د. ياسمين كالميت

تمثل الملاحقة القضائية ضد جايير بولسونارو، التي جاءت نتيجة مزاعم تورطه في محاولة انقلاب وقعت في 8 يناير 2023، واحداً من أكثر الفصول توتراً في التاريخ السياسي الحديث للبرازيل. إن توجيه الاتهام إلى الرئيس السابق من قبل الشرطة الفيدرالية ومحاكمته المحتملة أمام المحكمة العليا الفيدرالية يمثلان نقطة تحول مؤسسية فارقة في مسيرة الديمقراطية البرازيلية الفتية. وبعيداً عن كونه مجرد تصفية حسابات مع الماضي القريب، فإن محاكمة بولسونارو تضغط على النظام السياسي، وتكشف حدود القدرة على الحكم، وتفتح دورة من عدم اليقين العميق بشأن مستقبل البلاد.أبعاد إشكاليةتستدعي محاكمة الرئيس البرازيلي السابق عدداً من الأبعاد الإشكالية الرئيسية المتمثلة فيما يلي: 1- الترويج لقدرة المؤسسات على محاسبة القادة السياسيين: يعكس توجيه الاتهام إلى جايير بولسونارو من قبل الشرطة الفيدرالية بتهم تتعلق بتشكيل جمعية إجرامية، ومحاولة الإلغاء العنيف لدولة القانون، ومحاولة الانقلاب، جهداً غير مسبوق من جانب المؤسسات الديمقراطية لمحاسبة القادة السياسيين على الهجمات ضد النظام الدستوري. تستند الاتهامات إلى أدلة موثقة، ومراسلات بين مسؤولين عسكريين ومساعدين سابقين في الحكومة، بالإضافة إلى مسودة مرسوم بفرض حالة حصار كان الهدف منها إلغاء نتائج انتخابات 2022. يمثل هذا الرد المؤسسي خطوة هامة في إعادة تأكيد مبادئ دولة القانون، ويبعث برسالة مفادها أن حتى أعلى مراتب السلطة ليست محصنة من المساءلة القضائية.2- المخاوف من تفاقم حدة الاستقطاب السياسي: لا يمكن إغفال أن هذه المحاكمة تضع ضغوطاً كبيرة على توازن السلطات، وتختبر قدرة السلطة القضائية على التصرف بشكل محايد في بيئة شديدة الاستقطاب. كما يعيد الاتهام إشعال الجدل حول "قضائية السياسة" وحدود دور المحكمة العليا، التي غالباً ما يتهمها أنصار بولسونارو بالتصرف كجهة سياسية. وفي هذا السياق، يجب أن يلتزم سير الإجراءات القضائية بأعلى المعايير الفنية والشفافية، لتعزيز شرعية المؤسسات ومنع أي انتكاسة سلطوية.3- محاولة رمزية لتجاوز إرث الإفلات من العقاب: تحمل المحاكمة دلالات تربوية ورمزية. ففي بلد يشهد مستويات عالية من الإفلات من العقاب، وتاريخياً يتميز بثقافة سياسية متساهلة مع الانحرافات السلطوية، قد تشير محاسبة رئيس سابق على جرائم ضد الديمقراطية إلى بداية مرحلة جديدة من النضج المؤسسي. ومع ذلك، سيعتمد ذلك بشكل كبير على كيفية تعامل القضاء مع القضية وعلى ردود الفعل السياسية والاجتماعية تجاه نتائجها.4- تفاقم أزمة تيار اليمين داخل البرازيل: أدى قرار المحكمة العليا للانتخابات في عام 2023 بحرمان بولسونارو من الترشح لمدة ثماني سنوات، بسبب إساءة استخدام السلطة السياسية وسوء استخدام وسائل الإعلام، إلى زعزعة أسس اليمين البرازيلي. ومع توجيه الاتهام الجنائي له، اتسعت هذه الفجوة أكثر، مما أدى إلى أزمة قيادة تجلت في النزاعات الداخلية، وتفتت الأحزاب، وغياب مشاريع سياسية متماسكة.كان بولسونارو قد رسّخ نفسه كزعيم محوري لليمين الجديد في البرازيل، مستنداً إلى مشاعر مناهضة لحزب العمال (PT)، والقيم الثقافية المحافظة، وعسكرة السياسة. ومع ابتعاده القسري عن المشهد الانتخابي، تضعف هذه الركائز وتنكشف قلة القادة القادرين على صياغة أجندة تنافسية وديمقراطية لانتخابات 2026. ورغم بروز أسماء مثل تاركيسيو دي فريتاس، وروميو زيما، وميشيل بولسونارو كمرشحين محتملين، إلا أن أياً منهم لم يتولَّ بعد دور القيادة الوطنية بدعم واسع.5- احتمالية تسبب المحاكمة في تحفيز موجة راديكالية جديدة: تعيد محاكمة بولسونارو إلى الأذهان أحداث 8 يناير، وهو الحدث الذي مثل أول خرق مؤسسي غير مسبوق منذ نهاية الديكتاتورية العسكرية. لم تُعرّض محاولة الانقلاب المؤسسات