لا تكاد تمر فترة قصيرة في عالم اليوم دون وقوع أحداث مفاجئة تؤثر على الدول والمجتمعات على السواء، إذ تتلاحق الاضطرابات والأزمات بوتيرة متسارعة لم يعهدها العالم من قبل. فخلال فترة قصيرة شهد العالم تتابعاً لأحداث، مثل: تفجر الصراعات العسكرية الإقليمية، والاضطرابات الداخلية، وتفشي الأوبئة واسعة الانتشار. كما أصبحت التقلبات الاقتصادية الحادة، والأزمات البيئية المتفاقمة، جزءاً أصيلاً من المشهد العالمي. وقد بات واضحاً أن هذه الأحداث لم تعد مجرد أحداث استثنائية (Exceptional Events)، بل أضحت القوة الدافعة التي تُعيد تشكيل معالم العالم من حولنا. هذا الواقع الجديد يتطلب من صانعي القرار تجاوز النظرة التقليدية للأزمات كعقبات مؤقتة، والتعامل معها كفرص لتحولات جذرية وملموسة.

الأزمات كقوة دافعة

لطالما كانت الأزمات نقطة تحول رئيسية في التاريخ، حيث لم تقتصر تأثيراتها على خلق تحديات معقدة، بل تجاوزت ذلك لفتح آفاق جديدة للتغيير، وتأسيس قواعد جديدة للنظام الدولي. في الواقع، لعبت الأزمات دوراً محورياً في إعادة تشكيل التوازنات، وإيجاد حلول مبتكرة، وتطوير السياسات العامة. على مر الزمن، دفعت الأزمات الدول والمجتمعات إلى اتخاذ إجراءات تصحيحية أثمرت عن تغيير جذري في مسار التاريخ.

وتُعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 (Cuban Missile Crisis) أحد أبرز الأمثلة التي أظهرت كيف يمكن للأزمات الحادة أن تدفع بالقوى العظمى نحو التعاون وتطوير آليات جديدة لتجنب المواجهات المباشرة. أثناء هذه الأزمة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على وشك الدخول في مواجهة نووية؛ حيث أظهرت الأزمة خطورة التصعيد العسكري على الأمن العالمي. ورداً على ذلك، اتفق الجانبان على تأسيس "الخط الساخن" (Hotline System) بين موسكو وواشنطن، وهو نظام اتصال مباشر يهدف إلى توفير وسيلة للتواصل السريع في حالة الأزمات، وبالتالي تقليل احتمالية سوء التقدير والتصعيد غير المقصود.

فعلى سبيل المثال، شهد العالم بعد الحربين العالميتين تغيرات جذرية في النظام الدولي، حيث قادت الكوارث التي عانت منها البشرية إلى إنشاء مؤسسات تهدف إلى تعزيز السلام والتعاون العالمي. جاءت الحرب العالمية الأولى بآثارها المدمرة، بضرورة إيجاد آلية دولية لمنع النزاعات المستقبلية. وهكذا، تأسست عصبة الأمم، التي كانت أول منظمة دولية تسعى للحفاظ على السلام وحل النزاعات. وعلى الرغم من أن العصبة لم تنجح في مهمتها ومنع الحرب العالمية الثانية؛ إلا أنها مهدت الطريق لإنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

لعبت الأمم المتحدة على مدار فترة طويلة دوراً رئيسياً في تنسيق الجهود الدولية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، ووضعت معايير جديدة للعمل الدبلوماسي وحماية حقوق الإنسان. كما ساعدت الحروب العالمية على تطوير القانون الدولي، وتحديد القواعد التي تحكم سلوك الدول في حالة النزاعات، مثل اتفاقيات جنيف. وبالتالي، يمكن القول إن الحروب العالمية شكلت قاعدة لتطوير النظام العالمي الحديث، وأدت إلى إرساء ضوابط جديدة للتحكم في العلاقات الدولية.

كما دفعت أزمة الصواريخ الكوبية إلى زيادة وعي القوى العظمى بضرورة وضع ضوابط وتفاهمات مشتركة لتجنب سيناريوهات الصدام. لاحقاً، أفضت هذه التجربة إلى توقيع معاهدات الحد من الأسلحة النووية، بما في ذلك معاهدة حظر التجارب النووية واتفاقيات "الحد من الأسلحة الاستراتيجية" (START)، وقد ساهمت هذه المعاهدات في تقليل المخاطر النووية، وجعلت من الأزمات فرصة لإرساء معايير جديدة للأمن الدولي، مؤكدةً أن التصعيد ليس الحل الوحيد للمواجهة، بل قد تكون الأزمات فرصة لفرض توازنات جديدة.

