أضحت موزمبيق بؤرة جديدة للاهتمام الدولي ونقطة ساخنة للتنافس بين القوى الدولية الفاعلة، وذلك لاعتبارات عدة في مقدمتها تحول التجارة الدولية من البحر الأحمر المضطرب أمنياً بفعل تطورات الأحداث في الشرق الأوسط إلى طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة عبر قناة موزمبيق في غرب المحيط الهندي التي باتت تُمثل ممراً مائياً مهماً بالنسبة للملاحة الدولية، الأمر الذي يلعب دوراً بارزاً في توسيع دائرة التنافس الدولي هناك ولا سيما في ظل توافر دوافع عدة تبرر انخراط القوى الفاعلة في المنطقة، مثل توافر الاحتياطات الهائلة للنفط والغاز الطبيعي، والرغبة في السيطرة على الممرات المائية الاستراتيجية وما يتطلبه من تعزيز النفوذ الأمني والاستراتيجي هناك، في ضوء الاعتقاد لدى سياسات القوى الكبرى بأنَّ مَنْ يُحكم سيطرته على المحيط الهندي فإنه يُسيطر على آسيا، وهو ما ينذر باحتدام التنافس الدولي في المنطقة خلال الفترة المقبلة، وما قد يصاحب ذلك من تداعيات على الدول الأفريقية في جنوب شرق القارة خصوصاً موزمبيق التي تظل محط اهتمام وعلى رأس أولويات العديد من القوى الفاعلة المتنافسة هناك بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات من أجل الاستحواذ على احتياطيات الغاز الطبيعي قبالة سواحل شمال البلاد.

عوامل محفزة

هناك العديد من الدوافع والعوامل المحفزة التي تلعب دوراً في تصاعد التنافس الدولي على موزمبيق خلال الفترة المقبلة، ويُمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:

1- محورية الموقع الجغرافي لموزمبيق: يُغري التموضع الجغرافي لموزمبيق العديد من القوى الدولية الفاعلة الساعية إلى تعزيز وجودها العسكري في المنطقة لتكون قريبة من ديناميات التفاعلات في مسرح الأحداث بمنطقة المحيط الهندي، لا سيما وأنها تُطلّ على قناة موزمبيق التي تمثل أهمية استراتيجية بالنسبة للاعبين الدوليين هناك، إضافة إلى كونها تمثل بوابة للعمق الأفريقي؛ حيث تمتلك حدوداً مع ست دول أفريقية (هي: مالاوي، وجنوب أفريقيا، وإسواتيني، وتنزانيا، وزامبيا، وزيمبابوي)، ما يعزز أهميتها الجيوبولتيكية في المنطقة. كما تمتلك موزمبيق ثلاثة موانئ بحرية رئيسية على ساحل المحيط الهندي تتمثل في ميناء ناكالا في الشمال، وميناء بيرا في الوسط، وميناء مابوتو في جنوب غرب البلاد.

2- وفرة الموارد والثروات الطبيعية: تمتلك موزمبيق موارد واحتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعي والذهب واليورانيوم والفحم وغيرها. ولديها إمكانات في مجال توليد الطاقة المتجددة ولا سيما الطاقة الشمسية والمائية وطاقة الرياح. وتكتسب البلاد أهمية متجددة بسبب الاكتشافات النفطية التي تعزز إمكاناتها الاقتصادية الهائلة، وتعزز فرصها بأن تصبح لاعباً مهماً في سوق الطاقة العالمية، فهي تمتلك واحداً من أكبر احتياطات الغاز الطبيعي، والتي يُمكن أن تصبح مصدراً بديلاً للغاز الروسي بالنسبة للاتحاد الأوروبي في ضوء تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية الجارية. فقد تم اكتشاف حقل غاز طبيعي في عام 2011 على يد شركة إيني الإيطالية قبالة السواحل الشمالية لموزمبيق يحتوي على نحو 425 مليار متر مكعب من الغاز، وهو جزء من حقل غاز أكبر يحتوي على 2.4 تريليون متر مكعب على طول الساحل الشرقي لموزمبيق، وهو ما لفت انتباه العديد من الشركات الدولية للانخراط في هذا المجال.

