د. منى سليمان

تفاقمت الأزمة الدبلوماسية بين الهند وكندا التي بدأت في العام الماضي (2023)، بعدما تبادلت الدولتان، يوم 14 أكتوبر 2024 "طرد الدبلوماسيين"؛ حيث أعلنت نيودلهي طرد خمسة من كبار الدبلوماسيين بالسفارة الكندية، بعدما أعلنت أوتاوا أن المفوض السامي الهندي في كندا ربما يكون متورطاً في قضية مقتل زعيم انفصالي هندي من أقلية السيخ منتصف العام الماضي بمدينة "فانكوفر" الكندية؛ ما ينذر بتصاعد الأزمة بين الهند وكندا، وتأثيرها على مستقبل العلاقات بين الدولتين، بل ستمتد تداعياتها للتأثير على الترتيبات الإقليمية في منطقة الهندوباسيفيك.أبعاد متعددةتعرضت العلاقات الهندية الكندية لأكبر أزمة في تاريخها في 18 يونيو 2023، عندما قُتل الزعيم الانفصالي للهنود السيخ "هارديب سينج نيجار"، الذي هاجر إلى كندا عام 1997 وأصبح مواطناً كندياً عام 2015، وتم قتله بإطلاق الرصاص على سيارته من قبل ملثمين خارج معبد للسيخ بمدينة "ساري" بضواحي "فانكوفر" الكندية. ويعد "نيجار" من الداعين إلى إقامة دولة سيخية مستقلة في شمال الهند باسم (خاليستان)، وصنفته نيودلهي عام 2020 بأنه "إرهابي"، كما حظرت حركة "خالستان"، وتَعُد الحديث عنها "تهديداً للأمن القومي للبلاد". وتم تصنيف الحركة "منظمة إرهابية" بموجب قانون منع الأنشطة غير المشروعة بالهند. وقد اتهمت كندا الهند بالتورط في حادث الاغتيال، وهو ما نفته نيودلهي ووصفته بأنها "ادعاءات سخيفة ولها دوافع"، ثم تطورت الأزمة بين الدولتين كما يلي:1– تبادل طرد الدبلوماسيين: قررت نيودلهي يوم 14 أكتوبر 2024 طرد ستة دبلوماسيين كنديين من البعثة الدبلوماسية بها؛ أبرزهم (القائم بأعمال المفوض السامي ونائبه السكرتير الأول)، وقد طلبت منهم الهند مغادرتها قبل يوم 19 أكتوبر 2024، كما استدعت الهند القائم بالأعمال الكندي لديها "ستيوارت ويلر"، وأبلغته أن اتهام أوتاوا للمفوض السامي الهندي بها بالتورط في مقتل "نيجار" أمر غير مقبول على الإطلاق، وأعلنت نيودلهي سحب دبلوماسييها من كندا؛ "لأنها لا تثق بالتزام الحكومة الكندية الحالية بضمان أمنهم وسلامتهم"، وهو ما ردت عليه الأخيرة بإعلان سحب دبلوماسييها من الهند أيضاً، لتصل الأزمة الدبلوماسية بين الدولتين إلى ذروتها.2– تأكيد كندا امتلاكها أدلة جنائية ضد الهند في قضية مقتل "نيجار": ألمح رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو"، في سبتمبر 2023، أثناء كلمته أمام برلمان بلاده إلى أن هناك معلومات موثوقة بأن اغتيال "نيجار" تم "بمشاركة هندية"، وأكد أن "أي تورط لحكومة أجنبية في مقتل مواطن كندي على الأراضي الكندية، يعد انتهاكاً غير مقبول لسيادة الدولة الكندية"، وهو ما نفته الهند آنذاك. وأصدرت وزارة الخارجية الهندية بياناً أوضح أن "المزاعم المتعلقة بتورط الحكومة الهندية في أي من أعمال العنف في كندا، هي عبثية وذات دوافع؛ لأن الهند دولة ديمقراطية، لديها التزام قوي بسيادة القانون".