د. أحمد عسكر

قرر المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في النيجر، في 16 مارس 2024، إلغاء الاتفاق الدفاعي الذي أبرمته حكومة الرئيس السابق محمدو إيسوفو مع الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما في عام 2012؛ وذلك في خطوة تصعيدية قد تُعمِّق الخلاف بين الجانبين مستقبلاً، لا سيما بعدما اعتبرته النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة اتفاقاً غير عادل قد فرضته واشنطن بشكل أحادي وقتها؛ ما قد يترتب عليه غلق القاعدة العسكرية الأمريكية في أغاديز وسط البلاد التي تضم نحو 650 عنصراً معرضين للطرد من البلاد في أي وقت.ولم يكن هذا القرار مفاجئاً في ضوء استمرار التوتر المتصاعد بين نيامي وواشنطن التي اتخذت موقفاً تصعيديّاً تجاه الانقلاب العسكري الأخير في البلاد الذي اندلع في يوليو 2023، وما صاحبه من تحولات جوهرية في سياق التحالفات الدولية الاستراتيجية للنيجر التي بات يُنظر إليها باعتبارها ذراعاً رئيسية لموسكو في منطقتي الساحل وغرب أفريقيا؛ الأمر الذي قد يدفع نحو خطوات تصعيدية أخرى ربما تشكل حلقة جديدة في سلسلة التوترات بين نيامي وواشنطن، قد تؤثر على مستقبل العلاقات بينهما، وهو ما قد ينعكس بشكل سلبي على مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في البلاد والمنطقة خلال المرحلة المقبلة.دوافع القرارهناك جملة من الأسباب والدوافع التي بلورت اتخاذ قرار إلغاء الاتفاق الدفاعي بين واشنطن ونيامي، ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الدوافع على النحو التالي:1- رفض الممارسات السياسية الأمريكية تجاه النيجر: شكلت الزيارة الأخيرة للوفد الأمريكي برئاسة "مولي في" مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية، إلى النيجر في 13 مارس الجاري، دافعاً للمجلس العسكري الحاكم نحو إعلان تعليق العلاقات العسكرية مع واشنطن؛ بسبب ما اعتبره سلوكاً مشيناً بسبب عدم اتباع الوفد الأمريكي البروتوكول الدبلوماسي، بعدما لم يتم إبلاغ السلطات في النيجر بتشكيل الوفد الزائر وجدول أعماله، إضافة إلى اشتراط واشنطن استعادة العلاقات والمساعدات العسكرية الأمريكية للنيجر، في مقابل سرعة تحديد جدول زمني للانتقال الديمقراطي وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية في البلاد، بجانب تحذير واشنطن العسكريين النيجريين من تعزيز العلاقات مع موسكو، وهو ما اعتبرته السلطات الحاكمة انتهاكاً لسيادة النيجر التي يحق لها اختيار شركائها وتحديد مجالات شراكاتها معهم، بما في ذلك محاربة الإرهاب.2- اتهامات للنيجر بتصدير اليورانيوم لإيران: أفادت تقارير بوجود ادعاءات أمريكية بشأن توصل طهران إلى اتفاق مبدئي مع نيامي يسمح للأولى بالوصول إلى احتياطات اليورانيوم؛ وذلك في أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مع رئيس وزراء النيجر في يناير 2024 بطهران، لا سيما أن النيجر تحتل المرتبة السابعة عالميّاً في إنتاج اليورانيوم وفقاً لبيانات عام 2022، بإنتاج يبلغ نحو 200 طن، وهو ما قد يعرض النيجر لعقوبات دولية وأمريكية، بما يعزز الضغوط والأعباء على النخبة العسكرية الحاكمة الجديدة في البلاد؛ الأمر الذي ربما يهدد نفوذها الداخلي وبقاءها في الحكم بالبلاد.3- تثبيت سلطة العسكريين في البلاد: تدرك النخبة الحاكمة في النيجر أهمية تحييد الغرب، بما في ذلك واشنطن، عن التدخل في الشأن الداخلي للبلاد، بهدف الحفاظ على سلطتها واستمرارها في الحكم لسنوات مقبلة، بعيداً عن الضغوط الغربية في قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا سيما أن اللقاءات الأمريكية الأخيرة مع مسؤولي البلاد لم تَخْلُ من الحديث عن مسار المجلس العسكري الحاكم خلال المرحلة المقبلة، والدعوة إلى تحديد جدول زمني للانتخابات الرئاسية التي تضع نهاية للمرحلة