د. منى سليمان


        
<p><strong>اكتسبت ظاهرة الاغتيالات السياسية المزيد من الزخم في الفترة الأخيرة؛ ففي خضم الأزمات المحتدمة التي تواجهها العديد من الدول وحالة الصراع الدولي الراهنة والمتصلة بصورة رئيسية بالحرب في أوكرانيا، باتت الاغتيالات أداة للتخلص من الخصوم وإضعافهم. هذه العوامل كانت حاضرة مع اغتيال رئيس الوزراء الياباني السابق "شينزو آبي" في 21 يوليو الماضي، وكذلك اغتيال الصحفية الروسية "درايا دوجين"، خلال شهر أغسطس 2022، وهي ابنة المفكر الروسي الشهير "ألكسندر دوجين"، علاوة على محاولة الاغتيال التي تعرضت لها نائبة الرئيس الأرجنتيني "كريستينا فرنانديز"، يوم 1 سبتمبر الجاري، خلال حضورها مهرجاناً سياسياً بالعاصمة بوينس أيرس.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">أبعاد متعددة</span></strong></p>



<p>تعد ظاهرة الاغتيال السياسي من أقدم الظواهر السياسية في التاريخ، وهي تحدث في الدول النامية والمتقدمة والغنية والفقيرة على حد السواء؛ ففي روسيا القيصرية تم اغتيال خمسة من القياصرة في أقل من 200 سنة، وتم اغتيال أربعة رؤساء أمريكيين. وقد أدت بعض حالات الاغتيال إلى تغيير مجرى التاريخ ككل، مثل حادثة اغتيال ولي عهد النمسا "فرانز فرديناند" من قبل طالب صربي في 28 يونيو عام 1914؛ ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد طرحت الأدبيات مداخل رئيسية للتعاطي مع تعريف الاغتيالات السياسية وتفسيرها؛ وذلك كما يلي:&nbsp;&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- جدل حول تعريف الاغتيال السياسي: </strong>يعرف الاغتيال السياسي بأنه القتل العمد لشخصية عامة، لأسباب سياسية أو فكرية أو دينية أو طائفية، أو بأنه "جريمة قتل شخص مستهدف لأغراض سياسية"، أو يعرف بأنه القضاء على فرد معين لديه سلطة سياسية بهدف إحداث تغييرات سياسية في المجتمع دون الحاجة إلى التأثير على عقلية الناس، وكذلك يعرف بأنه "عملية قتل منظمة ومتعمدة تستهدف شخصية مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي أو ديني، ويكون مرتكز عملية الاغتيال عادة أسباباً عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو انتقامية تستهدف شخصاً معيناً يعتبره منظمو عملية الاغتيال عائقاً لهم في طريق انتشار أوسع لأفكارهم أو أهدافهم"، وهو أقصى حالات "العنف السياسي. وهناك من دافع عنه من المفكرين الغربيين، وأبرزهم "توماس مور" الذي وصف "اغتيال القادة السياسيين، باعتبارها أداة من أدوات فن الحكم ووسيلة لتجنيب المواطنين العاديين مشاق الحرب التي كان قادتهم مسؤولين عنها"، وهو بذلك يكون قد قدم مبررات للاغتيالات السياسية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- تعدد الجهات المنفذة للاغتيال: </strong>تتعدد الجهات المنفذة للاغتيالات السياسية، من شخص واحد فقط إلى مؤسسة جماعية. ولعل أبرز من ينفذ الاغتيالات الجماعات الإرهابية وجماعات المعارضة السياسية، وربما تندمج الجماعتان في إطار تنظيمي واحد مثل جماعة "الإخوان المسلمين" في الدول العربية التي انخرطت في العمل السياسي، كما يمكن للاغتيال السياسي أن تنفذه جهة حكومية رسمية ضد معارضيها أو العكس؛ تنفذه الأحزاب المعارضة أو المستقلون المعارضون ضد شخصيات حكومية.&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- التغييرات الناجمة عن الاغتيالات السياسية:</strong><strong> </strong>قد تسفر الاغتيالات السياسية عن تغييرات عدة في الدولة، ومنها تغيير رئيس الوزراء أو عدد من الوزراء أو حتى تغيير رئيس الدولة لو تم اغتياله، كما قد تكون حادثة الاغتيال في حد ذاتها دافعاً لإحداث تغيير أكبر مثلما جرى عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق "رفيق الحريري" في 14 فبراير 2005 الذي نتج عنه "ثورة الأرز" في لبنان؛ حيث تظاهر نحو مليون شخص في بيروت للمطالبة بخروج القوات السورية من لبنان وقد حدث ذلك بالفعل.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>كما يمكن أن تؤدي حادثة اغتيال إلى تبني الدولة سياسات جديدة كانت تدافع عنها الشخصيات المستهدفة بالاغتيال، وظهر ذلك مثلاً في التاريخ الأمريكي مع اغتيال ناشطين مدافعين عن "حقوق السود" في الولايات المتحدة الامريكية؛ إذ دفع ذلك الأمر الدولة إلى اتخاذ سياسات تستهدف إنهاء التمييز والمساواة بين السود والبيض في البلاد، كما يمكن لحالات الاغتيال أن تصبح ذريعة للتدخل الخارجي في الدولة؛ فبعد اغتيال رئيس هاييتي "جوفينيل مويس" عام 2020 تعهدت واشنطن بالمساعدة في التحقيق وإرسال قوات للبلاد؛ ما يمثل تدخلاً في الشأن الداخلي لهاييتي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تنوع دوافع وأهداف الاغتيالات:</strong> تشير الأدبيات إلى تنوع دوافع الاغتيالات السياسية؛ فبعض الاغتيالات تتم لأسباب سياسية مثل اغتيال المعارضين أو اغتيال شخصيات سياسية هامة ومؤثرة، على غرار عملية اغتيال رئيس الوزراء الياباني السابق "شينزو آبي". وهناك اغتيالات أخرى تتم لأسباب دينية نتيجة للخلافات العقائدية، وهو النمط الذي ظهر في منطقة الشرق الأوسط كثيراً خلال السنوات الماضية. وقد تتم الاغتيالات أيضاً لأسباب عسكرية باستهداف شخصيات عسكرية هامة، أو حتى لدوافع اجتماعية بهدف التخلص من شخصيات وناشطين في الحركات الاجتماعية التي تروج لأفكار إشكالية بالنسبة إلى مجموعات معينة في المجتمع.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">محفزات رئيسية</span></strong></p>



