د. ياسمين كالميت

على مدار ست سنوات في الحكم، حوّل نجيب بوكيلة السلفادور إلى حالة نموذجية لما يُعرف بمفارقة الأمن والديمقراطية في أمريكا اللاتينية. فقد حققت حكومته واحداً من أكثر الانخفاضات دراماتيكية في معدلات القتل في تاريخ المنطقة الحديث، حيث تشير البيانات الرسمية إلى تراجع بنسبة 98% في جرائم القتل منذ عام 2022، وصولاً إلى مستوى قياسي بلغ 2.1 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة في عام 2024، وهو المعدل الأدنى في أمريكا اللاتينية. وقد ساهم هذا الإنجاز المُعلن على نطاق واسع في ترسيخ صورة بوكيلة بوصفه الرئيس الذي "هزم" عصابات المارا، وهي التشكيلات الإجرامية التي سيطرت لعقود على أجزاء واسعة من البلاد اجتماعياً وجغرافياً.ومع ذلك، فإن هذه النجاحات الرقمية تخفي وراءها تدهوراً مؤسسياً عميقاً. فقد تم تنفيذ استراتيجية الأمن العام من خلال إجراءات استثنائية، حيث أُعلنت حالة الطوارئ رداً على تصاعد العنف، ثم جرى تمديدها لأجل غير مسمى، لتتحول إلى أساس قانوني لإعادة تشكيل كاملة لأجهزة الدولة. وشهدت البلاد اعتقالات جماعية واحتجازات دون مذكرات قضائية، وتقييداً لحرية الصحافة والمجتمع المدني. وباحتجاز أكثر من 85 ألف شخص خلال ثلاث سنوات، باتت السلفادور تتصدر العالم من حيث معدل السجن بالنسبة لعدد السكان. جدل متصاعدتستدعي سياسات الأمن في السلفادور في عهد الرئيس نجيب بوكيلة جدلاً متواصلاً تتجلى أبعاده فيما يلي:1- التوسع في عمليات الاحتجاز: اعتمدت سياسة بوكيلة الأمنية على الحزم والسرعة، مما أدى إلى تحول جذري في أزمة انعدام الأمن التي كانت تعاني منها البلاد. فخلال أقل من ثلاث سنوات، جرى احتجاز نحو 85 ألف شخص بتهم تتعلق بالارتباط بالجريمة المنظمة، ما جعل السلفادور الدولة الأولى عالمياً في معدل السجن نسبةً لعدد السكان. ورغم أن هذه الحملة أسهمت في تقليص معدلات القتل بشكل كبير، إلا أنها رافقتها انتقادات بشأن وقوع انتهاكات جسيمة للحقوق المدنية، ما يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية خطيرة بشأن حدود هذه الاستراتيجية. وتشير التقديرات إلى أن نحو ثلث المحتجزين لا توجد أدلة على ارتباطهم بعصابات المارا أو غيرها من التنظيمات الإجرامية، ما يسلط الضوء على الطابع الارتجالي لمعايير الأجهزة الأمنية. 2- استمرار الانتقادات لتعليق الضمانات الدستورية الأساسية: أفضت حالة الطوارئ المستمرة منذ مارس 2022 إلى تعليق الضمانات الدستورية الأساسية، مما أتاح تنفيذ اعتقالات دون إذن قضائي، والحد من الحق في الدفاع القانوني، وتقليص الرقابة القضائية على تصرفات السلطة التنفيذية. وتفيد تقارير من منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" بأن عام 2024 وحده شهد وفاة ما لا يقل عن 261 شخصاً في الحجز دون فتح تحقيقات لاحقة. كما تعاني السجون من اكتظاظ مزمن، ورعاية طبية سيئة، وتكرار حالات التعذيب وسوء المعاملة. 3- الجدل حول تقييد تمويل المنظمات غير الحكومية: تصاعدت حالة من الترهيب المجتمعي، حيث فُرضت قوانين تقيد تمويل المنظمات غير الحكومية من الخارج، وتعرّض الصحفيون للملاحقة، وصدرت تهديدات مبطّنة ضد المنتقدين. وعلى الرغم من تراجع جرائم القتل، فقد ارتفعت حالات الابتزاز بنسبة 40% في المناطق الريفية، مما دفع العديد من المشاريع إلى الإغلاق خوفاً من اتهامات زائفة. وهكذا يتضح أن تحقيق الأمن جاء على حساب الحرية والعدالة وكرامة آلاف المواطنين.