يتزايد الاهتمام الروسي بتعزيز العلاقات مع السنغال التي تحظى بأولوية على رأس الأجندة الاستراتيجية الروسية الساعية إلى توسيع النفوذ الروسي في منطقة غرب أفريقيا وكذلك الساحل؛ وذلك عبر أدوات وآليات متنوعة تعزز المداخل الروسية التي من شأنها تأكيد الحضور الروسي على الساحة الأفريقية وترسيخ المكانة الروسية على الصعيد العالمي.

وتدرك موسكو قدرة المدخلين الاقتصادي والعسكري على توطيد علاقاتها مع السنغال، خاصةً في ظل سياق إقليمي يتسم بتحديات اقتصادية وأمنية على مدار السنوات الأخيرة؛ إذ تسعى موسكو إلى إبرام اتفاق تعاون عسكري مع السنغال خلال الفترة المقبلة، مستغلةً صعود الرئيس الحالي باسيرو ديوماي فاي إلى السلطة في أبريل 2024، وإقامة علاقات اقتصادية أوثق مع داكار، وهو ما يعكس برجماتية التوجه الروسي تجاه أفريقيا عامةً والسنغال خاصةً.

وتمثل التحركات الروسية مصدر إزعاج شديد بالنسبة إلى الغرب، وفرنسا بشكل أكثر تحديداً، لا سيما أن السنغال من آخر معاقل النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا والساحل بعدما تراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وبخاصة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. ويعزز تلك المخاوف حالة التوتر التي تسود العلاقات الفرنسية السنغالية مؤخراً، خاصة بعد تنديد عثمان سونكو رئيس الوزراء السنغالي، بوجود قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي السنغالية، وأعلن أن بلاده تدرس حالياً مستقبل التعاون العسكري مع باريس، وهو ما يسلط الضوء على احتمال تعزيز التقارب الروسي السنغالي على حساب تراجع النفوذ الفرنسي في داكار خلال الفترة المقبلة، وهو ما قد يعزز التنافس الدولي وخاصة التنافس الروسي الفرنسي في غرب أفريقيا خلال المرحلة المقبلة، وما قد يترتب عليه من توترات إقليمية في غرب أفريقيا والساحل.

ملامح التقارب

عززت موسكو تقاربها مع داكار بشكل قوي خلال السنوات الأخيرة، وهو ما عبرت عنه جملة التفاعلات المختلفة التي تعكس الحرص الروسي على تطوير علاقاتها مع السنغال. ويتمثل أبرز تلك الملامح في الآتي:

1– بناء علاقات سياسية ودبلوماسية قوية: هناك رغبة مشتركة بين موسكو وداكار في تعزيز العلاقات السياسية والدبلوماسية، في ضوء مساعي كل طرف إلى تعظيم مصالحه الاستراتيجية في المنطقة. وتجلى ذلك في تبادل مسؤولي البلدين العديد من الزيارات الرسمية، وفي مقدمتها لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره السنغالي السابق ماكي سال في العام الماضي (2023)، إضافةً إلى لقاء ميخائيل بوجدانوف المبعوث الخاص للرئيس بوتين إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، بالرئيس الحالي باسيرو فاي بهدف بحث التعاون الثنائي بين البلدين، كما زارت ياسين فال وزيرة الخارجية السنغالية، موسكو في أغسطس 2024 بهدف تعزيز الشراكة الثنائية والتعاون الاقتصادي بين الجانبَين.

وفي إطار المساعي الروسية إلى كسب النفوذ في السنغال، توظف موسكو علاقاتها القوية مع بعض الشخصيات السياسية السنغالية لتحريك العلاقات نحو المزيد من التقارب والتعاون، مثل جان بابتيست تين السفير السنغالي لدى موسكو حتى عام 2024 الذي شغل منصب وزير الداخلية سابقاً، الذي تربطه علاقة صداقة قوية مع ميخائيل بوجدانوف؛ وذلك في إطار المساعي الروسية لتوطيد علاقاتها مع داكار.

