نوار الصمد 

شهدت المملكة المتحدة مؤخراً أضخم أعمال شغب وعنف حضري منذ عام 2011، وذلك على وقع مقتل ثلاث فتيات جراء هجوم بسكين في منطقة ساوثبورت في 29 يوليو 2024. ولقد نزل المتظاهرون إلى الشوارع في عدة مدن بريطانية بناء على شائعات خاطئة حول هوية منفذ الهجوم. وتأتي هذه الأحداث بعد نحو شهر من استلام حزب العمال السلطة، وعقب 14 سنة قضاها في المعارضة، ولقد ركز رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر على محاكمة مثيري الشغب في أسرع وقت.عنف متصاعد تستدعي أعمال الشغب التي اندلعت في المملكة المتحدة منذ نهاية يوليو 2024 عدداً من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1- وجود جذور تاريخية للعنف في المجتمع البريطاني: لا تلغي الصورة العامة عن المجتمع البريطاني بأنه مجتمع متسامح، حقيقة وجود حركة عنصرية قوية داخله، ولعل هذا هو ما يفسر حصول أعمال الشغب الأخيرة. ولقد عرفت المملكة المتحدة في السابق ظهور حركات تميزت بالعنف العنصري كالهوليغانز (مشجعي كرة القدم المتعصبين) مثلاً. كما حصلت أعمال شغب عنصرية في نوتنج هيل في لندن في عام 1958. وفي عام 2001 وقعت أعمال عنف في أولدهام في شمال مانشستر، واستمرت لعدة أسابيع بعد سرقة وضرب بريطاني يبلغ من العمر 73 عاماً على يد شباب من جنوب شرق آسيا، مما أدى إلى خروج مظاهرات عنصرية في أحياء المسلمين ووقوع اعتداءات عليهم. وفي عام 2016 وقعت أعمال شغب عنيفة مناهضة للهجرة في دوفر. وفي فبراير 2023، وقعت أعمال شغب في كيربي، بعد اتهام أحد المهاجرين بالقيام باعتداء جنسي على طالبة، وعمد المتظاهرون بعدها إلى مهاجمة الفندق الذي كان من المفترض أن المعتدي يقيم فيه.2- تصاعد دعاية اليمين المتطرف ضد المهاجرين: من أهم الأسباب التي أدت إلى إنتاج هذه المشكلة هي الدعاية التي تبثها جماعات اليمين المتطرف منذ سنوات في المملكة المتحدة وخصوصاً بعد اشتداد ظاهرة طالبي اللجوء الذين يعبرون بحر المانش عبر القوارب. وتركز هذه الدعاية على تصوير المهاجرين كمجرمين محتملين وغير منتجين والذين يأتون إلى المملكة المتحدة من أجل منافسة الطبقة العاملة التي يتشكل أغلب السكان منها مما يعني في المستقبل تدهور نوعية حياتهم من حيث الأمن والتوظيف والمزايا الاجتماعية والصحية. وتندرج هذه الدعاية ضمن خطاب أوسع تتبناه الجماعات الأكثر تطرفاً يتحدث عن مساعٍ لتدمير الغرب الأبيض، وهو ما ينضوي ضمن العنصرية البيولوجية.ويضاف إليها ظهور العنصرية المناهضة للمسلمين، والتي تؤكد على وجود تنافر ثقافي بين الإسلام والغرب، والتي تنضوي ضمن إطار العنصرية الثقافية. ولقد أثرت الحملات التي تقوم بها هذه الجماعات بشكل كبير على الرأي العام في المملكة المتحدة. وتجدر الاشارة إلى أن رفض الهجرة والعنصرية من أهم الأسباب التي أدت إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.3- اتهامات لمنظمة رابطة الدفاع الإنجليزية بالتورط في أعمال العنف: الطريقة التي اندلعت بها أعمال الشغب هذه هي جزء من آلية شائعة في أعمال العنف العنصري، وهي قائمة على استغلال السخط الناجم عن فعل فظيع حقيقي أو مختلق وتدعو إلى الانتقام ليس من الفرد المسؤول عن الفعل فقط، بل من الجماعة التي ينتمي إليها بأكملها. ونسبت الشرطة البريطانية أعمال الشغب التي نشبت في الأيام الأخيرة إلى منظمة تُدعى رابطة الدفاع الإنجليزية English Defense League. وترى بعض الآراء أن هذه المنظمة لم تعد موجودة منذ منتصف العقد الماضي، وأن الناشطين اليمينيين المتطرفين المناهضين للمهاجرين لا يشكلون سوى جزء من المشاركين في أعمال الشغب الحالية، وأن هناك جزءاً آخر من الشبان البيض العاملين الذين يشعرون بالمنافسة مع المهاجرين الشباب، بالإضافة إلى قسم من مشجعي كرة القدم.4- استغلال شبكات التواصل الاجتماعي للتضليل: الشرارة التي أدت إلى إشعال أعمال الشغب كانت في الأساس معلومات خاطئة عن الحادث الذي أودى بحياة الفتيات الصغيرات والتي انتشرت بسرعة على شبكات التواصل الاجتماعي. فمن دون أي دليل أكدت تغريدة من حساب يُدعىEurope Invasion على موقع (إكس) أن المشتبه به مهاجر مسلم، وقد حصلت هذه التغريدة على 6.8 ملايين مشاهدة.