وفي نوفمبر 2023 اتهم مدعون فيدراليون في الولايات المتحدة الأمريكية عميلاً للحكومة الهندية بالإشراف على مؤامرة تم إحباطها لقتل انفصالي من السيخ في ولاية نيويورك، وألمحوا إلى وجود ارتباط بين تلك القضية وقضية قتل "نيجار"، ثم أعلنت كندا أن المفوض السامي الهندي ودبلوماسيين آخرين هم أشخاص "موضع اهتمام" في التحقيق الجاري بشأن مقتل "نيجار"، وهو ما نفته نيودلهي؛ حيث اتهم مفوض الشرطة الكندية "مايك دوهيم" الهند "بالضلوع بحالات ترهيب ومضايقة وابتزاز وإكراه بحق مواطنين كنديين على الأراضي الكندية"، وربطت تلك الجرائم "بنشاطات سرية، مثل جمع معلومات، والتدخل في مسارات ديمقراطية"، وهو ما نفته الهند، واتهمت "ترودو" بأن لديه "أجندة سياسية" ضد الهند.3– تبني الهند خطاباً تصعيدياً ضد كندا: تبنت الهند خطاباً تصعيدياً ضد كندا؛ فبعد إعلانها إبعاد عدد من الدبلوماسيين الكنديين من أراضيها يوم 14 أكتوبر، أكدت وزارة الخارجية الهندية أن "الهند تحتفظ الآن بحق اتخاذ إجراءات إضافية رداً على الجهود الأخيرة للحكومة الكندية في اختلاق مزاعم ضد الدبلوماسيين الهنود".هذا الخطاب التصعيدي يعتبر امتداداً لإجراءات سابقة في الشهور الماضية؛ فقد حذرت الهند، في سبتمبر 2023 مواطنيها من السفر إلى كندا؛ بسبب تصاعد الأنشطة المناهضة للهند، كما علقت جميع طلبات الحصول على تأشيرات الدخول بالنسبة إلى المواطنين الكنديين، كما أعلنت أن هناك تهديدات أمنية ضد موظفيها الدبلوماسيين، واتهمت أوتاوا بتجاهل هذه التهديدات، واتهمت كندا بأنها "ملاذ آمن للإرهابيين"، ثم أعلنت في أكتوبر 2023 عن سحب ثلثي دبلوماسييها من كندا؛ حيث أعلنت عن سحب (41) دبلوماسياً من أصل (62). وطلبت نيودلهي من كندا تقليص طاقمها الدبلوماسي، بيد أن الأخيرة رفضت، وعللت ذلك بأن المعاهدات الدولية لا تنص على "التكافؤ أو تحديد عدد الدبلوماسيين من جانب واحد"، وأكدت أن أوتاوا "لا تسعى إلى تأجيج الأزمة مع نيودلهي".4– اتهامات هندية لكندا بدعم حركة السيخ الانفصالية: تتهم الهند كندا بأنها تدعم وتؤيد الحركة الانفصالية للهنود السيخ التي تسعى إلى إنشاء دولة انفصالية بشمال الهند باسم "خاليستان" على أجزاء من ولاية البنجاب الهندية. وحذرت نيودلهي "من أن إعطاء كندا مساحة للانفصاليين السيخ ليس جيداً للعلاقة بين البلدين". وكانت تلك الأزمة بدأت بين الدولتين عام 2015، عندما تولى "ترودو" منصبه وعيَّن 4 وزراء من "الهنود السيخ" في حكومته. وقد اعترضت نيودلهي على ذلك، واتهمت كندا بأنها تدعم "الانفصاليين السيخ ليقوموا بأعمال تشكل استفزازاً للهند". وفي عام 2022 نظم الكنديون السيخ استفتاءات محلية حول استقلال السيخ عن الهند.وفي أبريل 2024، حضر "ترودو" فعالية هندية رُفعت فيها "شعارات انفصالية" في تورونتو، وهو ما اعترضت عليه نيودلهي، واستدعت نائب السفير الكندي بها لتقديم احتجاج رسمي على ذلك. جدير بالذكر أن كندا يوجد بها أكثر من 770 ألف هندي سيخي يمثلون نسبة 2% تقريباً من إجمالي عدد السكان، ويحمل معظمهم الجنسية الكندية، ولهم نفوذ كبير في المجتمع. وتعد كندا أكبر موطن للسيخ بعد ولاية البنجاب بالهند، بينما يبلغ عدد الجالية الهندية ككل في كندا أكثر من (1.4 مليون شخص)، بما يمثل (3.7%) من عدد سكان البلاد.