2– تماهي المواقف الدولية بين الطرفين: تؤكد موسكو دائماً أهمية السنغال باعتبارها شريكاً موثوقاً به في أفريقيا. ويدلل على ذلك الموقف السنغالي الذي اتسم بالحياد تجاه الحرب الروسية الأوكرانية في داخل أروقة الأمم المتحدة؛ حيث امتنعت داكار عن التصويت مرتين متتاليتين على قرارين من شأنهما إدانة موسكو في كييف، كما أن توتر العلاقات بين السنغال وأكرانيا يصب في مصلحة الروس الساعين إلى تطويق تحركات كييف في الساحة الأفريقية؛ وذلك على خلفية نشر السفير الأوكراني لدى داكار مقاطع فيديو داعمة للهجوم الذي نفذته بعض حركات الطوارق ضد عناصر الفيلق الأفريقي الروسي في شمال مالي في يوليو 2024؛ ما دفع السلطات السنغالية إلى استدعاء السفير الأوكراني لدى البلاد وتوجيه الاتهام له.

3– تطوير العلاقات الاقتصادية: شرعت موسكو، عقب وصول باسيرو إلى سدة الحكم في السنغال، في المسارعة من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، لا سيما قطاع النفط. وحرص الطرفان خلال الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية السنغالية إلى موسكو على مراجعة شاملة للتعاون الثنائي بين البلدين، وتعزيز الشراكة في مجالات مختلفة مثل الطاقة والتكنولوجيا والتعليم والزراعة؛ وذلك في إطار المساعي لبناء علاقات استراتيجية.

وقد بدأت الحكومة السنغالية محادثات مع شركة لوك أويل النفطية الروسية لاستغلال حقل ياكار–تيرانجا منذ انسحاب شركة بريتيش بتروليوم البريطانية، لا سيما أن هناك اهتماماً متزايداً من جانب السنغال بالاستفادة من خبرة الشركة الروسية الرائدة في مجال النفط والغاز الطبيعي، كما تتواصل المحادثات الروسية السنغالية حول قطاع التقنيات الحديثة؛ حيث أجرت الحكومة السنغالية اتصالات مع ممثلي شركة الاتصالات الروسية "روستليكوم" في أغسطس 2024، وركزت المحادثات على نقل التكنولوجيا الروسية إلى أفريقيا لا سيما السنغال.

وفي إطار المساعي لتعزيز العلاقات الروسية الأفريقية لا سيما السنغالية، تم افتتاح الغرفة التجارية والاستثمارية الأفريقية الروسية في السنغال في يوليو 2024. وتهتم موسكو بضخ المزيد من الاستثمارات الروسية في السنغال من خلال تشجيع الشركات الروسية على العمل هناك. ويقوم بهذا الدور إيجور موروزوف رئيس أفروكوم، وهي الهيئة المكلفة بتعزيز المصالح التجارية الروسية في أفريقيا.

فقد وقعت مدينة اتياس السنغالية اتفاقية شراكة مع مدينة سيفاستوبول الروسية في يوليو 2024، بحيث حصلت الأولى على تمويل بقيمة مليار فرنك أفريقي، ومن المتوقع أن يصل وفد روسي إلى اتياس للبدء في تنفيذ عدة مشروعات محددة هناك.

4– التعاون في التصدي للتحديات الأمنية: يمثل التعاون الأمني والعسكري بين موسكو وداكار مدخلاً مهماً للتقارب بينهما، خاصةً أن اتفاقية التعاون العسكري التي أُبرمت بين البلدين في عام 2018، كانت بمنزلة خطوة لتعزيز العلاقات الدفاعية الروسية السنغالية. ومن المتوقع أن يبرم الطرفان اتفاقية أمنية جديدة تشمل إجراء تدريبات بحرية مشتركة بين قوات البلدين، والسماح للسفن الحربية الروسية بالاتصال بالموانئ السنغالية. وكذلك التعاون في مكافحة القرصنة، إضافة إلى مساعدة قوات البحرية السنغالية في إجراء المسوحات في المناطق البحرية، كما يشير الاتفاق إلى نشر مدربين روس في داكار من أجل التدريب على مكافحة الإرهاب، كما سيشمل التدريب استخدام الاعتراض التقني واعتراض الاتصالات والطب العسكري.

