د. عمرو عبدالعاطي

اندلعت جولة جديدة من الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، حيث فرضت الإدارة الأمريكية تعريفات جمركية غير مسبوقة على معظم الواردات الصينية، بهدف تقليص العجز التجاري الأمريكي وتعزيز التصنيع المحلي. وقد جاءت هذه الإجراءات بعد اتهامات أمريكية للصين بممارسات تجارية غير عادلة وسرقة الملكية الفكرية. وفي المقابل، ردت بكين بفرض تعريفات انتقامية على السلع الأمريكية وتقييد تصدير المعادن النادرة الحيوية للصناعات التقنية. ولم تقتصر نتائج تلك الحرب على أقوى اقتصادين في العالم، ولكنها أدت إلى اضطرابات في الأسواق المالية العالمية، وارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وتباطؤ النمو الاقتصادي في الصين، مع تزايد المخاوف من ركود اقتصادي عالمي. وتشكل تلك الحرب التجارية نقطة تحول رئيسية في العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم.مكاسب صينية رغم التداعيات الاقتصادية المباشرة والعميقة للحرب التجارية الأمريكية ضد الصين على الاقتصاد الصيني، وفقدان الصادرات الصينية أحد أهم أسواقها الخارجية، وفرض الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة ضغوطاً كبيرة على قطاع التصنيع الصيني، وإجبار العديد من الشركات الصينية على البحث عن أسواق بديلة وتنويع صادراتها، فإن تلك الحرب سمحت للصين بتحقيق بعض المكاسب المباشرة وغير المباشرة، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- تعزيز التصنيع المحلي وسلاسل الإمداد: أدى فرض إدارة دونالد ترامب الثانية تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات الصينية إلى دفع بكين لتكثيف جهودها لتعزيز التصنيع المحلي وسلاسل الإمداد، مع التركيز على تقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية والمكونات المستوردة. ورداً على ارتفاع التعريفات الجمركية الأمريكية سرّعت الحكومة الصينية استثماراتها في الابتكار المحلي، خاصة في القطاعات التكنولوجية والطاقة النظيفة، حيث تسعى الشركات والهيئات الحكومية الصينية إلى تطوير تقنيات محلية تحصّن الاقتصاد من الصدمات الخارجية. وفي ظل توقعات متشائمة من مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي وجولدمان ساكس، التي خفّضت توقعاتها لنمو الاقتصاد الصيني على إثر تصاعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة وفرض ترامب تعريفات جمركية واسعة النطاق على معظم السلع الصينية، يؤكد نائب رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في الصين، تشاو تشن شين، أن بلاده واثقة من تحقيق معدل نمو اقتصادي يبلغ نحو 5% في عام 2025.2- تحفيز الاستثمار في الابتكار التكنولوجي: على الرغم من أن الرسوم الجمركية الأمريكية أدت في البداية إلى تراجع حاد في النشاط الصناعي وكشفت عن هشاشة بعض القطاعات المعتمدة على التصدير، إلا أنها حفّزت في الوقت ذاته جهوداً لإعادة التوازن نحو الطلب المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي. فقد دفعت المصنعين الصينيين للاستثمار بكثافة في البحث والتطوير والأتمتة والتقنيات المتقدمة، بهدف الصعود في سلاسل القيمة وتقليص تأثير الاضطرابات التجارية المستقبلية. وفي مجالات مثل الطاقة النظيفة، حيث تملك الصين بالفعل تفوقاً، من المتوقع أن تعزز هذه الاستراتيجية موقعها العالمي من خلال توسيع قدراتها الإنتاجية وتسريع وتيرة الابتكار.3- الترويج للصين كشريك أكثر استقراراً سياسيّاً واقتصاديّاً من الولايات المتحدة: أدى التصعيد الحاد في الرسوم الجمركية من قبل إدارة ترامب الثانية إلى تعزيز مكانة الصين –من دون قصد– كشريك سياسي واقتصادي أكثر استقراراً على الساحة العالمية. فبينما شهدت الأسواق العالمية تقلبات كبيرة، وانخفضت مؤشرات الأسهم في الولايات المتحدة والدول المتأثرة الأخرى بشكل حاد، تعاملت السلطات الصينية مع الأزمة من خلال جهد منسق لاستقرار الأسواق المالية وطمأنة المستثمرين، مما أدى إلى أداء أفضل للأسواق الصينية مقارنة بنظيراتها الآسيوية خلال فترات عدم اليقين المتزايد. وقد أبرزت الأزمة قدرة الصين على التدخل السريع والمركزي، واستعدادها لحماية صناعاتها المحلية من الصدمات الخارجية، ما عزز صورتها كفاعل اقتصادي موثوق ويمكن التنبؤ بسياساته.4- تقديم الصين نفسها كبديل تجاري للولايات المتحدة: تستثمر الصين حالة الارتباك التي تسببت فيها إدارة دونالد ترامب برفع التعريفات الجمركية على حلفاء وشركاء الولايات المتحدة حول العالم، والسياسات الحمائية الأمريكية، لتقديم نفسها كبديل تجاري أكثر استقراراً وانفتاحاً في المنطقة. وتعمل بكين على