د. سمية متولي السيد

شهدت المملكة المتحدة خلال الشهور الأخيرة تجدُّد موجة الاضرابات؛ إذ لم تكد الإضرابات العمالية تهدأ في بريطانيا في نهاية عام 2023 حتى عاودت البدء من جديد بعد احتفالات رأس السنة الميلادية الجديدة 2024؛ ففي 3 يناير 2024، بدأ إضراب الأطباء الجدد الحديثي التخرج، الذي شارك فيه نصف العاملين بالقطاع الصحي، وقد تزامن ذلك مع إضراب أطباء الأسنان. ولم يكن هذا هو الإضراب الأول للقطاع الصحي؛ ففي أواخر ديسمبر 2023، أضرب الاستشاريون والتخصصيون من الأطباء، وسبقهم الممرضون. وفي 10 يناير 2024، بدأت إضرابات الأطباء الجدد في ويلز، وبدأت إضرابات عمالية في شمال أيرلندا. ومؤخراً في مطلع مارس 2024، نظَّم مزارعو ويلز إضراباً قاموا فيه بقطع الطرق باستخدام الجرارات؛ الأمر الذي يثير تساؤلات حول أسباب تجدد الإضرابات القطاعية في بريطانيا وتداعياتها المختلفة.محفزات رئيسيةارتبط تصاعد الاحتجاجات والإضرابات الفئوية في بريطانيا بعدد من المحفزات المتمثلة فيما يلي:1– فشل المسار التفاوضي مع الحكومة: فقد فشلت مفاوضات الرابطة الطبية البريطانية مع حكومة المحافظين نيابةً عن الأطباء الجدد في ديسمبر 2023 لرفع أجور الأطباء الجدد لتصل إلى ما كانت عليه قبل 15 عاماً – أي بنسبة 25% – علماً بأن الحكومة قد منحت الأطباء الجدد زيادة بنسبة 8.8% من الأجور، ثم عرضت زيادة إضافية بقيمة 3% في المفاوضات الأخيرة، لكن هذا العرض لم يَلْقَ قبولاً لدى الأطباء المضربين؛ لأن تلك الزيادة لن توزع بشكل متكافئ على جميع الأطباء، بل سوف تعني خفضاً في أجور بعضهم.2– إدراك المضربين الانتخابات المقبلة كفرصة سياسية للضغط: فمن المرجح والمعلوم بالنسبة إلى عموم البريطانيين أن الانتخابات العامة قد تنعقد في ربيع 2024، وهو ما يجعل توقيت الإضرابات غايةً في الأهمية للضغط على حزب المحافظين للاستجابة لمطالبهم قبيل الانتخابات؛ خوفاً من التكلفة السياسية الانتخابية لرفض تلك المطالب، لا سيما أن دعم المطالب العمالية والفئوية هي جوهر سياسات وشعبية حزب العمال.3– التضخم الاقتصادي وارتفاع الأسعار: حيث أثر التضخم على القوة الشرائية للدخول، ومن ثم تآكلت القيمة الحقيقية لأجور الأطباء بنسبة 26% وفق تقدير بعض المؤسسات البحثية، اعتماداً على مؤشر أسعار المستهلك. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى المزارعين الذين ارتفعت تكلفة الإنتاج الزراعي بالنسبة إليهم نتيجة ارتفاع أسعار المبيدات الزراعية والأسمدة والتقاوي، وانخفض العائد المادي الذي تقدمه المتاجر الكبرى نظير السلع الغذائية، في محاولةٍ منها لزيادة الربح.4– سياسات الحكومة التقشفية: في محاولة للتعامل مع آثار التضخم الاقتصادي، تبنَّت الحكومة سياسات تقشفية ألقت بظلالها على القطاع الصحي؛ حيث أدت إلى تراجع مستوى مراكز الخدمة الطبية العامة والمستشفيات، وتحوُّلها إلى بيئة طاردة للقوى العاملة، بما في ذلك الأطباء الذين يفضلون العمل في القطاع الخاص، والتمتع بعوائد أفضل. وفي