كما نشرت بوابة Channel3 Now مقالاً زعمت فيه أن منفذ الهجوم كان طالب لجوء وصل إلى الشواطئ البريطانية على متن قارب في العام 2023. وتسببت هذه الشائعات في استهداف الأحياء التي تسكنها مجموعات مسلمة، كما تم استهداف عددٍ من المساجد والفنادق التي يشغلها طالبو اللجوء.وسارعت السلطات البريطانية إلى نفي الشائعة وإلى الكشف عن هوية المشتبه به الحقيقية والذي تبين أنه وُلد في كارديف ومن أصل رواندي ويبلغ من العمر 17 عاما ويدعى Axel Rudakubana، والذي تم وضعه رهن الاحتجاز منذ ذلك الحين. وتقول معلومات إن القائد الأول لهذا العنف المعادي للأجانب شخص بريطاني يُدعى تومي روبنسون، وهو ناشط يميني متطرف مقيم في فرنسا حالياً، ويواصل إدارة أنصاره عن بعد، خصوصاً بعد سماح إيلون ماسك بعودته إلى منصة X في عام 2023.5- ترويج رئيس حزب الإصلاح لنظرية المؤامرة: وتُرجع بعض الآراء تفاقم التوترات إلى الترويج لنظرية المؤامرة؛ حيث نشر النائب المنتخب في الانتخابات الأخيرة ورئيس حزب الإصلاح في المملكة المتحدة ReformUK نايجل فاراج مقطع فيديو على شبكة إكس يعتبر فيه أن هجوم ساوثبورت كان ينبغي تصنيفه من السلطات على أنه عمل إرهابي، متسائلاً عما إذا كان تم إخفاء الحقيقة عن البريطانيين. ولقد اعتبر البعض أن فاراج قام عبر ذلك بدعم اليمين المتطرف وبالترويج لنظرية المؤامرة من أجل إيجاد تبريرات للهجوم على الشرطة. وبالنسبة لبعض الأوساط فإن حجم التصويت الكبير الذي حصل عليه حزب فاراج في الانتخابات الأخيرة وفر لمثيري الشغب الاعتقاد بأنهم سيستفيدون من دعم وشرعية معينة.تداعيات رئيسية تتمثل الآثار الناتجة عن أعمال الشغب بالمملكة المتحدة في النقاط التالية:1- تزايد حضور الأفكار اليمينية المتطرفة: ترى بعض التحليلات أنه منذ أواسط العقد الماضي لم تعد هناك منظمة يمينية متطرفة مركزية، وأن أنصار هذا التوجه أصبحوا يتجمعون على الشبكات الاجتماعية مما يجعل من أمر اكتشافهم أكثر صعوبة من قبل السلطات. وترى هذه التحليلات أنه حتى لو كان الأربعة ملايين شخص الذين صوتوا لصالح حزب الإصلاح في المملكة المتحدة في انتخابات الرابع من يوليو لا يؤيدون هذا العنف، غير أن هذا الحزب يعرض أفكاراً تشبه أفكار اليمين المتطرف. ولقد كشفت صحيفة الغارديان البريطانية أنه تم إبلاغ الحكومات السابقة اليمينية من قبل خبراء حول تزايد تهديدات اليمين المتطرف، وحول عدم استعداد السلطات لمواجهتها، ولكن تم تجاهل هذه التحذيرات.2- الدعوة لمظاهرات مضادة لتصعيد اليمين المتطرف: وفي ظل استمرار تنظيم اليمين المتطرف لمسيرات ضد المساجد ومراكز إيواء طالبي اللجوء، تتخوف بعض الأوساط من تطور الصدامات في الشارع خصوصاً مع دعوة منظمات مناهضة للعنصرية والإسلاموفوبيا أنصارها إلى تنظيم مظاهرات مضادة. كما أنه في 6 أغسطس نشر حساب ActivePatriotUK على منصة X، وهو حساب يمتلك 138000 مشترك، أن المسلمين يخططون للقيام بأعمال شغب في سكونثورب Scunthorpe والتي يبلغ عدد سكانها 72000 نسمة، موصياً الأشخاص البيض بتجنب المنطقة. وقد حصلت هذه التغريدة على ما يقرب من 1000 إعجاب و350 مشاركة خلال ثلاثين دقيقة فقط، ثم ما لبثت الشرطة أن نفت هذه الشائعة.3- الضغط على حكومة ستارمر لاتخاذ إجراءات حازمة: اعتمد رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر على لغة واضحة وإجراءات حازمة لمواجهة موجة الشغب الأخيرة في البلاد والتي تأتي بعد شهر تقريباً من تسلمه السلطة. ويقوم خطابه على اعتبار هذه الأحداث هجوماً على سيادة القانون داعياً إلى معاقبة أي شخص شارك في أعمال الشغب أو في إثارة الاضطرابات عبر الإنترنت، ولقد وصل عدد الذين جرى توقيفهم حتى الخامس من أغسطس إلى 400 شخص.