ويسعى البلدان إلى التعاون من أجل مواجهة التحديات الأمنية والإنسانية في منطقة الساحل؛ إذ يبرز التماهي في موقف البلدين بشأن العمل على تقليص الأنشطة الإرهابية في الساحل وغرب أفريقيا، وضرورة القضاء عليها بشكل عاجل. ويعزز ذلك الطرح الروسي الذي يؤكد استعداد موسكو لدعم الدول الأفريقية ومنها السنغال من أجل تعزيز قدراتها الدفاعية ومكافحة الإرهاب؛ وذلك في إطار المساعي الروسية لأن تكون شريكاً موثوقاً في جهود تعزيز الاستقرار الإقليمي في غرب أفريقيا، وهو ما دفع سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي، إلى تأكيد أهمية التعاون الإقليمي لمكافحة الإرهاب، وعرض تقديم خبراتها إلى داكار في هذا المجال، بما في ذلك مجال الأمن السيبراني.

وفي هذا الإطار، تقوم موسكو بدعم دول الساحل وغرب أفريقيا بشحنات منتظمة من الأسلحة الروسية ومنها الطائرات الهجومية والمروحيات الروسية التي قدمتها لبعض دول المنطقة، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو خلال العامين الماضيين؛ فقد عرضت بيع طائرات هليكوبتر قتالية للانضمام إلى القوات الجوية السنغالية، لا سيما أنها سلمتها صفقة طائرات من طراز M–17 في ديسمبر 2023. كما تقدم موسكو الدعم لتدريب القوات السنغالية المنضوية تحت لواء بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتدريب على إزالة الألغام وكيفية التعامل مع الأجهزة المتفجرة.

5– اهتمام روسي بالقوة الناعمة: يجد المدخل الإنساني والثقافي أهمية –ولو نسبيّاً– في السياسة الروسية تجاه أفريقيا من أجل تحسين الصورة الذهنية للروس لدى الأفارقة؛ حيث تقوم موسكو بتوفير التدريب في مجالات مختلفة ومتنوعة، على رأسها التعليم؛ فقد أعلنت موسكو زيادة عدد المنح الدراسية من 75 منحة إلى 102 منحة دراسية في العام المقبل 2025، وهناك اتفاق بين موسكو وداكار على تدريب الكوادر الوطنية السنغالية، كما تعزز موسكو سياستها الثقافية في بعض الدول الأفريقية، لا سيما السنغال من خلال تشجيع الشباب السنغالي على تعليم اللغة الروسية؛ حيث تقوم نحو 50 مدرسة في 13 مقاطعة سنغالية بتدريس اللغة الروسية، بحيث وصل عدد الدارسين لها إلى نحو 6600 طالب وسط توقعات بمضاعفة هذا الرقم.

كما وقعت موسكو وداكار في مارس 2024 مذكرة تفاهم للتعاون في مجال حقوق الإنسان؛ ما اعتبره البعض علامة فارقة في تعاون البلدين. ويهدف هذا الاتفاق إلى تعزيز التعاون في المشروعات التعليمية وتبادل الأساليب الفعالة لحماية الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية.

الاهتمام الروسي

هناك العديد من المحفزات التي تدفع موسكو للتوجه نحو تعزيز علاقاتها مع السنغال، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك المحفزات على النحو التالي:

1– موقع السنغال الاستراتيجي: تتمتع السنغال بموقع استراتيجي في منطقة غرب أفريقيا، مع إمكانية الوصول إلى المحيط الأطلسي، ولها حدود مع عدد من البلدان الأفريقية؛ ما يجعلها بوابة مهمة للعمق الأفريقي. كما تمتلك السنغال اقتصاداً يتسم بالتنوع؛ حيث يشمل قطاعات الزراعة وصيد الأسماك والخدمات والتعدين. ومن ثم، تبحث موسكو عن حليف قوي مستقر على ساحل الأطلسي يضمن لها الحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية.