الانتقالية في البلاد، التي ربما تستمر ثلاث سنوات قادمة وفقاً لتصريحات السلطة الحاكمة هناك.4- التخلص من القوات الأجنبية في النيجر: يشكل الوجود العسكري الأجنبي خطراً متنامياً بالنسبة إلى النظام الحاكم العسكري في النيجر، في ضوء التوترات المتصاعدة خلال الفترة الماضية بسبب رفض الغرب موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض بلدان المنطقة، لا سيما نيامي، الذي دفع واشنطن – على سبيل المثال – إلى الاستمرار في تعليق مساعداتها لها حتى تتخذ خطوات جادة من شأنها الانتقال السريع إلى الديمقراطية، في الوقت الذي ترفض فيه السلطات الانتقالية الحاكمة تحديد موعد للانتخابات الرئاسية حتى الآن، وهو ما دفع الجنرال عبد الرحمن تشياني إلى محاولة فك الارتباط بالقوى الغربية؛ للتخلص من الضغوط التي تمارسها على حكومته، بما في ذلك انتقاد الضربات الجوية الأمريكية فوق أراضي النيجر، باعتبارها غير قانونية، وهو الانتقاد الذي ربما يصبح خطوة أولى تتلوها خطوات أخرى تصعيدية ربما تصل إلى مطالبة القوات الأمريكية بالانسحاب من البلاد في المدى المنظور.5- الانتقام من الموقف الأمريكي إزاء الانقلاب الأخير: يبدو أن اتخاذ القرار الأخير للحكومة النيجرية قد جاء نكايةً في واشنطن بسبب موقفها المعادي للانقلاب الذي اندلع في البلاد منذ ثمانية أشهر تقريباً؛ حيث علَّقت تعاونها مع السلطة الجديدة عقب الانقلاب مباشرةً، إضافة إلى تقليص المساعدات الأمريكية التي تقدمها للبلاد باستثناء المساعدات الإنسانية، بجانب إيقاف التعاون العسكري مع القوات المسلحة النيجرية.6- التقارب المتسارع مع موسكو: حاول المجلس العسكري الانتقالي في النيجر تخفيف حدة الضغوط والعقوبات الدولية والإقليمية التي أعقبت الاندلاع الأخير والالتفاف عليها، من خلال توسيع دائرة تحالفاته الدولية، ونسج علاقات وطيدة مع موسكو باعتبارها قوة فاعلة في السياق الأفريقي خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في المجال الأمني والدفاعي، وهو ما تجلى في اتفاق الطرفين على التعاون الأمني والعسكري في يناير 2024، في سبيل تحقيق الاستقرار الإقليمي في المنطقة، وهو ما دفع البعض إلى التكهن باحتمال تورط موسكو في هندسة قرار إلغاء اتفاق واشنطن ونيامي بهدف تقليص نفوذ الأولى في الساحل وغرب أفريقيا لحساب صعود الدور الروسي هناك.تداعيات مقلقةتحمل الخطوة الأخيرة التي اتخذها المجلس العسكري الانتقالي العديد من التداعيات المحتملة التي تنذر بتعقد التفاعلات الدولية والإقليمية في الساحل، وما قد يترتب على ذلك من تحولات جوهرية في التحالفات الدولية هناك. ويتمثل أبرز تلك التداعيات المحتملة فيما يلي:1- تصعيد التوتر بين البلدين: قد يشهد الخلاف بين نيامي وواشنطن خطوات تصعيدية جديدة خلال الفترة المقبلة، إذا فشل الطرفان في التوصل إلى تسوية تنهي الملفات الخلافية بينهما، وهو ما قد يهدد بفرض واشنطن المزيد من العقوبات على نيامي فيما يتعلق بتداعيات الانقلاب العسكري في البلاد، إضافة إلى الادعاءات بحصول طهران على اليورانيوم وفقاً لاتفاق أبرم مؤخراً مع النيجر، بحسب المزاعم الغربية.2- تشويه صورة واشنطن لدى الرأي العام الأفريقي: قد يدفع العسكريون الجدد في النيجر نحو تصعيد مشاعر الاستياء الشعبي ضد واشنطن، مستفيدين من تناقضات السياسات الأمريكية تجاه الدول الأفريقية وقضايا القارة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما قد يؤول إلى هدفين أساسيين؛ أولهما تعزيز شرعية النظام العسكري الانتقالي في الحكم، ومن ثم اكتسابه شرعية بالقرارات التي يتخذها حيال ملفات السياسة الخارجية، وبخاصة العلاقات مع القوى الأجنبية، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا. وثانيهما يتعلق بممارسة الضغوط على واشنطن من أجل التراجع عن موقفها المعادي للسلطة الجديدة، وتقديم