الجمهورية للخطر فحسب، بل أكدت أيضاً أن اليمين المتطرف البرازيلي مستعد لتقويض النظام الديمقراطي سعياً وراء مشروع شخصي للسلطة. ويلقي هذا الواقع بظلاله على مستقبل البلاد السياسي، مع احتمال أن تعيد القطاعات الراديكالية تنظيم صفوفها حول شخصيات أكثر سلطوية.6- إمكانية التأثير على مشهد الانتخابات القادمة: يُسهم غياب خليفة شرعي ومقبول بالإجماع داخل اليمين في رسم مشهد انتخابي غير مؤكد وفوضوي. وقد تصب حالة التفتت داخل القاعدة المحافظة في مصلحة مرشحين من الوسط أو يسار الوسط، لكنها قد تفتح أيضاً المجال أمام شخصيات شعبوية من خارج المؤسسة الحاكمة ذات خطاب متطرف. وبالتالي، فإن أزمة القيادة ليست مجرد مسألة خلاف داخلي، بل تعكس المعضلات الهيكلية التي تواجه الديمقراطية البرازيلية في ظل تآكل الاعتدال السياسي.7- تزايد التحديات أمام الرئيس البرازيلي "لولا دا سيفا": تُخلف محاكمة جايير بولسونارو والأزمة الناتجة عنها تأثيرات مباشرة على الحوكمة. فرغم أن حكومة الرئيس لولا تحافظ على قاعدة برلمانية مستقرة نسبياً، إلا أن البيئة السياسية لا تزال متوترة. ولا يزال الاستقطاب الشديد بين التيارين (اللوليّة - مؤيدي لولا) و(البولسونارية - مؤيدي بولسونارو) يعيق مناقشة القضايا الحيوية، ويعرقل تمرير الإصلاحات الهيكلية، ويخلق حالة من عدم الاستقرار في العلاقة بين السلطة التنفيذية والبرلمان.علاوة على ذلك، يمثل صعود الأجندات الرجعية، خاصة على المستوى الولائي وبين بعض قطاعات البرلمان المحافظ، تحدياً إضافياً أمام الحكومة الفيدرالية. وتشير التحقيقات البرلمانية، والنزاعات حول الميزانية الفيدرالية، والتهديدات المتكررة بحدوث تعطيلات مؤسسية، إلى أن الحوكمة تتعرض لهجمات مستمرة من قوى سياسية تغذيها الخطابات المناهضة للمؤسسة.8- الارتدادات الخارجية لمحاكمة "بولسونارو": تحمل الإجراءات القضائية ضد بولسونارو تبعات كبيرة. فصورة البرازيل كديمقراطية قيد التوطيد باتت على المحك. وتتابع دول الجوار، خصوصاً في أمريكا الجنوبية، نتائج القضية عن كثب، نظراً لإمكانية تأثيرها على أوضاعها السياسية الداخلية. وقد تعرض الهشاشة المؤسسية في البرازيل مبادرات التكامل الإقليمي مثل ميركوسور واتحاد دول أمريكا الجنوبية للخطر، وتعرقل تشكيل توافقات متعددة الأطراف حول قضايا مثل الأمن الإقليمي والبيئة وحقوق الإنسان.كذلك، من المرجح أن تؤثر حالة الاستقطاب الداخلي على السياسة الخارجية، خاصة إذا اكتسب مرشحون متطرفون قوة أكبر من خلال تبني خطابات قومية ومعادية للعولمة. وبالتالي، تمثل محاكمة بولسونارو فرصة أمام البرازيل لإعادة تعريف موقعها في الساحة الدولية – كديمقراطية مستقرة ملتزمة بسيادة القانون.اختبار حاسمتشكل العملية القضائية ضد جايير بولسونارو اختباراً حاسماً لقدرة الديمقراطية البرازيلية على الصمود. فبعيداً عن كونها محاكمة لرئيس سابق، فإنها تتحدى المؤسسات لضمان سيادة القانون في ظل استقطاب سياسي حاد. ورغم أن المحاكمة قد تعزز آليات المساءلة، إلا أنها تنطوي أيضاً على مخاطر تفاقم الصراعات السياسية في حال أُسيء استخدامها.لقد تفاقمت أزمة القيادة داخل اليمين، بسبب استبعاد بولسونارو وغياب خلفاء ذوي مصداقية، مما يفتح المجال أمام قوى أكثر راديكالية وزعزعة للاستقرار. وفي ظل غياب مشروع سياسي متماسك، قد يتحول اليمين إلى مصدر هشاشة مؤسسية، مع تداعيات على انتخابات 2026.وفي النهاية، تقف البرازيل عند مفترق طرق بين ترسيخ الديمقراطية والانزلاق نحو الاستبداد. وستحدد استجابات المؤسسات والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين ليس فقط ملامح الدورات الانتخابية المقبلة، بل أيضاً جودة الديمقراطية في السنوات القادمة.

ما الذي تكشف عنه الملاحقة القضائية للرئيس البرازيلي السابق "بولسونارو"؟