تداعيات جيوسياسيةثمة العديد من التداعيات الإقليمية والدولية لتفاقم الأزمة الدبلوماسية بين الهند وكندا، ومنها:1– تراجع معدلات التبادل الاقتصادي: تعد الهند عاشر شريك تجاري لكندا، ووصل حجم التبادل التجاري بينهما عام 2022 إلى (9 مليارات دولار أمريكي)، كما تعد كندا المستثمر الأجنبي الـ17 في الهند، بيد أنه بعد مقتل "نيجار"، أرجأت أوتاوا إرسال بعثتها التجارية إلى الهند، وتم تعليق المفاوضات الثنائية للتوصل إلى معاهدة "تجارة حرة" التي بدأت عام 2010 ولم يتم الانتهاء منها حتى اليوم.وتعتمد الهند بشكل شبه كامل على الواردات الكندية من (البوتاس) والأسمدة، لا سيما بعد فرض عقوبات اقتصادية على روسيا تمنع الاستيراد منها. وإذا استمرت الأزمة الدبلوماسية بين الدولتين، فإن هناك احتمالين: الأول هو تراجع التبادل التجاري بينهما وتأثير ذلك سلباً على اقتصادهما. والثاني هو استمرار التبادل التجاري كما هو من دون توقيع عقود أو اتفاقيات جديدة حتى انتهاء الأزمة الدبلوماسية الراهنة، وهو ما ينطبق على اتفاق التعاون النووي بين الهند وكندا الموقع عام 2009.2– عزوف الطلبة الهنود عن الابتعاث إلى كندا: تعد الهند مصدراً كبيراً للطلاب الدوليين في كندا، ويبلغ عدد طلابها نحو (320) ألف طالب؛ ما يمثل (40%) من إجمالي عدد الطلاب الأجانب بكندا. وتبلغ إيرادات قطاع التعليم بالموازنة الكندية نحو (16.3 مليار دولار) سنوياً، وهو ما يمثل مصدراً هاماً للدخل الكندي يتجاوز (1.3) من الموازنة الكندية سنوياً، ربما يتأثر ويتراجع سلباً إذا قرر الطلاب الهنود العزوف عن الابتعاث إلى كندا والذهاب إلى أي دولة أخرى، بفعل الأزمة الحالية، كما يمكن لنيودلهي إصدار قرار بعدم منح تأشيرات لمواطنيها للذهاب إلى كندا.3– تزايد الاتهامات للهند بالتدخل في الانتخابات الكندية: أعلنت كندا في يناير 2024 بدء تحقيق عام بشأن حدوث "تدخل أجنبي" من قبل الهند في الانتخابات العامة الأخيرة التي أُجريت عام 2021، كما أبدت مخاوف من حدوث تدخل مماثل في الانتخابات البرلمانية المقبلة في أكتوبر 2025. من جهة أخرى يسعى "ترودو" إلى استغلال الأزمة مع الهند كي يرفع شعبيته المتراجعة بفعل ارتفاع كلفة المعيشة، فيما يستعد حزبه الليبرالي للانتخابات المقررة في أكتوبر 2025؛ وذلك عبر استقطاب أصوات المواطنين الهنود السيخ، وكذلك توظيف القضية في الحملات الانتخابية العام المقبل.4– التأثير السلبي على سمعة الدولتين: رغم مرور عام ونيف على قضية اغتيال "نيجار"، فإن تداعياتها ما زالت مستمرة، وتؤثر سلباً على الصورة الذهنية لكل من الهند وكندا، بما يضر النخب الحاكمة بكل منهما؛ حيث تروج كندا لتدخل الهند في الشأن الداخلي للدول وقيامها بأعمال إرهابية واغتيالات، وهو ما يتنافى مع ما تزعمه الهند من أنها أكبر دولة ديمقراطية في العالم، كما أن القضية تؤكد اضطهاد الهند للأقليات من (المسلمين والسيخ) وانتشار النزعات