كرم سعيد

تعرضت كنيسة مار إلياس في دمشق لهجوم هو الأول من نوعه منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، وكان الهجوم الذي وقع في 22 يونيو 2025 موجعاً؛ حيث أسفر عن مقتل 20 شخصاً ونحو 52 مصاباً. وأعلنت وزارة الداخلية السورية، في بيان لها، عن إقدام انتحاري يتبع تنظيم "داعش" الإرهابي على إطلاق النار على المصلين، وتفجير نفسه بواسطة سترة ناسفة. ورغم خسارة "داعش" جانباً من معاقله في الداخل السوري خلال السنوات الأخيرة، فإنه يشكل تهديداً جدياً لأمن سوريا، خصوصاً أن الإدارة السورية الجديدة لا تزال غير قادرة على فرض كامل سيطرتها على الأراضي السورية، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول دلالات تصعيد تنظيم "داعش" هجماته الإرهابية من خلال التوجه نحو استهداف دور العبادة.سياقات محفزةتزامن الهجوم على كنيسة مار إلياس بالعاصمة دمشق مع تطورات مهمة في الملف السوري، مثَّلت أرضية خصبة لنشاط جماعات العنف، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– تصاعد التوتر بين دمشق وقوات "قسد": جاء هجوم كنيسة مار إلياس مع زيادة مساحات التوتر بين الإدارة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهي مساحات التوتر التي وصلت الذروة على خلفية قرار الإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا في 21 يونيو 2025 استحداث إدارة عامة تابعة لها لتشغيل مطار القامشلي الدولي، وهو ما أثار غضب دمشق، باعتبار أن هذه الخطوة تثبت هيمنة الأكراد على المطار، وتعزيز مساعي الاستقلال الفيدرالي للكرد، وهو ما دفع "الهيئة العامة للطيران المدني السوري" إلى الإعلان عن إغلاق مطار القامشلي الدولي، وتأكيد أنها "الجهة الوحيدة المخول لها قانوناً إدارة وتشغيل المطارات في الجمهورية العربية السورية".2– تكثيف هجمات دمشق على خلايا التنظيم: يأتي ذلك الهجوم في ظل ضربات متواصلة من الأمن السوري ضد خلايا تنظيم داعش، منها اشتباك القوات الحكومية في 17 مايو 2025 مع خلية تابعة لتنظيم "داعش" في حلب، بالإضافة إلى انضمام دمشق إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، بعد طلب رسمي أمريكي لمشاركة دمشق في جهود مكافحة التنظيم وروافده، كما يكشف الهجوم عن تعديل في سلة أهداف داعش بالتركيز على مقدسات ورموز غير المسلمين، في إطار محاولته ترسيخ الحوادث الطائفية، باعتبار أنها يمكن أن تكون كاشفة عن هشاشة السلطة الجديدة، وإظهار عدم القدرة على حماية كافة مكونات المجتمع السوري. وعلى ضوء ذلك، ووفقاً للعديد من التقديرات، ينظر تنظيم "داعش" إلى الإدارة السورية الجديدة كعدو رئيسي بعد أن قررت محاربته بشكل مباشر.3– استثمار التوترات الطائفية داخل سوريا: لا يُمكن فصل تصعيد "داعش" عملياته الإرهابية في الوقت الحالي عن الاحتقانات الطائفية التي تشهدها سوريا، ومنها إعلان الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في سوريا الشيخ حكمت الهجري، في مطلع يونيو 2025، عن أنهم لن يتخلوا عن سلاحهم حتى تستقر الدولة، كما أن تنامي مشاعر عداء "داعش" للمسيحيين في سوريا، ترتبط في جانب منها، بحسب بعض التحليلات، بمحاولة استغلال المواقف السلبية لليمين المتطرف في أوروبا تجاه الإسلام والمسلمين؛ ما يمثل حافزاً إضافياً لمقاتلي داعش على إثارة التحريض الطائفي والتعصب الديني في سوريا.4– الانشغال الدولي بالحرب الإسرائيلية الإيرانية: يأتي استهداف "داعش" دور العبادة في سوريا لأول مرة بالتزامن مع انشغال الإدارة السورية الجديدة بمحاولة تحييد الارتدادات العكسية للحرب على إيران، وتداعياتها على الداخل السوري، فضلاً عن انتقال الانتباه الدولي والإقليمي من سوريا إلى إيران، وانغماس إدارة ترامب في متابعة تطورات الحرب. وهنا، لا يُمكن فصل تصعيد "داعش" عملياته الإرهابية في الوقت الحالي عن انشغال الحكومة السورية الجديدة بوضع استراتيجية أمنية شاملة تقوم على تفادي مخاطر الحرب على إيران. 