2– مكانة السنغال على المستوى الأفريقي: تتمتع داكار بمكانة جيوسياسية مهمة في السياق الإقليمي؛ فهي تلعب دوراً بارزاً في المنظمات القارية والإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي وإيكواس، وهو ما قد تستفيد منه موسكو في توظيفها لتعزيز علاقاتها مع البلدان الأفريقية الأخرى، كما أنها تشارك في مبادرات حفظ السلام الإقليمية من أجل دعم الاستقرار الإقليمي في القارة بشكل عام وغرب أفريقيا بشكل خاص.

3– مساعي الحصول على الموارد والثروات الأفريقية: يعد النفط والذهب المحفزَين الرئيسيَّين لموسكو في توجهها نحو السنغال، في ظل مساعيها للحصول على المزيد من الثروات والموارد – التي كانت تسيطر عليها فرنسا والغرب في السنوات الماضية – لضمان تغذية اقتصادها الذي تهدده استمرارية الحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من عقوبات غربية على موسكو منذ اندلاع الصراع بين البلدين.

4– السنغال بوابة مهمة للاستثمارات الروسية: تنظر موسكو إلى السنغال باعتبارها واحة من الاستقرار في وسط منطقة إقليمية مضطربة، وهو ما يسهل إيجاد سوق جديدة تعزز بدورها عملية بيع المنتجات الروسية، وعملية استقطاب المزيد من الشركات الروسية إلى غرب أفريقيا للبدء في تنفيذ مشروعات روسية هناك؛ وذلك من أجل تعزيز الحضور الروسي في المنطقة.

5– أهمية السنغال في سوق الطاقة: تتضاعف مكانة السنغال بعدما حققت اكتشافات مهمة في مجال الطاقة، لا سيما النفط والغاز الطبيعي، وسط توقعات بأن تصبح لاعباً رئيسياً في سوق الطاقة العالمية، وهو ما يجعل السنغال شريكاً ذا مزايا تنافسية مهمة بالنسبة إلى موسكو.

6– الترويج للصناعات الدفاعية الروسية: خاصةً في ظل مساعي موسكو إلى تدشين صناعاتها الدفاعية في السنغال، لتكون بمنزلة نقطة انطلاق لاحتمال نقل هذه الصناعات إلى عدد من دول الجوار الإقليمي في غرب أفريقيا والساحل، أو على الأقل تصبح السنغال سوقاً مهمةً للصناعات الدفاعية والتسليحية في المنطقة.

7– تأمين النفوذ البحري الروسي في سواحل أفريقيا: يعزز التموضع الجيوبولتيكي للسنغال في المنطقة الاهتمام الروسي بتمدد نفوذه إلى الموانئ البحرية في خليج غينيا الذي تمر من خلاله نسبة متزايدة من التجارة الدولية، كما أن الولوج الروسي المحتمل إلى ساحل الأطلسي من شأنه أن يهدد بعض القوى الدولية الفاعلة مثل الولايات المتحدة، خاصة أنها تخشى أي وجود روسي وصيني على السواحل الغربية للقارة الأفريقية.

8– مواجهة النفوذ الغربي في غرب أفريقيا: تدرك موسكو أن تقاربها مع داكار يحقق لها أهدافها ومصالحها الاستراتيجية في غرب أفريقيا، وفي مقدمتها تطويق النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، خاصةً السنغال، لا سيما أن باريس قد تراجع دورها بشكل ملحوظ في الساحة الأفريقية، وهو ما قد تستغله موسكو في توسيع نفوذها وتعزيز مكانتها الدولية في غرب أفريقيا والساحل.

إجمالاً، يشكل التقارب والتعاون بين موسكو وداكار سلاحاً ذا حدين بالنسبة إلى المصالح الجيوسياسية لروسيا؛ ففي حين يسهم هذا التعاون لموسكو أن تقوم بتوسيع نفوذها في القارة ومواجهة الوجود الغربي، إلا أنه في الوقت ذاته، قد يعرض الروس للمنافسة والصراعات مع بعض القوى الدولية، مثل فرنسا والغرب، بما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة.

أبعاد الاهتمام الروسي بتطوير العلاقات مع السنغال