وتشكل الأزمات الاقتصادية نماذج بارزة أخرى عن كيفية تحول الأزمات إلى فرص لإعادة هيكلة النظام الدولي. بعد الكساد الكبير عام 1929 (Great Depression)، الذي سبب انهياراً اقتصادياً واسع النطاق وتفاقم البطالة والفقر حول العالم، أدركت الدول حاجتها إلى نظام اقتصادي عالمي قادر على تحقيق استقرار مالي طويل الأمد. وهكذا، تم تأسيس نظام بريتون وودز (Bretton Woods System) عام 1944، وهو النظام الذي قاد إلى إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وقد ساعد هذا النظام على استقرار الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية من خلال تقديم الدعم المالي للدول المحتاجة، ووضع إطار للتعاون الاقتصادي العالمي. علاوة على ذلك، وضعت هذه المؤسسات قواعد جديدة للتجارة والاستثمار، وحافظت على استقرار العملات. ويمكن القول إن "الكساد الكبير" لم يكن فقط أزمة اقتصادية، بل كان عاملاً محفزاً لإعادة هيكلة الاقتصاد العالمي، وإيجاد أدوات دولية تضمن الاستقرار المالي وتحمي الدول من الوقوع في أزمات مماثلة.

الأزمة المالية العالمية في عام 2008 (Global Financial Crisis) تُعد مثالاً آخر على كيفية استثمار الأزمة لتطوير النظم المالية والمصرفية. لقد أثرت هذه الأزمة على الأسواق المالية العالمية، وهددت بانهيار المؤسسات المالية الكبرى، مما دفع الحكومات والبنوك المركزية إلى التدخل عبر حزم إنقاذ ضخمة وإصلاحات جذرية في السياسات المالية. أدى ذلك إلى زيادة الرقابة المالية وإقرار قيود مشددة على المشتقات المالية (Financial Derivatives)، وتقليل المخاطر المرتبطة بالتعاملات المالية. كما برزت الحاجة إلى إعادة تقييم الأنظمة المالية لتعزيز الاستدامة وتقليل التأثر بالأزمات المستقبلية، مما يجعل من أزمة 2008 درساً محورياً في كيفية الاستفادة من الأزمة لإعادة تشكيل السياسات المالية.

إن الأزمات الصحية الكبرى تقدم أيضاً أمثلة بارزة على استثمار الأزمات لتطوير السياسات والنظم. وقد كشفت جائحة كورونا التي بدأت في نهاية عام 2019، عن حاجة الدول إلى التعاون الدولي في مواجهة التحديات الصحية العابرة للحدود. كان لهذه الأزمة أثر مباشر على تطوير أنظمة الرعاية الصحية، حيث دفعت الدول للاستثمار بشكل أكبر في البحوث الطبية، والبنية التحتية الصحية، وتعزيز القدرات الاستيعابية للمستشفيات.

كما ساهمت الأزمة في تحفيز الابتكار التقني، حيث اعتمدت الدول والشركات تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لتحسين تتبع انتشار الفيروس. على صعيد آخر، أفرزت الجائحة موجة من الابتكارات في مجالات العمل والتعليم عن بُعد، مما أدى إلى تغيير هيكلي في العديد من القطاعات. وهكذا، يمكن القول إن جائحة كورونا ليست مجرد أزمة صحية، بل هي محفز لتطوير قدرات الدول على التعامل مع الأزمات الصحية المستقبلية، وبناء نظم صحية أكثر تكاملاً ومرونة.

وتشكل الأزمات البيئية مثل التغير المناخي مثالاً على كيف يمكن للأزمات أن تكون دعوة للتغيير طويل الأمد. لقد تسببت الكوارث البيئية المتزايدة في دفع الدول والشعوب إلى تبني سياسات بيئية أكثر استدامة، مثل: تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والانتقال إلى الطاقة المتجددة. ومن أبرز الاتفاقيات التي ولدت من رحم الأزمات البيئية، اتفاقية باريس للمناخ التي وضعت هدفاً عالمياً للحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية، وتقليل الانبعاثات الضارة.

الجانب الآخر لهذه الاستراتيجية يتمثل فيما ذكرته ناومي كلاين في كتابها "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" (The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism) حول استغلال الأزمات من قبل أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية لتمرير سياسات غير شعبية تحت ستار الإصلاح أو الطوارئ. تعتمد هذه الرؤية على فكرة أن بعض الجهات تستفيد من حالة الصدمة العامة لفرض تغييرات هيكلية تسهم في زيادة هيمنتها.

وتُعد "رأسمالية الكوارث" نموذجاً معاكساً لمفهوم فرص الأزمات التقليدي، حيث يتم استغلال الأزمات لأغراض لا تخدم المجتمع ككل، بل تكون لصالح فئات محدودة. ومع ذلك، يكشف هذا المفهوم عن كيفية تحويل الأزمات إلى أدوات للتغيير الاقتصادي والسياسي، وإن كان بطريقة مثيرة للجدل.

وبناءً على ما سبق إجمالاً، فإن الأزمات لا تُشكل تهديدات فقط، بل تمثل نوافذ لتغيير النظام العالمي. إن إعادة النظر في صنع القرار تحت ضغوط الأزمات المتداخلة تفتح المجال لتطوير آليات جديدة تمكن الدول والمجتمعات من التكيف مع هذا الواقع المتغير، والاستفادة من الأزمات لتحقيق مكاسب استراتيجية تساعد في بناء مستقبل أكثر استقراراً ومرونة.