<p><strong>لا يمكن إغفال أن تصاعد موجة الاغتيالات في العلاقات الدولية في اللحظة الراهنة كان امتداداً لسياقات تشكلت خلال السنوات الماضية، وساهمت في إنتاج بيئة مواتية لتوظيف الاغتيالات في إدارة العلاقات السياسية والمجتمعية. ومن هذا المنطلق، يمكن الإشارة إلى عدد من المحفزات الرئيسية لموجة الاغتيالات الراهنة؛ وذلك على النحو الآتي:</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- صعود التيارات اليمينية المتطرفة: </strong>شهد العقد الأخير صعود لتيارات اليمين المتطرف بمختلف انتماءاته الدينية والفكرية في الدول الأوروبية والعربية تحديداً، وهذه التيارات تبرر لأعضائها استخدام الاغتيالات السياسية كسبيل للتعبير عن آرائهم أو كوسيلة للوصول إلى السلطة أو تحقيق مكاسب سياسية محددة، ومن المتوقع أن تستمر هذه التيارات في الحضور بالمشهد السياسي العالمي والتأثير فيه بقدر أكبر مستقبلاً.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويصف بيار كونيسا، في كتابه "صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟"، حالة التطرف الديني التي سادت عالمياً خلال السنوات الماضية، والتي لم تعد قاصرة على دين بعينه، بقوله إن "صعود التيارات الدينية المتطرفة في بعض الدول المتعددة الطوائف أصبح معطى أساسياً في الحياة الدولية. ولعل النماذج على ذلك كثيرة ومنها لبنان، ويوغوسلافيا (سابقاً)، والهند، ونيجريا، والكاميرون، والسودان، وسريلانكا، وغيرها من الدول، بالإضافة إلى حالة النزاع الديني الداخلي العنيف في أكثر من دولة، وبزوغ نماذج للإرهاب الديني". وبموازاة الراديكالية الدينية، شكَّل المد القومي الرافد الآخر لموجة التطرف الراهنة في النظام العالمي؛ إذ تشهد المجتمعات الغربية هي الآخرى حالة من النزوع الجماعي نحو التطرف، تجلت ملامحها في الصعود السياسي لحركات اليمين القومي المتطرف، وبزوغ أنماط من القادة يتبنون خطاباً قائماً على معاداة أفكار التعايش مع الآخرين. &nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- كثرة الاضطرابات السياسية في الدول: </strong>منذ العقد الماضي وبدء ما عرف بثورات "الربيع العربي"، حدث عدم استقرار سياسي واضطرابات في 8 دول عربية، ولا يزال بعضها مستمراً حتى اليوم؛ ما أدى إلى ظهور عدد كبير من الجماعات السياسية والدينية التي كانت محظورة من قبل، كما أفضى ذلك إلى حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والتنافس على السلطة. وكانت الاغتيالات السياسية من أدوات ذلك؛ حيث شهدت كافة تلك الدول حالات اغتيالات مختلفة، وبعد الحرب الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير 2022 سادت حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الدول الأوروبية ولا تزال مستمرة وربما تتطور لتشهد حالات اغتيالات مقبلة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- مساعي بعض الفاعلين إلى إضعاف الدولة الوطنية: </strong>لا تنفصل موجة الاغتيالات التي تشهدها الدول، وخصوصاً في بعض دول منطقة الشرق الأوسط، مثل العراق واليمن، عن مساعي بعض الفاعلين لإضعاف الدولة الوطنية، وبمعنى آخر كانت الاغتيالات محفزاً وفي الوقت ذاته أحد تجليات ضعف الدولة الوطنية؛ فخلال السنوات الماضية نشأ اتجاه يرى أن النموذج الويستفالي الذي يُعلي من سيادة الدولة سيتراجع في ظل التحولات التي أفضت إليها العولمة، وما ارتبط بها من تنامي أدوار الفاعلين من غير الدول، ناهيك عن حالات الإخفاق التي تمر بها الكثير من الدول وبزوغ ظاهرة الدولة الفاشلة في العلاقات الدولية، التي تعطي أريحية أكبر للفاعلين العنيفين من غير الدول &nbsp;للتحرك عبر الحدود وتنفيذ العمليات، ولا يمكن إغفال أن هذا النمط من أزمات الدولة له تجليات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة عقب ما عرف بثورات "الربيع العربي".