تنازلات في سبيل استئناف العلاقات الطبيعية بين الطرفين خلال الفترة المقبلة.3- تمدد التنظيمات الإرهابية في الساحل الأفريقي: من المتوقع أن يؤثر إنهاء الوجود الأمني الأمريكي في النيجر على جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة، بما يعزز نشاط وتمدد التنظيمات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش، وتوسيع نشاطها رغبةً في توسيع نطاق سيطرتها ونفوذها على مساحة جغرافية أوسع في الساحل وغرب أفريقيا؛ ما يهدد الأمن والاستقرار الإقليميين في المنطقة.4- مطالبة القوات الأمريكية بالانسحاب النهائي من النيجر: تشير خبرة انسحاب القوات الفرنسية من النيجر في أواخر ديسمبر 2023 إلى احتمال تكرارها في عام 2024، من خلال مطالبة القوات الأمريكية بالانسحاب من البلاد، ومن ثم حرمانها من القاعدة العسكرية الاستراتيجية التي أسستها واشنطن بقيمة 110 ملايين دولار في وسط البلاد؛ ما قد يؤدي إلى تحجيم التحركات الأمريكية في المنطقة، الذي سيؤثر بطبيعة الحال على دورها في مراقبة التنظيمات الإرهابية من ناحية، ومراقبة تحركات خصومها الدوليين في المنطقة وجوارها الإقليمي المباشر.5- ضرب أجندة واشنطن في الساحل الأفريقي: قد تؤدي خسارة ورقة النيجر التي تحظى بأهمية استراتيجية بالنسبة إلى السياسة الأمريكية الأمنية في الساحل وغرب أفريقيا إلى تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، بما قد يدفعها إما نحو استمرار التفاوض مع نيامي بشأن بقاء القوات الأمريكية في البلاد في مقابل تنازلات تعزز نفوذ العسكريين في السلطة بالنيجر، وإما نحو تحوُّل واشنطن إلى التقارب مع دول أخرى بالمنطقة لاستغلال أراضيها ومطاراتها، مثل كوت ديفوار وبنين وغانا، بهدف ضمان استمرار الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب في الساحل وغرب أفريقيا.6- تنامي النفوذ الروسي في الساحل الأفريقي: قد يدفع استمرار وتصعيد التوتر بين واشنطن ونيامي نحو تقارب الأخيرة مع كل من روسيا وإيران، بما يعني خسارة واشنطن للنيجر شريكاً إقليمياً رئيسياً في مجال مكافحة الإرهاب في الساحل، وفي المقابل، يمهد الطريق أمام المزيد من التمدد الروسي في المنطقة، وهو ما يسهم في إعادة تشكيل التحالفات الدولية، وإعادة هندسة العلاقات بين الأطراف الإقليمية والدولية في ضوء اختلالات موازين القوة بين الفاعلين الدوليين في الساحل.7- احتمالية تسريع التعاون بين النيجر وإيران: ربما يدفع تراجع العلاقات بين النيجر والولايات المتحدة نحو تسريع التعاون بين النيجر وإيران؛ فإيران لا تُخفِي اهتمامها بالوجود في منطقة الساحل الأفريقي، بما في ذلك النيجر، ولعل هذا ما اتضح مثلاً من اللقاء الذي جمع بين الرئيس الإيراني ووزير خارجية النيجر بكاري ياو سنجاري، الذي زار طهران، في 25 أكتوبر الجاري، حينما أشار الرئيس الإيراني إلى استعداد بلاده لتوسيع نطاق التعاون مع نيامي.إجمالاً، لا يزال الخلاف بين واشنطن ونيامي يُخفِي المزيد من الحلقات في سلسلة التوتر المتنامي بين الطرفين خلال الفترة المقبلة، وربما يتصاعد الوضع وصولاً إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وطرد القوات العسكرية الأمريكية من قاعدتها في أغاديز؛ ما يشكل معضلة جديدة للنفوذ الغربي في الساحل وغرب أفريقيا، ويُمثِّل في الوقت ذاته فرصة ذهبية للروس الساعين إلى مد نفوذ موسكو وتوسعها في الفضاء الجيوسياسي الأفريقي على حساب خصومها التقليديين؛ رغبةً في تحقيق المزيد من المكاسب الاستراتيجية التي تضمن لها تعزيز مكانتها في النظام الدولي، وامتلاك المزيد من الأوراق الضاغطة التي ربما يستدعيها بوتين في مواجهة الغرب وواشنطن في العديد من مناطق الاشتباك والتنافس المحتدم بين الطرفَين حول العالم.

ماذا بعد إنهاء النيجر تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة؟