وتتعدد انتقادات المنظمات الحقوقية في السلفادور، ومنها منظمة حقوق الإنسان كريستوسال (Cristosal) التي انتقدت موافقة الكونجرس السلفادوري، في شهر مايو الماضي، على قانون "العملاء الأجانب"، الذي يفرض ضريبة بنسبة 30% على الأموال المُرسلة إلى المنظمات غير الحكومية السلفادورية من الخارج، واعتبرت أن هذا القانون يهدد استدامة المشاريع المجتمعية ويقيد أنشطة الدفاع عن حقوق الإنسان، خصوصاً عندما لا تتماشى تلك الأنشطة مع مصالح الحكومة.4- التشكيك في عمليات احتجاز بعض الناشطين: فقد أصدرت منظمة حقوق الإنسان كريستوسال، في شهر مايو 2025، بياناً اعترضت فيه على عملية احتجاز المحامية المتخصصة في حقوق الإنسان "روث إليونورا لوبيز" للاشتباه بتورطها في قضايا اختلاس خلال فترة عملها مع القاضي السابق في المحكمة العليا للانتخابات والمسؤول الحكومي "أوخينيو تشيكاس"، وتعتبر "لوبيز" من أبرز المنتقدين للرئيس نجيب بوكيلة، ولا سيما فيما يتعلق بالانتهاكات المزعومة التي ارتُكبت خلال فترة حالة الطوارئ التي فرضها.5- حدود سيطرة الرئيس السلفادوري على السلطة التشريعية: عمل الرئيس السلفادوري خلال السنوات الماضية على تعزيز سيطرته على السلطة التشريعية بفعل الأغلبية البرلمانية المريحة، ويدفع البعض بأن هذه السيطرة سمحت بإقرار إجراءات مثيرة للجدل مثل السماح بإعادة انتخاب الرئيس، وهو إجراء اعتبره خبراء القانون الدستوري مخالفاً للدستور. وبهذا يروج البعض إلى أنه ورغم بقاء المؤسسات الديمقراطية قائمة شكلياً، فإن استقلالها قد تراجع بصورة بالكامل.والجدير بالذكر أن نموذج حكم بوكيلة تجاوز مجرد المجال الأمني. فمنذ تسلّمه الرئاسة في عام 2019، عمل بشكل منهجي على تركيز السلطة، وتفكيك آليات التوازن والرقابة التي تشكل حجر الأساس في أي نظام ديمقراطي. وكان من أبرز خطواته المبكرة في هذا الاتجاه إقالة خمسة من قضاة المحكمة العليا والمدعي العام دفعة واحدة عام 2021، واستبدالهم بأشخاص موالين للسلطة التنفيذية. وقد شكل هذا الإجراء بداية لتشكيل مؤسسي جديد أصبحت فيه السلطة القضائية والنيابة العامة امتدادات مباشرة لمصالح الحكومة.6- المخاوف من تراجع الإنفاق على مجالات مجتمعية مهمة: شهدت سنوات حكم الرئيس بوكيلة تزايد الإنفاق على السياسات الأمنية. وبحسب بعض التقديرات، يُكلّف نظام السجون حالياً ما يقارب 400 مليون دولار سنوياً، مما يحوّل الموارد بعيداً عن مجالات استراتيجية مثل الصحة والتعليم والتنمية البشرية. وثمة انتقادات بأن سياسات السجن الجماعي قد أفضت إلى تحديات مجتمعية واسعة في ظل غياب الاستثمار في العدالة التصالحية أو الإدماج الاجتماعي أو برامج إعادة التأهيل. مخاوف متزايدةعلى الرغم من المكاسب التي حققتها السياسات الأمنية للرئيس "نجيب بوكيلة" ودورها في خفض العنف الحضري، بما ساهم في وقف الابتزاز في العديد من المناطق الحضرية، وانتعاش السياحة، وإعادة فتح أحياء كانت تحت سيطرة عصابات المارا؛ فإن هذه الإنجازات رافقتها انتقادات واسعة للأوضاع الحقوقية، وضمانات المحاكمة العادلة، والتوازن المؤسسي. علاوة على ذلك، فإن تركيز السلطة المفرط في شخص بوكيلة يُمثل خطراً مؤسسياً كبيراً: ماذا سيحدث بعد مغادرته السلطة؟ فغياب القادة البديلين، إلى جانب تآكل حكم القانون، يُمهّد الطريق لأزمة خلافة واضطرابات سياسية محتملة.

أبعاد تزايد الجدل بشأن السياسات الأمنية لرئيس السلفادور