5– استمرار دعاية داعش السلبية ضد الإدارة السورية: شهدت الشهور الماضية دعاية داعشية سلبية مكثفة ضد الإدارة السورية الجديدة، واعتاد التنظيم وصف الرئيس "أحمد الشرع" بأوصاف سلبية، وترويج أن وصوله إلى السلطة كان بمنزلة صفقة مع الدول الغربية، بل إن التنظيم، في العدد 486 من صحيفة النبأ الصادر في 13 مارس 2025، انتقد مساعي الرئيس السوري لتعزيز التعايش بين الفئات والأقليات المختلفة داخل سوريا. هذه الأوصاف كان التنظيم يستخدمها للتمهيد لموجة من العمليات الإرهابية ضد الإدارة السورية الجديدة.6– توسيع داعش أهداف عملياته الإرهابية: يكشف استقراء هجمات تنظيم داعش داخل سوريا خلال السنوات الأخيرة عن تركيز التنظيم على استهداف قوات سوريا الديمقراطية أو حزب العمال الكردستاني. وبالرغم من ذلك، فإن الشهور الماضية شهدت بعض التوسع في أنشطة التنظيم؛ ففي شهر مايو الماضي، أعلن التنظيم عن استهداف آلية تابعة للسلطات السورية قرب منطقة "تلول الصفا" في "بادية السويداء"، وأفاد التنظيم بأن الهجوم أفضى إلى مقتل وإصابة 7 عناصر من القوات السورية.رسائل محددةيشير استهداف كنيسة مار إلياس إلى سعي الجهة المنفذة إلى تحقيق جملة من الأهداف، ويمكن بيانها على النحو التالي:1– إظهار القدرة على إزعاج السلطة في دمشق: يبدو أن الجهة المنفذة لتفجير كنيسة مار إلياس، تسعى إلى إيصال رسائل مفادها استمرار الصراع بين "داعش" و"هيئة تحرير الشام" التي تقود الحكم في سوريا، خصوصاً بعد تداول أخبار في مطلع يونيو 2025، تتعلق بتعيين تنظيم "داعش" لـ"أبي دجانة الجبوري" والياً على حلب. ويحمل هذا التعيين رسائل متعددة من قبل تنظيم "داعش"، في الصدارة منها عدم الرضا عن توجهات الإدارة السورية الجديدة، ومن ثم إظهار القدرة على إزعاجها من خلال استهداف الأقلية المسيحية، وهو ما يساهم في تأجيج الحوادث الطائفية في البلاد، فتتآكل الصورة الذهنية لإدارة أحمد الشرع.2– تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوري: ربما يستهدف تنظيم "داعش" المتهم بتدبير تفجير الكنيسة، وفقاً لتصريحات وزارة الداخلية السورية، من وراء ذلك، توسيع نطاق الانقسامات داخل المجتمع من خلال تسخين الملفات المذهبية والطائفية، وكذلك إرباك المشهد الأمني في الداخل السوري، وهو أمر من شأنه تأجيج التوترات المحلية، ومن ثم التأثير على تحركات السلطة السورية الجديدة بشأن فرض سيطرتها على البلاد.3– ترسيخ الحضور الإرهابي في الداخل السوري: تعرضت جماعات العنف في سوريا، وخاصةً تنظيم "داعش" خلال الأشهر الماضية لهزات عنيفة متوالية، خاصةً بعد اتساع مساحات التنسيق بين الإدارة السورية الجديدة والقوى الغربية، وفي مقدمتها واشنطن بشأن تحييد التنظيمات الإرهابية، وهو ما أدى إلى تراجع نسبي في سيطرة هذه التنظيمات المكانية والعملياتية بشكل مضطرد. وعلى ضوء ذلك، فإن تفجير كنيسة مار إلياس، يحمل رسالة أخرى، تفيد بأن التنظيمات الإرهابية لا تزال تمتلك القدرة على التحرك الميداني في سوريا، بالإضافة إلى تأكيد أن الضربات التي تلقتها لم تؤثر في نشاطها العملياتي.4– تأكيد الطابع الطائفي لعمليات داعش: يأتي استهداف كنيسة مار إلياس في سياق تأكيد الصفة العقائدية للجهة المنفذة، وهي على الأرجح "داعش" ضد خصومها المدنيين، باعتبارهم كفاراً، ومن ثم فإن استهداف دور العبادة المسيحية في سوريا، خاصةً بعد سقوط نظام الأسد، يمكن أن يوفر أرضية خصبة لاستعادة زخم التنظيمات المتطرفة، وخاصةً "داعش" في الأوساط المجتمعية المتطرفة داخل البلاد، التي تُعارِض مدنية الدولة، وتحمل توجهات عدائية ضد الأقليات المسيحية والدرزية والشيعية الموجودة في الداخل السوري.ارتدادات سلبيةختاماً، يمكن القول إن تفجير كنيسة مار إلياس ينطوي على دلالات "خفية" تؤطر الصراع بين التنظيمات العنيفة، وخاصةً "داعش" والإدارة السورية الجديدة التي تخلت عن ردائها الأيديولوجي لمصلحة مدنية الدولة، وهو ما تُعارِضه التيارات والجماعات المتطرفة، وخاصةً "داعش". وعلى ضوء ذلك، فإن التوجه نحو تفجير دور العبادة المسيحية ربما يفرض في طياته ارتدادات سلبية على مساعي تعزيز حالة الاستقرار في البلاد، ويطرح من جانب آخر بعض الشكوك بشأن قدرة الإدارة الجديدة على تحييد التنظيمات المتطرفة، ومنع الانزلاق نحو الطائفية والمذهبية.

دلالات الهجوم الإرهابي على كنيسة مار إلياس في دمشق