القومية الهندوسية والخطاب الشعبوي الذي يقوده رئيس الوزراء الهندي "مودي". من جهة أخرى فإن تكرار استهداف المواطنين الهنود السيخ بكندا سيؤكد ضعف الإجراءات الأمنية بها، وهو ما يؤثر سلباً عليها.5– احتمالية التأثير على العلاقات الهندية الأمريكية: أعلنت كندا العام الماضي (2023) عن دعم استخباراتي أمريكي للتوصل إلى المتهمين بقتل "نيجار"، كما أعلنت واشنطن عن قلقها إزاء تصاعد التوتر بين الهند وكندا اللتين تعتبران حليفتَيها في مواجهة تصاعد النفوذ الصيني بالهندوباسيفيك ودولياً. ودعت واشنطن الهند إلى التعاون أمنياً مع كندا لإنهاء هذه القضية، كما أعلنت أنها تدعم التحقيق الذي تجريه كندا حول مقتل "نيجار"؛ ما أثار تحفظات الهند؛ حيث اتهمت نيودلهي واشنطن بأنها "منحازة وتدعم معايير مزدوجة من خلال استهداف الهند".وربما يؤدي التوتر الهندي الكندي، حال استمراره، إلى توتر مماثل في العلاقات الهندية الأمريكية، وعرقلة جهود واشنطن لمواجهة الصعود الصيني، كما يمكن للهند تعزيز تعاونها مع روسيا للرد على الدعم الأمريكي لكندا في قضية تعتبر الهند أنها "تمس أمنها القومي"، لا سيما أن الهند ترفض قطع علاقاتها بموسكو أو فرض عقوبات اقتصادية عليها، وما زالت تشارك في كافة المنتديات الدولية التي تشارك فيها روسيا، على غرار منظمة شنجهاي، ومجموعة بريكس.6– عرقلة الاستراتيجية الكندية لمواجهة الصين: أعلنت كندا عام 2022 عن "استراتيجية لمواجهة الصين" تخص منطقة الهندوباسيفيك، وتعهدت فيها بتوفير موارد إضافية للتعامل مع الصين التي وصفتها بأنها "قوة مزعجة". وتعهدت كندا بتعزيز وجودها العسكري بالمنطقة، وتشديد قوانين الاستثمار لحماية حقوق الملكية الفكرية، ومنع الشركات الصينية من السيطرة على سلاسل الإمداد للمعادن الهامة. وتخصص الاستراتيجية الكندية قسماً خاصاً حول دور الهند في مواجهة الصين وأهميتها الاسترتيجية وقيادتها كأكبر ديمقراطية في العالم؛ ولذا فإن التوتر الكندي الهندي سيعرقل تنفيذ تلك الاستراتيجية، ومن ثم سيكون المستفيد الأول من ذلك التوتر هو الصين؛ لأن هذا التوتر سيؤدي إلى تعثر الترتيبات الأمنية والسياسية والاقتصادية بين الحلفاء الدوليين – وفي مقدمتهم بريطانيا وكندا والولايات المتحدة – وبين الحفاء الإقليميين، وفي مقدمتهم الهند، لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة الهندوباسيفيك.آفاق مستقبليةمما سبق، نرى أن الأزمة ستتفاقم بين الهند وكندا، لا سيما أنها أصبحت ورقة في الانتخابات البرلمانية المقبلة في كندا، ومن المتوقع أن يستمر رئيس الوزراء الكندي "جاستن ترودو" في تصعيد الأزمة حتى الانتخابات المقبلة في 2025؛ ليكسب المزيد من أصوات الجالية الهندية من السيخ، بيد أن ذلك سيؤدي إلى تداعيات إقليمية ودولية متعددة، سيكون على حلفاء الدولتين، مثل (الولايات المتحدة، وبريطانيا) مواجهتها عبر التوسط لتقريب وجهات النظر بين كندا والهند؛ لمنع الصين وروسيا من توظيف تلك الأزمة لتحقيق مكاسب إقليمية لهما.

ما مآلات التوترات السياسية بين الهند وكندا؟