واتخذ ستارمر إجراءات لتعزيز التعاون بين أجهزة الاستخبارات وقوات الشرطة في جميع أنحاء البلاد. هذا وتعمل قوات الشرطة المحلية والمباحث وأجهزة المخابرات الإقليمية على مدار الساعة لتحديد المتورطين في أعمال العنف، بينما يقوم 17 قاضياً متخصصاً بتسريع توجيه الاتهامات.4- الصدام بين الحكومة البريطانية ومنصات التواصل الاجتماعي: فقد دعا ستارمر منصات التواصل الاجتماعي إلى تحمل المسؤولية من خلال إبعاد المواطنين عن المعلومات الخاطئة وإظهار الحقيقة لهم، وهو ما يُعتبر جوهر العمل الصحفي حتى لا يتم ترك المجال مفتوحاً أمام الشعبويين لتأجيج العنف في الشارع من خلال نشر أكاذيبهم، وقد قام المتحدث باسم حكومة ستارمر بانتقاد إيلون ماسك بعد اعتبار الأخير على قناة X أن الحرب الأهلية حتمية في المملكة المتحدة.5- تفاقم معضلة إيجاد حل لقضية الهجرة: تعتبر بعض الأوساط أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، زاد من الهجرة غير الشرعية عبر بحر المانش لأن المملكة المتحدة لم تعد قادرة على إعادة المهاجرين إلى فرنسا. ولقد تعددت الاقتراحات والخطط من أجل التصدي لهذه المشكلة كخطة إرسال اللاجئين إلى رواندا كما روج رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك لشعار "أوقفوا القوارب"، وقام بإلقاء خطابات قاسية تجاه الأشخاص الذين حاولوا عبور القناة بطريقة غير قانونية. وترى بعض الآراء أن قيام الزعماء السياسيين بتجريم وجود المهاجرين على الأراضي البريطانية لن يؤدي إلا إلى تغذية اليمين المتطرف. وعلى الرغم من وعود البريكست بـاستعادة السيطرة على الحدود للحد من الهجرة، إلا أنه في عام 2023، وفي ظل حكومة محافظة، تم كسر الرقم القياسي لصافي الدخول القانوني إلى المملكة المتحدة، والذي بلغ ما يقرب من 700 ألف شخص.6- تزايد التهديدات لاستقرار الديمقراطية البريطانية: وتتلخص وجهة النظر هذه بأنه حين يكون أفراد من اليمين المتطرف على استعداد للجوء إلى العنف، فإن ذلك يمكن أن يشكل خطراً حقيقياً على العمل الديمقراطي داخل المملكة المتحدة. وبحسب بعض القراءات فإن من يساعد اليمين المتطرف على تقويض الديمقراطية هي تلك الأحزاب التي يُفترض أنها تنتمي إلى القيم الديمقراطية، ولكنها في الوقت نفسه تتبنى أجندة اليمين المتطرف لأنها تعتبر أنه من أجل وقف صعوده لا بد من استعارة خطابه من منطلق تحقيق المصلحة الانتخابية والحصول على أصوات ناخبيه.7- دفع المؤسسات البريطانية لإنتاج خطاب مضاد لخطاب اليمين المتطرف: إن مشاهد الاشتباكات العنيفة بين المتطرفين والشرطة في المدن البريطانية في الأيام الأخيرة جعلت الكثير من القراءات تتساءل عن كيفية وقف انتشار المعلومات الكاذبة. وفيما تعتبر بعض وجهات النظر أن الحل يكون من خلال إجبار المنصات على إزالة المحتوى الذي يحض على الكراهية وإظهار الحقيقة، ترى وجهات نظر أخرى أن هذا المسار لن يكون فعالاً لأنه سيتم استبدال المحتوى المحذوف على الفور بمحتوى آخر. والحل الأمثل بالنسبة لهذه الآراء يكون عبر تحديد الجمهور المستهدف من قبل المحرضين والتخفيف من سيل الكراهية الذي يدفعهم إلى ارتكاب أعمال العنف. إن فحص الحقائق fact-checking لا يحل المشكلة المركزية، حسب رأيهم، ومن الأفضل أن يتم إنشاء مصادر أخرى من شأنها أن ترسل رسائل أفضل لهذا الجمهور المستهدف الذي ضل طريقه.خلاصة القول، ترى أوساط حزب العمال أن بث خطاب الكراهية ونشر الأخبار الكاذبة هو المسبب الحقيقي لأعمال الشغب التي شهدتها المملكة المتحدة مؤخراً. وعلى الجهة المقابلة، ترى أوساط يمينية أن أساس المشكلة هو عدم معالجة موضوع الهجرة الجماعية الذي يؤدي -حسب رأيهم- إلى اختلال تماسك المجتمعات. وفي حين أن حكومة ستارمر تسلط الضوء على أولوية الحفاظ على النظام العام ومعاقبة المخلين به، تعتبر آراء مواجهة أن قمع الناشطين الذين يسلطون الضوء على المشاكل الحقيقية لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة الداخلية.

تداعيات تصاعد عنف اليمين المتطرف في المملكة المتحدة