3- تصاعد النشاط الإرهابي: يُشكل انتشار عناصر تنظيم داعش في إقليم كابو ديلجادو شمال موزمبيق مصدر تهديد للأمن الإقليمي في المنطقة، بما في ذلك تهديد أمن واستقرار دول الجوار الإقليمي، وكذلك استثمارات الشركات الدولية متعددة الجنسيات، وهو ما يمثل ذريعة قوية للفاعلين الدوليين للانخراط في الداخل الموزمبيقي بدعوى التصدي للنشاط الإرهابي من أجل حماية الأمن البحري في قناة موزمبيق وكذلك الاستثمارات الأجنبية في مجال الغاز الطبيعي شمالي البلاد، لا سيما أن هناك موجة شرسة متجددة من الإرهاب يشنها عناصر حركة الشباب الموالية لتنظيم داعش منذ فبراير 2024 في كابو ديلجادو شمالي البلاد، وهو ما أسفر عن فرار أكثر من 100 ألف شخص وسط تفاقم الأوضاع الإنسانية وانعدام الأمن الغذائي والرعاية الصحية.

4- محدودية قدرات الأمن البحري الإقليمي: تُعد قدرات الأمن البحري المحلية على طول ساحل شرق أفريقيا محدودة للغاية، خاصة أن تلك المنطقة تواجه العديد من التحديات التي تشكل تهديداً لمشروعات الطاقة هناك، ومن أبرز تلك التحديات: التهديدات الأمنية، وعمليات القرصنة، والصيد غير القانوني، وتهريب المخدرات، وغيرها. وهو ما يسلط الضوء على أهمية تعزيز قدرات الأمن البحري في المحيط الهندي، الأمر الذي يمهد الطريق أمام بعض القوى الدولية للتنافس على المنطقة تحت ذريعة المساهمة في حماية الأمن البحري الإقليمي هناك.

5- انعكاسات تعطل الملاحة الدولية في البحر الأحمر: شكّل الإغلاق المؤقت لقناة السويس في مارس 2021 ناقوس خطر للتجارة العالمية المارة عبر البحر الأحمر الذي يمر عبره نحو 15% من إجمالي هذه التجارة، وعزز ذلك أيضاً التطورات المقلقة في البحر الأحمر نتيجة التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط عقب حرب غزة، والتي دفعت أكثر من 2000 سفينة نحو إعادة توجيه شحنات النفط والغاز إلى طريق رأس الرجاء الصالح برغم التكلفة المادية العالية بسبب هجمات مليشيا الحوثي على السفن المارة بالقرب من مضيق باب المندب في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. الأمر الذي أسهم في تنامي الأهمية الاستراتيجية لقناة موزمبيق بشكل لافت خلال الفترة الماضية باعتبارها نقطة اختناق بحرية حيوية من وإلى المحيط الهندي، وطريق عبور رئيسي للملاحة البحرية هناك، ما يجعلها عرضة للتدافع الأجنبي بشكل متزايد خلال الفترة المقبلة. وإن كانت التهديدات الأمنية في الداخل الموزمبيقي تشكل تخوفات متزايدة بشأن تهديد الأمن البحري في القناة ولا سيما في ضوء محدودية القدرات الأمنية البحرية للجيش الموزمبيقي الذي يقاتل في الجبهة الداخلية ضد عناصر تنظيم داعش في شمال البلاد بمساندة إقليمية خلال السنوات الست الماضية.

6- الأهمية الاستراتيجية لقناة موزمبيق: والتي تعتبر طريقاً مهماً لحركة النقل والشحن البحري الدولي كونها تربط المحيط الهندي بأنحاء العالم ويمر بها نحو 30% من حركة الناقلات العالمية، ومن المتوقع أن تصبح أكثر أهمية في حالة تطوير مشروعات الطاقة الكبرى في المنطقة بما في ذلك حقول النفط والغاز الطبيعي قبالة سواحل إقليم كابو ديلجادو شمال موزمبيق. وتقع القناة بالكامل داخل المناطق الاقتصادية الخالصة لبعض الدول الأفريقية في جنوب شرق القارة، وهي موزمبيق ومدغشقر وجزر القمر وتنزانيا، حيث يبلغ طول القناة حوالي 1600 كم وعرضها نحو 419 كم. ويطل عليها ميناء ناكالا في الشمال الموزمبيقي الذي يعتبر أعمق ميناء في شرق أفريقيا، وهو ما يسهل الصادرات الإقليمية خاصة الفحم من العمق الأفريقي للعالم الخارجي.