المحصلة، ارتفع عدد المرضى على قوائم الانتظار، وزاد الضغط على من بقي في القطاع الصحي العام ­– الذين يُعَد أغلبهم من الأطباء الحديثي التخرج – بشكل لا يتناسب مع حجم الأجور المقررة.5– الانعكاسات الاقتصادية للحرب الأوكرانية: إذ أدت إلى ارتفاع أسعار الوقود الذي يستخدمه المزارعون في تشغيل الآلات الزراعية، وهو ما يُحتسَب جزءاً من تكلفة الإنتاج الزراعي المرتفعة. وبوجه عام، أدت الحرب الأوكرانية إلى زيادة الإنفاق الحكومي على الدفاع مقارنةً بالقطاعات الأخرى، مثل الصحة والتعليم والزراعة؛ ففي عام 2020–2021، كان الإنفاق الحكومي على الدفاع 47.2 مليار جنيه إسترليني، ثم ارتفع عام 2021–2022 إلى 51.9 مليار جنيه إسترليني، وواصل الارتفاع ليصبح 55.5 مليار إسترليني عام 2022–2023.أما القطاع الصحي فقد قُدِّر الإنفاق الحكومي عليه لعام 2020–2021 بـ231.3 مليار جنيه إسترليني، وانخفض عام 2021–2022 ليصبح 230.4 مليار جنيه إسترليني، ثم انخفض انخفاضاً كبيراً في 2022–2023 ليصبح 211.6 مليار جنيه إسترليني. وبالنظر إلى القطاع الزراعي، ففي عام 2020–2021 وصل الإنفاق الحكومي عليه إلى 6.32 مليار جنيه إسترليني، ثم انخفض في عام 2021–2022 إلى 6.02 مليار جنيه إسترليني، وعاود الارتفاع قليلاً عام 2022–2023 ليصل إلى 6.6 مليار جنيه إسترليني.6– تأثير سياسات "بريكست" الخاصة بالقطاع الزراعي: أعلنت بريطانيا في 4 يناير 2024 عن سياساتها الزراعية التي سوف تحل محل السياسة الأوروبية المشتركة، والتي تهدف إلى دعم البيئة، وتقديم حوافز للمزارعين، وتأمين سياسات الإمداد، غير أن مخطط الزراعة المستدامة الذي أعلنته حكومة ويلز تلزم كل صاحب أرض بتغطية 10% من أرضه بالأشجار، وهو ما أثار حفيظة المزارعين الذين رأوا أنه طلب غير عملي ومكلف جداً.كذلك اعترض المزارعون على التطبيق التدريجي للقواعد الصارمة التي وُضعت من أجل تقليل الاعتماد على الأسمدة الصناعية والسماد الحيواني لتقليل وصوله إلى الأنهار؛ حفاظاً على جودة المياه. علاوةً على ذلك؛ انتقد الاتحاد الزراعي البريطاني الاتفاقات المبرمة مع بعض الدول، مثل نيوزيلاندا وأستراليا؛ لأنها لا تضع حداً للسلع التي ستستورد من هذه الدول، وهو ما يؤثر سلباً على سوق المنتجات المحلية وقدرة المنتجين البريطانيين على الاستمرار.7– تأثر المزارعين في ويلز بحركة احتجاجات الفلاحين في أوروبا: صحيح أن المحتجين في فرنسا وألمانيا وهولندا وغيرهم من الدول الأوروبية، يحاولون الضغط على الاتحاد الأوروبي لتعديل أوضاعهم، وأن بريطانيا أحلت سياسات زراعية مؤخراً محل تلك التي كانت تتبعها في ظل الاتحاد الأوروبي، إلا أن تحفظات ومطالب المزارعين البريطانيين متشابهة إلى حد كبير مع نظرائهم الأوروبيين، وهو ما يجعل تأثر مزارعي ويلز بالاحتجاجات الأوروبية أمراً متوقعاً.