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تزايد أهمية العمليات النفسية في العلاقات الدولية:</strong> بالرغم من أن الاغتيالات تمثل فعلاً مادياً عنيفاً ضد الآخر، فإنها تستصحب معها جانباً آخر معنوياً؛ إذ يسعى الطرف الذي يستخدم الاغتيالات إلى بث الخوف والقلق في نفوس الخصوم وتقويض صورتهم الخارجية، والترويج لمعضلة الأمن insecurity branding لدى هؤلاء الخصوم، على النحو الذي يكون له انعكاساته الكارثية عليهم؛ فتصوير دولة ما على أنها مكان خطير منعدم الأمن والاستقرار وغير مهيأ من الناحية المؤسسية يضعف مكانة الدولة وصورتها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويصلح هذا البعد في تفسير دوافع اغتيال الصحفية الروسية "درايا دوجين"، خلال شهر أغسطس 2022؛ فهذه العملية تستبطن محاولة لتأكيد أن روسيا، بالرغم من الترويج لقدراتها الأمنية والعسكرية الهائلة، غير قادرة على تأمين مواطنيها والشخصيات المؤيدة لأفكارها، وخصوصاً أن "درايا" ابنة المفكر الروسي الشهير "ألكسندر دوجين" الذي يصفه البعض في الغرب بأنه "عقل بوتين"؛ لما لأفكاره القومية المعادية للغرب من تأثير كبير في سياسات "بوتين"، كما أن "درايا" كانت تعبر، هي ووالدها، عن دعم واضح للتدخل الروسي في أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- تبني الدول استراتيجيات أقل تكلفة لإلحاق خسائر بالخصوم:</strong> ارتبطت موجة الاغتيالات السائدة في العلاقات الدولية خلال السنوات الأخيرة بتعاظم اعتماد الدول على استراتيجيات غير مكلفة لإضعاف الخصوم وتكبيدهم خسائر كبيرة؛ فالاغتيالات هنا تعد مرحلة من مراحل التصعيد بين الدول بدلاً من الوصول إلى المواجهة العسكرية التقليدية وما تتضمنه من تكلفة هائلة. لقد ظهر هذا الأمر مثلاً في عملية استهداف الولايات المتحدة قائد فيلق القدس الإيراني السابق "قاسم سليماني" في يناير 2020. كما أن عمليات الاغتيال المتكررة لبعض الخبراء والعلماء الإيرانيين المسؤولين عن البرنامج النووي، التي تتهم إيران إسرائيل بالتورط فيها، تعكس كيفية استخدام الاغتيال من قبل الدول لإلحاق الخسائر بالخصوم.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>خلاصة القول أن الاغتيال السياسي هو ظاهرة سياسية مستمرة ولن تنتهي، ومن المتوقع تصاعدها أكثر خلال الفترة المقبلة نتيجة حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في عدد من الدول؛ نتيجة كثرة الحروب والصراعات والنزاعات؛ حيث دفعت الأزمات الاقتصادية بعض الشباب للانضمام إلى الجماعات المتطرفة، سواء أكانت سياسية أو دينية أو اجتماعية؛ ما يمثل وسيلة لتلك الجماعات لاستغلالهم في تنفيذ حوادث الاغتيال. كما أن تزايد الصراعات الدولية قد يكسب الاغتيالات المزيد من الزخم، وخصوصاً أنها توفر لبعض الدول أداة أقل كلفة من الحرب لإضعاف الخصوم.</strong></p>

      

لماذا تصاعدت ظاهرة الاغتيالات عالمياً؟