د. يوسف داوود

في ظل السياسات الأمريكية الجديدة التي تنتهجها إدارة الرئيس دونالد ترامب، تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة والسنغال تغيرات كبيرة، لا سيما في مجالات التعاون الاقتصادي والأمني؛ فمع توجه واشنطن نحو تقليص تمويل المشاريع الخارجية، تأثرت السنغال بشكل مباشر بإجراءات خفض الإنفاق الأمريكي، مثل تجميد تمويل مركز التدريب التكتيكي في تييس، ووقف مشاريع تنموية كانت مدعومة من وكالة التنمية الأمريكية (USAID). وتطرح هذه التطورات تساؤلات حول مستقبل الشراكة بين البلدين، وإذا ما كانت هذه السياسة ستؤدي إلى تراجع النفوذ الأمريكي في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي مناطقها الأكثر احتياجاً بشكل خاص، ومنها الغرب الأفريقي. تحديات قائمةبعد انقضاء شهر من عمر الإدارة الجمهورية الجديدة، ظهرت بشكل جلي ملامح تأثر العلاقات الأمريكية السنغالية بقرارات البيت الأبيض الجديدة، التي أفرزت جملة من التحديات أمام هذه العلاقة؛ أبرزها:1– تأثير تقليص المساعدات الأمريكية على الاقتصاد السنغالي: تواجه السنغال تحديات اقتصادية متزايدة بسبب تقليص المساعدات الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب؛ ففي عام 2023، خصصت وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID) نحو 164.5 مليون دولار لدعم مشاريع تنموية في السنغال، لكن الإدارة الأمريكية الجديدة أوقفت هذه المساعدات؛ ما أثر سلباً على قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية. إضافةً إلى ذلك، تم تعليق تمويل مشاريع كبرى، مثل تركيب كابلات كهربائية تحت البحر في دكار؛ ما أدى إلى فقدان مئات العمال لوظائفهم.2– تعليق برامج التدريب العسكري والتعاون الأمني: كانت السنغال واحدة من الدول الأفريقية التي استفادت من برامج التدريب العسكري الأمريكية، لكن هذه العلاقة تعرضت لضربة قوية بعد أن جمدت إدارة ترامب تمويل مركز التدريب التكتيكي في مدينة تييس. وقد كان هذا المركز، الذي افتُتح عام 2018، يرمز إلى التعاون العسكري الوثيق بين البلدين؛ حيث تلقى الجنود السنغاليون تدريبات من القوات الأمريكية لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وفي عام 2023، خصصت الولايات المتحدة نحو 264 مليون دولار لدعم قوات الأمن في 45 دولة، نصفها تقريباً في أفريقيا، لكن تعليق هذا التمويل أدى إلى تقويض القدرات الدفاعية للسنغال.3– تضرر السنغال من ضغوط واشنطن على المؤسسات المالية الدولية: لم تقتصر التحديات التي تواجهها السنغال في فترة إدارة ترامب الثانية على خفض التمويل الأمريكي المباشر، بل امتدت إلى الضغوط التي تمارسها واشنطن على المؤسسات المالية الدولية، التي كانت قد بدأت إرهاصاتها تظهر في أكتوبر 2024؛ حين علَّق صندوق النقد الدولي (IMF) مدفوعاته إلى السنغال بعد اكتشاف تلاعب في البيانات المالية خلال حكم الرئيس السابق ماكي سال، بعدما تبين أن الديون والعجز المالي تم الإبلاغ عنهما بأرقام أقل من الواقع​. ومع نفوذ الولايات المتحدة الكبير داخل صندوق النقد الدولي (16.5% من حقوق التصويت)، يمكن أن تستخدم إدارة ترامب هذه الأزمة للضغط على الحكومة السنغالية لتقديم تنازلات اقتصادية أو سياسية تتماشى مع مصالحها؛ ما يثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار الاقتصادي السنغالي في ظل هذه الضغوط