تهديد الاستقرارتستدعي موجة الاحتجاجات الأخيرة في بريطانيا عدداً من التداعيات المحتملة المتمثلة فيما يلي:1– فرض المزيد من الضغوط على القطاع الصحي: أدت إضرابات الأطباء الجدد إلى تعطل العمل، وارتفاع وقت انتظار المرضى، وتأجيل عشرات الآلاف من مواعيد المرضى والجراحات المقررة؛ ما أثار استياء المرضى. علاوةً على ذلك، ارتفع الضغط على الاستشاريين الذين اضطروا إلى تغطية غياب الأطباء الجدد طوال فترة الاضراب، وارتفعت احتمالات إضرابات الممرضين وسائقي الإسعاف.2– التعرض لأزمة طبية إنسانية: حيث صرح أحد مسؤولي وزارة الصحة بأن تأجيل مواعيد المرضى يُعرِّض ثلث المصابين بالسرطان لخطر الموت، وبأن هناك الآلاف من مصابي السرطان والحالات الحرجة على قوائم انتظار تلقِّي العلاج. وعليه، فإن عدم قدرة الحكومة على إنهاء هذه الأزمة يضعها في أزمة إنسانية أخلاقية بالأساس.3– انتقال عدوى الاحتجاجات إلى قطاعات مختلفة: فقد أقبلت قطاعات أخرى، مثل النقل والسكك الحديدية، على الإعلان عن إضراب مماثل لموظفي مترو الأنفاق وسائقي القطارات، إلا أن هيئة النقل البريطانية نجحت في التفاوض مع نقابة العمال واحتواء الموقف، وتم التوصل إلى اتفاق مبدئي بزيادة المخصصات المالية لتسوية أزمة أجور الموظفين؛ ما أدى إلى تعليق الإضراب.4– اتساع النطاق الجغرافي للاحتجاجات: حيث تشجَّع موظفو القطاع العام في ويلز وأيرلندا الشمالية على محاكاة إضرابات الأطباء الجدد في إنجلترا؛ وذلك بالمخالفة مع أطباء اسكتلندا من الدرجة نفسها الذين قبلوا بتسوية تزيد أجورهم بنسبة 12.4% عام 2024؛ فقد بدأت الإضرابات العمالية – وليست للأطباء فحسب – في شمال أيرلندا في 13 يناير 2024 – أي بعد عشرة أيام من إعلان إضراب الأطباء الجدد في إنجلترا – ووصل عدد المشاركين فيها إلى نحو 150 ألف موظف موزعين بين 16 نقابة عمالية.ولم تختلف هذه الإضرابات في أسبابها عما سبق الإشارة إليه، بل يُضاف إليها الاحتجاج على انخفاض هيكل الأجور في أيرلندا الشمالية مقارنةً بباقي إنجلترا. فعلى سبيل المثال، يصل الراتب الابتدائي للطبيب الحديث التخرج في إنجلترا إلى 32 ألف إسترليني سنوياً، في حين يصل راتب نظيره في أيرلندا الشمالية إلى 26 ألف إسترليني سنوياً، وفي اسكتلندا إلى 31 ألف إسترليني سنوياً.5– تعميق الأزمة السياسية بين إنجلترا وأيرلندا الشمالية: منذ فبراير 2022، انهارت السلطة التنفيذية المفوضة في أيرلندا الشمالية على خلفية رفض الحزب الديمقراطي الاتحادي الترتيبات التجارية التي توصلت إليها لندن مع الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. وقد أدى ذلك إلى تولي وزير شؤون أيرلندا الشمالية كريس هاريس وضع ميزانية 2023–2024 التي تقضي بضرورة أن ترد أيرلندا الشمالية الإنفاق الزائد عن الحد في السنوات الماضية إلى خزانة الدولة البريطانية، مضافاً إليه أثر التضخم؛ الأمر الذي دفع البعض إلى وصف هذه الميزانية بأنها ميزانية عقابية. والأسوأ من ذلك أن هاريس ذكر أن هذا الأمر يمكن تعديله وضخ ما يعادل 3.3 مليار جنيه إسترليني في خزانة أيرلندا الشمالية متى عاودت السلطة التنفيذية المفوضة عملها، وهو ما جعل الغالبية العظمى تتمسك بضرورة