كما تتمتع هذه القناة بأهمية جيوسياسية ليس فقط لأنها تمتلك موقعاً مهماً وتحتوي على موارد هائلة يمكن استغلالها، لكن أيضاً لأنّ أي دولة تسيطر على هذه القناة سوف تسيطر على غرب المحيط الهندي. فقد كانت قناة موزمبيق هي الطريق التجاري الرئيسي في المحيط الهندي قبل افتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869 والذي كان يربط الهند بالشرق الأوسط وشرق آسيا بأوروبا والبرازيل، ما أثر على قناة موزمبيق، التي سرعان ما تستعيد أهميتها التي كانت تحظى بها قديماً مع تصاعد الصراع الشرق أوسطي الراهن الذي أجبر السفن التجارية للعودة مجدداً إلى طريق رأس الرجاء الصالح، ما قد يعني أن القناة سوف تلعب دوراً بارزاً في غرب المحيط الهندي خلال السنوات القليلة المقبلة.

7- الطموحات التوسعية للفاعلين الدوليين: تدرك القوى الدولية الفاعلة مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند وأوروبا أهمية تمدد نفوذها إلى منطقة المحيط الهندي التي تشكل ساحة الصراع الحالية والمستقبلية على النفوذ الدولي هناك. وتخشى واشنطن من تمدد النفوذين الصيني والروسي بما يعزز تطويقهما للمصالح الأمريكية والغربية لا سيما وأنهما يتمركزان في الشرق الأوسط وأفريقيا من خلال الوجود الأمني المتمثل في القاعدة الصينية في جيبوتي على ساحل البحر الأحمر وانتشار عناصر فاجنر الروسية في معظم الدول الأفريقية، إلى جانب ضخّ الاستثمارات الصينية الضخمة في العديد من المناطق الأفريقية، واستمرار تنفيذ خطط مبادرة الحزام والطريق الصينية.

في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الأفريقية تحولات استراتيجية فيما يتعلق بالتفاعلات الدولية هناك من تراجع ملحوظ للنفوذين الأمريكي والفرنسي في الساحل بعد قرار سحب القوات الأمريكية والفرنسية من النيجر وتشاد ومالي، في مقابل توسع النفوذ الروسي بشكل ملحوظ هناك. الأمر الذي يعزز التحركات الدولية إلى الجنوب الأفريقي ولا سيما قناة موزمبيق ورأس الرجاء الصالح في ضوء المساعي لحماية المصالح الدولية وتأمين طرق التجارة العالمية حول أفريقيا.

وفي سياق متصل، تمتلك الهند مصالح عميقة في قناة موزمبيق وهو ما كشفته استراتيجية الأمن البحري التي أصدرتها نيودلهي في عام 2015، والتي تنظر إلى المنطقة باعتبارها أحد المجالات الرئيسية لمصالحها البحرية. ومن ثم تسعى الحكومة الهندية للحفاظ على وجودها الأمني في جنوب شرق القارة، وذلك من خلال من خلال تأسيس قاعدة عسكرية في جزيرة "أغاليغا" بموريشيوس بالقرب من قناة موزمبيق، إضافة إلى محطة المراقبة التابعة لها في مدغشقر. كما تقوم بمحاولة تأسيس شبكة الرادار الساحلية الخاصة بها التي تضم كلّاً من موريشيوس وسيشل بهدف المساعدة على تحسين قدرات الهند الاستراتيجية في مجال الأمن البحري في غرب المحيط الهندي.

8- الاستثمارات الضخمة للشركات العالمية في موزمبيق: يُعد امتلاك موزمبيق لاحتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعي عامل جذب أساسياً للشركات الدولية متعددة الجنسيات العاملة في هذا المجال (مثل: توتال إنيرجي الفرنسية، وإيني الإيطالية، وإكسون موبيل الأمريكية، والنفط الوطنية الصينية، وكوغاز الكورية)، وذلك من أجل ضخ المزيد من الاستثمارات الأجنبية هناك، حيث يبلغ حجم استثمارات شركة توتال إنيرجي الفرنسية في شمال موزمبيق أكثر من 20 مليار دولار. كما وقعت شركة إيني الإيطالية اتفاقاً بقيمة 8 مليارات دولار في عام 2017 لاستخراج الغاز الطبيعي وتحويله إلى غاز مسال. ويبلغ حجم استثمارات شركة أناداركو الأمريكية في الموزمبيق نحو 20 مليار دولار.

ولدى شركة النفط الهندية المحدودة حصة في مشروعات حوض روفوما التابعة لشركة أناداركو. فيما حصلت شركة البترول الوطنية الصينية على حصة قدرها 28% في مشروع شركة إيني بموزمبيق بإجمالي 4.2 مليارات دولار في عام 2013. كما تنخرط مجموعة ميتسوي اليابانية في استثمارات بقيمة 1.5 مليار دولار في مشروع أناداركو، حيث تمتلك حصة قدرها 20%، وتمتلك شركة الطاقة الكورية الجنوبية حصة 10% في مشروع إيني الإيطالية.