الخارجية.4– تشكك واشنطن في تزايد النفوذ الصيني داخل السنغال: ساهمت سياسات إدارة بايدن السابقة في تقليص النفوذ الأمريكي في أفريقيا؛ ما أتاح المجال لقوى أخرى، مثل الصين وروسيا، لتعزيز وجودها؛ ما وضع إدارة ترامب في موقف متراجع بالنسبة إلى منافسي الولايات المتحدة في أفريقيا؛ فانسحاب الولايات المتحدة من بعض برامج التنمية في السنغال، مثل تلك التي تمولها مؤسسة "التحدي الألفي " (Millennium Challenge Corporation)، خلق فراغاً استغلته الصين، التي زادت استثماراتها في مشروعات البنية التحتية والطاقة في البلاد؛ ففي السنوات الأخيرة، موَّلت بكين مشاريع ضخمة، مثل جسر السنغال السريع وميناء دكار الجديد؛ ما يعكس تحولاً تدريجياً في التوازن الجيوسياسي في المنطقة. هذا الاتجاه يؤشر على وقوع السنغال على رادار الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة مع رفعها شعار معلن بمجابهة نفوذ الصين في كل مناطق العالم.5– تأثير سياسة "أمريكا أولاً" على علاقات واشنطن وداكار: فرضت سياسة "أمريكا أولاً" التي تبناها ترامب تحديات على العلاقات الدبلوماسية بين السنغال والولايات المتحدة؛ حيث تركز إدارة ترامب على تحقيق مكاسب اقتصادية مباشرة للولايات المتحدة؛ ما أدى إلى تقليل اهتمامها بالدبلوماسية التقليدية والمساعدات التنموية. هذا التحول أثر على العلاقات الثنائية؛ حيث أعربت حكومة السنغال عن قلقها من أن واشنطن لم تعد تنظر إلى دكار كشريك استراتيجي، بل كدولة ثانوية في أولوياتها الخارجية.آفاق المستقبلمن المرتقب أن تؤدي هذه التحديات السابقة إلى مجموعة من التأثيرات على العلاقة الثنائية بين واشنطن وداكار، وعلى بعض المظاهر الأخرى ذات الصلة، وهي التحديات التي يمكن رصد أهمها على النحو التالي: 1– تأثير تقليص المساعدات على التنمية المستدامة في السنغال: أدى تخفيض المساعدات الأمريكية إلى عرقلة العديد من المشاريع التنموية في السنغال، لا سيما في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية؛ حيث كانت الولايات المتحدة أحد الداعمين الرئيسيين لبرامج الحد من الفقر، إلا أنه أصبح من الصعب على الحكومة السنغالية الاستمرار في تنفيذ خططها التنموية بالوتيرة نفسها، كما أن انخفاض المساعدات أثر على قطاع الصحة؛ حيث باتت بعض المستشفيات تعاني من نقص في التمويل؛ ما يهدد جودة الخدمات الطبية المقدمة. وإذا استمر هذا التراجع، فقد يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر وتدهور مستوى المعيشة في البلاد.2– مدى توسع السنغال في الاعتماد على قوى دولية أخرى: مع تراجع الدعم الأمريكي، من المتوقع أن تبدأ السنغال في البحث عن بدائل لتعويض النقص في التمويل والاستثمارات. في السياق ذاته، من المرجح أن تجد في الصين وروسيا شريكين محتملين لتعزيز مشاريعها الاقتصادية والتنموية؛ وذلك لأنه في السنوات الأخيرة، استثمرت الصين بشكل متزايد في مشاريع البنية التحتية في السنغال، مثل بناء الموانئ والطرق؛ ما عزز نفوذها في البلاد، لكن هذا التوجه قد يؤدي إلى اعتماد مفرط على القروض الصينية، وهو ما يثير مخاوف بشأن الديون السيادية وتأثيراتها على الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل، خصوصاً في ظل انتقادات واسعة للشروط الصارمة للتمويل الصيني.3– انعكاسات التهديدات الأمنية في المنطقة على حسابات الدولتين: لطالما كانت السنغال شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا، لكن تعليق برامج التدريب العسكري أدى إلى تراجع القدرات الأمنية؛ ما يعرض البلاد لمخاطر أمنية متزايدة من الجماعات المسلحة الناشطة في المنطقة، مثل جماعة نصرة الإسلام وداعش؛ حيث قد تستغل هذا الفراغ لتوسيع نفوذها وزعزعة الاستقرار الإقليمي، كما أن التراجع الأمريكي قد يدفع السنغال إلى البحث عن دعم أمني من جهات أخرى، مثل فرنسا أو الاتحاد الأوروبي؛ ما قد يؤدي إلى تغير في طبيعة التحالفات العسكرية في المنطقة.4– تأثير الضغوط الأمريكية على السيادة الاقتصادية السنغالية: من المتوقع أن يؤدي تعليق صندوق النقد الدولي بعض المدفوعات إلى إجبار الحكومة السنغالية على تنفيذ إصلاحات اقتصادية سريعة تتماشى مع المصالح الأمريكية؛ ما يقلل من هامش المناورة أمامها في صنع السياسات المالية والاقتصادية، ويزيد من تبعيتها للقرارات التي تُملى من الخارج.5– رغبة السنغال في التحول نحو سياسات أكثر استقلالية: في ظل هذه التحديات، قد تجد السنغال نفسها مضطرة إلى تبني سياسات أكثر استقلالية في علاقاتها الدولية، من خلال تنويع شراكاتها الاقتصادية وعدم الاعتماد المفرط على طرف بعينه، كما قد يدفعها ذلك إلى تعميق تعاونها مع الاتحاد الإفريقي والبحث عن حلول داخلية لتعزيز اقتصادها من دون الاعتماد على التمويلات الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، قد تسعى السنغال إلى تعزيز التكامل الإقليمي عبر تعزيز علاقاتها مع دول غرب إفريقيا الأخرى؛ ما قد يساعدها في مواجهة الضغوط الاقتصادية والسياسية بشكل أكثر فاعليةً.6– حدود دور فرنسا في ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة: مع تراجع الدور الأمريكي في السنغال، أصبحت فرنسا مرشحاً رئيسياً لتعزيز نفوذها في البلاد، مستفيدةً من الروابط التاريخية والثقافية القوية التي تربطها بالسنغال؛ لكونها المستعمر السابق وأحد الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين. وقد تسعى باريس إلى استغلال الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة لتعزيز وجودها في القطاعات الاقتصادية والأمنية، خاصةً في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل. ومع ذلك، فإن النفوذ الفرنسي يواجه تحديات متزايدة؛ حيث بدأت بعض الدول الإفريقية في إعادة تقييم علاقتها بفرنسا، مع تصاعد المشاعر المناهضة للوجود الفرنسي في المنطقة؛ ما قد يدفع السنغال إلى إعادة النظر في تحالفاتها التقليدية.الخلاصة: تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة والسنغال تحديات كبيرة نتيجة تقليص المساعدات الأمريكية، وتعليق التعاون الأمني، والضغوط الاقتصادية عبر المؤسسات المالية الدولية. ومن المرجح أن يؤدي هذا التراجع إلى فتح المجال أمام قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، لتعزيز نفوذها، فيما قد تحاول فرنسا استغلال الفراغ لتعزيز وجودها التقليدي في المنطقة. في ظل هذه المتغيرات، تواجه السنغال تحدي تحقيق توازن في علاقاتها الدولية، سواء عبر تنويع شراكاتها الاقتصادية أو تعزيز استقلالها في صنع القرار؛ حيث يبقى مستقبل هذه العلاقات مرهوناً بقدرة السنغال على التكيف مع المشهد الجيوسياسي الجديد وتأمين استقرارها الاقتصادي والأمني.

مستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة والسنغال في عهد ترامب