أن تستمع لندن إلى مطالب أيرلندا الشمالية بدلاً من محاولة إجبارها على قبول ما لا تريد، وهو ما جعل الإضرابات العمالية أكثر جاذبيةً لموظفي أيرلندا الشمالية.6– تراجع شعبية حزب المحافظين قبيل الانتخابات العامة: فضمن أولويات ريشي سوناك الخمسة التي وعد بتحقيقها في يناير الماضي، تخفيض قوائم الانتظار في الرعاية الصحية، إلا أن ما حدث هو العكس على خلفية الإضرابات. علاوةً على ذلك، ذكرت مصادر أن رئيس الوزراء سوناك هو المسؤول الأول عن عدم التوصل إلى اتفاق مع الأطباء الجدد والاستشاريين؛ لأنه رفض رفع نسبة زيادة الأجور خشية أن يشجع ذلك قطاعات أخرى على طلب زيادات مماثلة.ولا شك أن مثل هذه التصريحات سوف تلقي بظلالها على شعبية سوناك باعتباره رئيس حزب المحافظين، كما ذكر ستيف براين وزير الصحة السابق من حزب المحافظين الذي يرأس حالياً اللجنة الصحية في البرلمان، أن أياً من الحزبين لا يمكنه أن يتحمل ما يطالب به الأطباء الجدد. وهذا يعني عدم حل النزاع مع الأطباء الجدد؛ الأمر الذي يعيق تقديم الخدمة الصحية للمرضى الذين تُعَد النسبة الكبرى منهم من كبار السن؛ تلك الفئة العمرية التي تمثل القاعدة الانتخابية الأساسية لحزب المحافظين؛ فإذا استاءت هذه الفئة العمرية لعدم حصولها على الخدمة الطبية، ومع طول قوائم الانتظار، فهذا يعني أيضاً تراجع شعبية حزب المحافظين في الانتخابات العامة القادمة.7– وضع حزب العمال في مأزق سياسي قبيل الانتخابات العامة: لا يعني تراجع شعبية حزب المحافظين زيادة شعبية حزب العمال بالمخالفة؛ ذلك أن حزب العمال لم يتمكن حتى هذه اللحظة من تأييد مطالب الأطباء الجدد بصراحة، ولم يَعِد بمنحهم نسبة الزيادة التي يتمسكون بها متى وصل إلى السلطة. وفي المقابل، إذا قدَّم حزب العمال مثل هذا الوعد فإن تنفيذه يظل رهن فوزه في الانتخابات وتشكيله الحكومة المقبلة، وهو ما يعني أن الأطباء سوف يكونون في حالة ترقب.غير أن حزب العمال يدرك تماماً أن النسبة التي يطالب بها الأطباء الجدد ليست ممكنة في ظل التضخم الاقتصادي، وعليه فلن يستطيع أن يقدم مثل هذا الوعد ابتداءً، وإذا لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق مع الأطباء، فهذا يعني استمرار تعطل العمل في القطاع الصحي، وهو ما يمثل مأزقاً إنسانياً مماثلاً لما يعانيه حزب المحافظين في الوقت الحالي. أما في ويلز التي سيطر عليها حزب العمال، فإن حزب العمال سيفقد شعبيته هناك لصالح حزب المحافظين ما لم يتمكن من تلبية مطالب المزارعين. بعبارة أخرى، تتمثل أزمة حزب العمال في عدم إمكانية تفعيل التزاماته الأيديولوجية الداعمة للمطالب العمالية، في ظل القيود الاقتصادية على أرض الواقع.والخلاصة أن حالة الحراك العمالي والفئوي التي تعيشها بريطانيا في الوقت الحالي، حالة كاشفة عن محدودية الخيارات السياسية المتاحة للساسة من الحزبين، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، وصعوبة التوفيق بين الواقع والمأمول.

تداعيات تجدد الإضرابات في بريطانيا