تعميق علاقاتها الاقتصادية مع دول مثل ماليزيا وكمبوديا وفيتنام، من خلال اتفاقيات تعاون تشمل قطاعات السكك الحديدية والزراعة والاقتصاد الرقمي والأخضر، إلى جانب تمويل صيني لمشروعات بنية تحتية كبرى، بما في ذلك خط سكة حديد جديد يربط ميناء هايفونج الفيتنامي بالصين.5- حدوث حراك دبلوماسي صيني نشط ضد الحمائية الأمريكية: في مواجهة التصعيد التجاري من قبل إدارة ترامب، تبنّت الصين تحركاً دبلوماسياً نشطاً على الساحة الدولية بهدف حشد دعم عالمي ضد السياسات الأمريكية. فقد أطلقت بكين ما يشبه "هجوماً دبلوماسياً مضاداً"، حيث وجّهت رسائل رسمية إلى عدد من الحكومات التي استهدفتها التعريفات الأمريكية، بما في ذلك حلفاء تقليديون للولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية ودول أوروبية، داعيةً إياهم إلى التكاتف للدفاع عن نظام التجارة العالمي المتعدد الأطراف. كما سعت الصين إلى إدراج صياغات داعمة في بيانات مجموعة العشرين، تعزز من أهمية النظام التجاري القائم على القواعد وتنتقد الأحادية الأمريكية. ويعكس هذا التحرك سعي بكين إلى تشكيل جبهة دولية مناهضة للسياسات الحمائية التي يتبناها ترامب، في محاولة لإبراز الولايات المتحدة كقوة مهدِّدة للاستقرار الاقتصادي العالمي، مقابل تقديم الصين نفسها كمدافع عن "المنفعة المشتركة" و"التعددية الاقتصادية".6- تبني خطاب قومي لتوحيد الصينيين في مواجهة السياسات الأمريكية: في مواجهة التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على السلع الصينية، لجأت بكين إلى تصعيد خطابها القومي بشكل ملحوظ، مستحضرة رموز تاريخية وشعارات وطنية لتعزيز الصمود الداخلي وحشد الرأي العام الشعبي ضد ما وصفته بـ"الهيمنة الأمريكية". وقد لعبت أجهزة الدعاية التابعة للحزب الشيوعي دوراً محورياً في هذا التصعيد، حيث انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة لزعيم الثورة ماو تسي تونج وهو يعلن: "لن نرضخ أبداً"، في محاولة لربط الحاضر بمعركة تاريخية ضد النفوذ الأمريكي خلال الحرب الكورية. وقد كثفت وسائل الإعلام الرسمية من خطابها المتحدي، مركّزة على قدرة الشعب الصيني على تحمّل المشقة مقابل الحفاظ على السيادة الاقتصادية، ومشيرة إلى أن "أرض المعركة الحقيقية" تكمن في الداخل من خلال تعزيز الاستهلاك المحلي وتقليل الاعتماد على الصادرات، بما يعكس تحوّلاً استراتيجياً في البنية الاقتصادية الصينية لمواجهة الضغوط الخارجية.7- إظهار قدرات الصين على الرد على التعريفات الجمركية الأمريكية: ردّت الصين على موجة التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال ولايته الثانية بإظهار قدراتها الاقتصادية الهائلة على إلحاق الضرر بالاقتصاد الأمريكي واتخاذ إجراءات عقابية مدروسة. فبدلاً من الاكتفاء بالرد السياسي أو الانتقادات الدبلوماسية، استدنت الحكومة الصينية إلى خبرتها السابقة في التعامل مع سياسات ترامب الاقتصادية وحربه التجارية خلال ولايته الأولى. وقد شملت هذه الردود فرض رسوم جمركية مضادة، وقيوداً على نحو 60 شركة أمريكية، وتضييقاً على صادرات المعادن النادرة التي تعتمد عليها الصناعات التكنولوجية الأمريكية. كما اتخذت بكين خطوات للحد من استيراد المنتجات الزراعية الأمريكية، وهددت بتجميد التعاون في ملفات حساسة كالفنتانيل. وقد تزامن هذا التصعيد مع حملة داخلية لتعزيز الاستهلاك المحلي وتقليل الاعتماد على الصادرات الأمريكية، ما يدل على أن الصين لا تكتفي بالدفاع، بل تسعى لإعادة تشكيل التوازن التجاري العالمي بما يحد من نفوذ واشنطن الاقتصادي دوليّاً.تحول جذريخلاصة القول، شهد الموقف الصيني من التعريفات الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب ضد معظم السلع الصينية تحوّلاً جذرياً من سياسة التهدئة والسعي للحوار مع إدارة ترامب إلى تبنّي نهج تصعيدي يقوم على المواجهة المباشرة. فبعد أشهر من محاولات بكين فتح قنوات اتصال رفيعة المستوى والترويج لفكرة "العلاقة التجارية الرابحة للطرفين"، قابلتها واشنطن بتصعيد مفاجئ عبر فرض تعريفات جمركية ضخمة، ما دفع القيادة الصينية إلى تبنّي سياسات تصعيدية. وبدلاً من الاستمرار في استرضاء واشنطن، لجأت بكين إلى إجراءات مضادة شملت فرض رسوم انتقامية، وتشديد القيود على الشركات الأمريكية، وصولاً إلى استخدام الرموز التاريخية لإثارة النزعة القومية. ويعكس هذا التحول قناعة القيادة الصينية بأن التراجع أمام ضغوط ترامب سيُضعف موقفها داخلياً وخارجياً، ما دفعها إلى التصعيد كوسيلة لإثبات الصلابة السيادية وتوحيد الجبهة الداخلية.

المكاسب الصينية من حرب التعريفات الجمركية الأمريكية