أ.د حمدي عبد الرحمن حسن

إذا عبرنا إلى المستقبل بواسطة آلة الزمن لأمكننا التعرف على عالم "أفروتوبيا" الذي بشَّرت به أجندة 2063 للاتحاد الأفريقي. تتجسد أمام عين الرائي حدود القارة المفتوحة التي يتدفق عبرها بكل حرية ويسر الناس ورؤوس الأموال والسلع والخدمات من القاهرة إلى الكيب، ومن داكار إلى نيروبي. وفي الوقت نفسه تعاني القارة العجوز (أوروبا) من صعود اليمين المعادي لسياسات الهجرة، حتى أضحت منطقة شنجن الخالية من الحدود تئن من وطأة ضغوط الهجرة غير الشرعية والإرهاب. إن منطقة أخرى خالية من الحدود التي رسمها الاستعمار، وتضم أكثر من 1.2 مليار نسمة، في طريقها لتدشين شنجن أفريقية. لم يَعُد الأمر خاطرة تراود من يؤمن بحلم الوحدة الأفريقية، بل تحول إلى احتمال أقرب إلى الواقع عندما قدم الاتحاد الأفريقي بالفعل وبكل جرأة جواز سفر أفريقياً موحداً، وكان أول المستفيدين من هذه الجائزة اثنين من الزعماء الأفارقة: رئيس رواندا بول كاجامي، والرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي.ومع ذلك، في ظل الحروب الأهلية والتحديات الأمنية التي تحيط بالدول الأفريقية من كل حدب وصوب، يظل عبور الحدود تجربة مؤلمة بالنسبة إلى أغلب الأفارقة. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن التجارة البينية الأفريقية أكثر تكلفةً، بعد أخذ كل العوامل في الاعتبار، من التجارة في أيِّ منطقة أخرى. وفي حين أن 48 دولة أفريقية تمنح مواطني دولة أخرى على الأقل خارج أفريقيا السفر بدون تأشيرة، فإن 5 دول أفريقية فقط، على رأسها رواندا، من أصل 52 دولة يمكنها التباهي بمنح حق دخول الأفارقة إلى أراضيها بدون تأشيرة. وعلى سبيل المثال، يستطيع المواطن الأمريكي التجول في معظم أنحاء أفريقيا دون تأشيرة؛ وذلك مقارنةً بالأفريقي الذي يحتاج إلى تأشيرة دخول لنحو 60% من الدول الأفريقية.السياسات الأفريقيةمن المعلوم أن الاتحاد الأفريقي طوَّر العديد من أطر السياسات لإدارة حركة الأفراد الطوعية والقسرية عبر القارة؛ بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي والتنمية. ومن الأمور المركزية لهذه السياسات، الرؤية المنصوص عليها في معاهدة إنشاء الجماعة الاقتصادية الأفريقية (معاهدة أبوجا) لعام 1994. وتُلزم هذه المعاهدة الدول الأعضاء بتحقيق حرية حركة الأشخاص بشكل تدريجي، وضمان حقوق الإقامة والاستقرار داخل الجماعة الاقتصادية الأفريقية. وحتى الآن، صدَّقت 48 دولة عضواً على الأقل في الاتحاد الأفريقي على المعاهدة.في عام 2006، اعتمد الاتحاد الأفريقي إطار سياسة الهجرة لأفريقيا، الذي تم تنقيحه في عام 2018 لمعالجة تحديات الهجرة المعاصرة. ويشدد إطار سياسة الهجرة على إمكانات الهجرة المُدارة جيداً لتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويغطي قضايا الهجرة الرئيسية، بما في ذلك إدارة الحدود، وهجرة اليد العاملة، وإدارة البيانات، وحقوق الإنسان للمهاجرين، والنزوح القسري، والهجرة غير النظامية، والتعاون بين الدول، والهجرة الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، يتناول الإطار الأبعاد الاجتماعية مثل النوع الاجتماعي والصحة والصراع والبيئة. وعلى الرغم من أهدافه الطموحة، يواجه قانون الهجرة تحديات سياسية ومؤسسية ومفاهيمية. ومن الناحية السياسية، هناك مقاومة محتملة من الدول الأعضاء لتنفيذ الإطار بالكامل بسبب المخاوف بشأن الحفاظ على قطاعات التوظيف لمواطنيها. ومن الناحية المؤسسية، تفتقر اتفاقية إطار سياسة الهجرة إلى آلية لمراقبة الالتزام بها؛ ما يجعلها غير ملزمة ويصعب تنفيذها.ولمواصلة تعزيز إدارة هجرة اليد العاملة، قدم الاتحاد الأفريقي البرنامج المشترك لهجرة اليد العاملة في عام 2015. وبدعم من المنظمات الدولية، مثل المنظمة الدولية للهجرة، ومنظمة العمل الدولية، ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا؛ يهدف البرنامج إلى الاعتراف بالهجرة أداةً تحويليةً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في أفريقيا، وهو يدعم ممارسات التوظيف العادل، وقابلية نقل الضمان الاجتماعي، وقابلية نقل المهارات، بما يتماشى مع أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. بالإضافة إلى ذلك، اعتمد الاتحاد الأفريقي بروتوكول حرية حركة الأشخاص في عام 2018 لتعزيز حرية حركة السلع ورؤوس الأموال والخدمات والأشخاص داخل القارة. وتسعى خطة التجارة الحرة – وهي جزء من أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 – إلى تحويل أفريقيا إلى مجتمع بلا حدود مع زيادة التجارة والاستثمار، وتعزيز موقف أفريقيا التفاوضي في التجارة الدولية.