعت وزارة الخارجية الهولندية، في 24 أبريل 2025، السفير الإيراني لدى أمستردام، بعد أن أعلنت الاستخبارات الهولندية أن إيران ضالعة في عمليتَي اغتيال.وأشار التقرير السنوي لجهاز الاستخبارات الهولندية إلى أن السلطات اعتقلت رجلين في يونيو 2024، بمدينة هارلم بعد محاولة اغتيال إيراني مقيم في البلاد، وأضافت أن أحد المقبوض عليهما يُشتبَه في ضلوعه بمحاولة اغتيال السياسي الإسباني أليخو فيدال كوادراس في مدريد في عام 2022، خاصةً أن الأخير معروف بانتقاداته الواسعة للسياسة التي تتبعها إيران. ومن هنا، فإن تعزيز الانفتاح على الدول الأوروبية يهدف، في قسم منه، إلى احتواء التداعيات السلبية التي يمكن أن يفرضها هذا التوتر المتصاعد نتيجةَ الاتهامات المستمرة التي توجهها بعض الدول الأوروبية إلى إيران بمحاولة استهداف رموز المعارضة الإيرانية أو مصالح دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل على أراضيها.4– الاستعداد للصفقة النووية المحتملة: ترى إيران أن الانفتاح على الدول الأوروبية يمكن أن يساعدها – في حالة الوصول إلى اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة الأمريكية – في استقطاب استثمارات أوروبية في قطاعات عديدة، خاصةً أن هذا الاتفاق سوف يتضمن رفعاً لقسم من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. وربما لا ينفصل ذلك عن إشارة بعض الاتجاهات في إيران إلى أن التعويل على إمكانية استقطاب استثمارات أمريكية مباشرة إلى إيران في حالة الوصول إلى مرحلة التوقيع على الصفقة، يبدو مبالَغاً فيه، ويواجه إشكاليات عديدة، خاصةً أن هناك عقبات مختلفة يمكن أن تحول دون وجود استثمارات أمريكية كبيرة داخل إيران.ويعني ذلك، في المقام الأول، أن التعويل هنا سيكون على الاستثمارات الأوروبية والخليجية والصينية تحديداً. ومن هنا، ربما يمكن تفسير أسباب اهتمام إيران بتعزيز التواصل مع كل من الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، بالتوازي مع محاولاتها تقليص حدة التوتر مع الدول الأوروبية، التي كانت من أوائل الدول التي سعت إلى الاستثمار في إيران عقب تعليق العقوبات الدولية المفروضة عليها في 16 يناير 2016، بعد الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، كما لا ينفصل ذلك عن رؤية إيران للأسواق التي يمكن أن تستقبل تجارتها، في حالة إبرام الصفقة النووية؛ حيث تسعى عبر الانفتاح على الدول الأوروبية، إلى الاستعداد مسبقاً للعودة إلى تصدير النفط إلى هذه الدول، خاصةً إذا ما فشلت جهود ترامب في إبرام تسوية تُنهِي الحرب الروسية–الأوكرانية.&nbsp;وربما يرتبط ذلك بالجهود التي تبذلها حكومة الرئيس مسعود بزشكيان من أجل احتواء التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران بسبب العقوبات؛ حيث إنها مارست ضغوطاً من البداية لإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل معارضة من جانب بعض المؤسسات والقوى السياسية، وبدأت تمهد المجال أمام استقطاب الاستثمارات الأجنبية، على نحوٍ يبدو جلياً في مساعيها لدفع مؤسسات النظام، لا سيما مجلس تشخيص مصلحة النظام، لإعادة النظر في الاتفاقية الخاصة بالانضمام إلى مجموعة العمل الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال "فاتف".تحول مشروطمع ذلك، تبقى جهود إيران لتقليص حدة التوتر في العلاقات مع الدول الأوروبية، واستقطاب استثمارات مباشرة من جانب تلك الدول، والعودة لتصدير النفط إليها، مشروطةً بالوصول إلى صفقة نووية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فمن دون هذه الصفقة، سوف تتعرض إيران لضغوط وعقوبات جديدة؛ ليس فقط من جانب الأخيرة، بل أيضاً من قِبَل هذه الدول التي باتت ترى أن السياسة التي تتبعها إيران تفرض تهديدات مباشرة لأمنها ومصالحها على أكثر من مستوى.

لماذا تسعى إيران إلى الانفتاح على أوروبا؟