تداعيات محتملة

قد يدفع التنافس الدولي على موزمبيق والمساعي لتوسيع النفوذ وتعزيز الحضور بالنسبة للقوى الفاعلة نحو جملة من التداعيات المحتملة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية خلال الفترة المقبلة، ومن أبرز تلك التداعيات ما يلي:

1- تحول موزمبيق إلى ساحة جديدة للصراع الدولي: يعد تصاعد التنافس الدولي على موزمبيق بمنزلة سلاح ذي حدين بالنسبة لها، فهو يضمن لها ضخ المزيد من الاستثمارات الأجنبية في سبيل اجتذابها من جانب بعض الأطراف الدولية على حساب أطراف أخرى من ناحية. ومن ناحية أخرى، ربما يتسبب في خلافات بين حكومة موزمبيق وبعض الأطراف الدولية خوفاً من انزلاقها في موجة الاستقطاب الدولي المحتمل بين القوى المتنافسة في المنطقة خلال الفترة المقبلة.

2- احتمالية تصاعد النشاط الإرهابي في موزمبيق: قد يؤدي التدافع الدولي نحو موزمبيق إلى توسع نشاط بعض التنظيمات الإرهابية ولا سيما داعش في الداخل الموزمبيقي وربما التمدد إلى قناة موزمبيق بهدف إجبار القوى الدولية على الخروج من البلاد. ومن المرجح ظهور بعض الحركات المحلية المسلحة الرافضة للوجود الأجنبي في بلادها بما يعزز انعدام الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي في الداخل الموزمبيقي. وهو ما قد يسهم في تعطيل الملاحة الدولية بقناة موزمبيق، واحتمال استهداف السفن التجارية المارة عبرها.

3- تزايد القلق الإقليمي من الحضور الدولي في موزمبيق: تجد بعض القوى الإقليمية الأفريقية ولا سيما جنوب أفريقيا في الانخراط الدولي بالمنطقة تهديداً لنفوذها ومصالحها الاستراتيجية هناك، إضافة إلى تخوفها من تحول المنطقة إلى ساحة صراع دولية قد يهدد استقرارها الأمني والاقتصادي خلال الفترة المقبلة. كما تخشى جنوب أفريقيا من الضغوط الدولية على دول المنطقة بما يعزز حالة الاستقطاب الإقليمي هناك الذي قد يؤدي إلى حالة انقسام إقليمي حول تأييد بعض الأطراف الدولية دون الأخرى، الأمر الذي يهدد الاستقرار الإقليمي في منطقة الجنوب الأفريقي.

4- اشتداد التنافس على القواعد العسكرية والموانئ البحرية بالمنطقة: من المرجح أن تسعى القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند وفرنسا، إلى توطيد نفوذها في المنطقة وحماية استثماراتها هناك من خلال تكثيف المشاركة في التدريبات البحرية والمهام البحرية متعددة الأطراف مع دول المنطقة، ومحاولة إقامة بعض القواعد العسكرية والاستحواذ على بعض الموانئ الاستراتيجية من أجل الحفاظ على وجود أمني ثابت هناك، بما يضمن لها حماية مصالحها والمساهمة في المعادلة الأمنية بقناة موزمبيق ومنطقة غرب المحيط الهندي.

إجمالاً، على الرغم من أن التوترات الإقليمية في البحر الأحمر قد لعبت دوراً في إعادة إحياء الاهتمام بقناة موزمبيق التي أضحت نقطة اختناق بحرية استراتيجية بالنسبة للتجارة الدولية خلال الشهور القليلة الماضية، وما يمثله ذلك من صعودٍ متنامٍ لمكانة موزمبيق في أجندة أولويات القوى الدولية الفاعلة في المنطقة؛ إلا أن العامل الأبرز يظل حرص تلك القوى بشكل مستمر على الاستيلاء على الموارد والثروات الطبيعية في أفريقيا ولا سيما الغاز الطبيعي، في ضوء تقلبات سوق الطاقة العالمية نتيجة لاستمرار الحرب الروسية الأوكرانية. ومع ذلك، تنتظر منطقة غرب المحيط الهندي، بما في ذلك موزمبيق، جولة جديدة من سباق التنافس الدولي، ولا سيما بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا والهند، بما قد يُعزز المخاوف الإقليمية والدولية من انخراط فواعل جديدة من غير الدول مثل تنظيم داعش في مواجهة تلك القوى في شمال موزمبيق بما يعني مزيداً من انعدام الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة ككل.

لماذا يتصاعد التنافس الدولي على موزمبيق؟