وتسهم المجموعات الاقتصادية الإقليمية أيضاً بدور محوري في إدارة الهجرة. على سبيل المثال، قامت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بتطوير بروتوكول بشأن حرية حركة الأشخاص والإقامة والاستقرار في عام 1979. ويسمح هذا البروتوكول، الذي تم تنفيذه على مراحل، بالدخول بدون تأشيرة لمواطني الدول الأعضاء لمدة تصل إلى 90 يوماً. ومع ذلك، فإن التحديات – مثل المضايقات على الحدود، ونقص وثائق السفر – تعيق تنفيذها الكامل. وعلى الرغم من التقدم، لا تزال هناك عقبات كبيرة أمام تحقيق أهداف سياسة الهجرة للاتحاد الأفريقي. ويتعين على الاتحاد الأفريقي أن يعمل على تعزيز الآليات المؤسسية لضمان امتثال الدول الأعضاء ومعالجة قضايا مثل كراهية الأجانب وانتهاكات حقوق الإنسان ضد المهاجرين. ومن خلال سياسة الهجرة الشاملة المُنفَّذة جيداً، يمكن لأفريقيا الاستفادة من فوائد الهجرة لتحقيق قدر أكبر من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتكامل الإقليمي.&nbsp;حرية الحركة &nbsp;لا تزال الحدود المقيدة التي رسمها الاستعمار في مؤتمر برلين عام 1884 تحدد أين يمكن للأفارقة أن يتحركوا، ولكن لكي تزدهر منطقة التجارة الحرة في أفريقيا، لا بد من إعادة تصور هذه الحواجز التاريخية. إن منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية – وهي مشروع طموح يهدف إلى تعزيز التجارة البينية الأفريقية – تواجه خطر الفشل دون احتضان حرية الحركة بشكل كامل. وعليه فإن خطة حرية الحركة ليست مجرد إضافة، ولكنها ركيزة أساسية لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية. ويساهم عدم القدرة على التحرك بحرية داخل أفريقيا بشكل كبير في هجرة الأدمغة في القارة؛ حيث تمول أفريقيا تعليم المهنيين، مثل الأطباء والمهندسين ومبرمجي الحاسوب الذين يهاجرون بعد ذلك إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية. على سبيل المثال، ينحدر واحد من كل عشرة أطباء يعملون في المملكة المتحدة من بلدان أفريقية استثمرت بشكل كبير في تدريبهم. ومنذ عام 2010، أنفقت 9 دول أفريقية أكثر من ملياري دولار لتدريب الأطباء الذين هاجروا لاحقاً.أفريقيا بلا حدود بعد مرور ست سنوات على طرح جواز السفر الأفريقي، لا يزال تداوله محدوداً للغاية، ولا يزال حاملو جواز السفر – ومن بينهم رجل الصناعة النيجيري الأبرز أليكو دانجوتي، الذي لديه مصالح تجارية في جميع أنحاء القارة – يواجهون متطلبات التأشيرة في بعض البلدان. ولكي تصبح "أفريقيا بلا حدود" حقيقةً واقعةً، يتعين على البلدان أن تتبنى سياسات التكامل الإقليمي، وأن تتصدى للتحديات الأمنية. ويعد تشجيع روح المبادرة وتعزيز الوحدة والتعاون خطوات أساسية في هذه العملية، كما أنه من خلال إعادة تصور الحدود بصفتها جسوراً وليست حواجز، تستطيع الدول الأفريقية أن تمهد الطريق لمستقبل يتسم بالتقدم المشترك والمنفعة المتبادلة.وفقاً لتقرير التأشيرة المفتوحة لعام 2018، تتمتع البلدان التي تفتح حدودها بفوائد عديدة في مجالات تتراوح من السياحة والاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي. وبالفعل شهدت 18 دولة من أصل 20 دولة أفريقية مفتوحة للتأشيرات تحسينات في تصنيفاتها على مؤشر سهولة ممارسة الأعمال التابع للبنك الدولي، وشهدت جميع البلدان العشرين أيضاً نمواً في السفر والسياحة والناتج المحلي الإجمالي والاستثمارات. وعلى وجه التحديد، أدى قرار رواندا رفع قيود السفر إلى مضاعفة أعداد الزوار وزيادة ملحوظة في سياحة المؤتمرات. ويكاد يكون من الأمور المتفق عليها أن التكامل و"أفريقيا بلا حدود" أمران ضروريان للقارة لتحقيق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية والتنموية.وختاماً، فإن رؤية "أفريقيا بلا حدود" ليست مجرد حلم، بل هي طريق قابل للحياة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة. ومع استمرار رواد الأعمال المهاجرين في دفع النمو في جميع أنحاء القارة، أصبحت إمكانية إنشاء أفريقيا موحدة ومزدهرة في متناول اليد على نحو متزايد. لقد حان الوقت لكي تتغلب أفريقيا على انقساماتها، وتعمل معاً من أجل مستقبل أكثر إشراقاً وازدهاراً للجميع. ولتحقيق ذلك، يتعين على الزعماء الأفارقة أن يُظهِروا الإرادة السياسية من خلال التعجيل بالتصديق على القوانين المطلوبة، ودفع أجندة التكامل بكل عزيمة وصدق. لقد حان الوقت لكي تعكس أفريقيا مسار هجرة الأدمغة، وتفوز في نهاية المطاف من خلال احتضان أبنائها العائدين، وتحقيق حلم قارة متكاملة حقاً.

هل تنجح دول أفريقيا في رفع قيود الحركة البينية؟