الوضع العادي الجديد

تُعد إدارة الأزمات وإدارة المخاطر من الأساليب التقليدية التي تهدف إلى التعامل مع الأزمات والحد من آثارها السلبية. تطورت هذه المجالات لتشمل أدوات واستراتيجيات تعتمد على التنبؤ بالأزمات والتحضير لها، بدلاً من التعامل معها عند حدوثها فقط. يرتكز علم إدارة الأزمات على ثلاث مراحل رئيسية: الاستعداد (Preparation)، والاستجابة (Response)، والتعافي (Recovery).

عالم اليوم لم يعد يكفيه مجرد إدارة الأزمة بهذا المنظور التقليدي، ومن هنا جاءت فكرة تحويل الأزمات إلى فرص (Opportunity within Crises)، وهو ليس مجرد شعار بل استراتيجية قابلة للتنفيذ على مستوى الأفراد، والمؤسسات، وحتى الدول، لإعادة بناء نظمهم وفق أسس جديدة أكثر مرونة وقوة. حيث أصبحت الأزمات المتداخلة (Interconnected Crises) بيئة للتفاعل للدول والمجتمعات وإدارة الأعمال، وهو ما يستدعي نهجاً جديداً في التعامل مع المواقف المعقدة. وبمعنى آخر، لم تعد الأزمات تُعتبر مجرد حالات طارئة أو معوقات عابرة، بل تطورت لتصبح محركاً رئيسياً للتغير والتطوير.

ومن هذا المنطلق يمكن تبني منظور "العقبة هي الطريق" عبر اعتبار التحديات والعقبات ليست مجرد عوائق يجب التخلص منها، بل هي جزء من تجربة الحياة وجزء من مسار النمو الشخصي والاجتماعي. وقد استوحى الكاتب رايان هوليداي هذا المفهوم في كتابه الشهير "The Obstacle is the Way" ليجسد فلسفة تحويل العوائق إلى فرص للتعلم والتطوير. وتعتمد هذه الرؤية على فكرة أساسية تتمثل في أن الأزمات والصعوبات تدفع الفرد أو المجتمع إلى التفكير الإبداعي، والبحث عن حلول غير تقليدية، مما يؤدي إلى تحقيق تقدم.

هذا المنظور له تطبيقات عديدة في الإدارة وصنع القرار؛ فبدلاً من تجنب الأزمات أو الهروب منها، يتبنى هذا النهج التعامل معها على أنها أدوات للتغيير. وقد أظهرت الأبحاث أن الشركات والأفراد الذين يعتمدون هذا المنهج يتمتعون بقدرة أكبر على التكيف مع التغيرات والتحديات، ويحققون نتائج أكثر استدامة.

ويرتبط ما سبق بمفهوم سبق تناوله مراراً وهو "البجعة السوداء" الذي طرحه نسيم طالب في كتابه "The Black Swan"، ويقصد به الأحداث غير المتوقعة التي لها تأثيرات ضخمة، ولكنها تبدو مع مرور الزمن وكأنها كانت متوقعة أو لا مفر منها. ويتناول هذا المفهوم نقطة مهمة وهي أن النظام العالمي مليء بالعناصر التي قد تؤدي إلى أحداث غير متوقعة، مثل الأزمات المالية أو الجوائح.

وقد تحول هذا المفهوم إلى ما يسمى "الوضع العادي الجديد" (The New Normal) الذي يجب على الجميع التأقلم معه؛ حيث أصبحت الأزمات جزءاً طبيعياً من حياة الشعوب والدول، ولم يعد بالإمكان افتراض الاستقرار الدائم. ويعني هذا المفهوم ضرورة إعادة النظر في استراتيجيات الاستجابة للأزمات بحيث تتضمن المرونة والقدرة على التكيف مع أي متغيرات جديدة. يعتبر "الوضع العادي الجديد" فرصة لإعادة النظر في الهيكليات التنظيمية وأساليب صنع القرار، ويمثل نموذجاً جيداً لفهم "فرص الأزمات" كعنصر أساسي في النظام العالمي الحديث.

إن النظر إلى الأزمات باعتبارها نوافذ للفرص (Windows of Opportunity) ينطوي على النظر إليها كفترة زمنية تتاح فيها إمكانيات لتحقيق تغيير كبير في الأنظمة أو السياسات، حيث تخلق الأزمات هذه النوافذ عبر كسر الجمود التقليدي للأنظمة القائمة، ما يسمح بإدخال إصلاحات وتغييرات جذرية.

ويتصل ما سبق بمفهوم "المرونة" (Resilience) الذي يشير إلى القدرة على التكيف والتأقلم مع التحديات والصمود أمام الظروف الصعبة. بالنسبة للمنظمات، تعني المرونة المؤسسية القدرة على استيعاب التغيرات وإعادة توجيه الموارد والتكيف مع المتغيرات المفاجئة. تُظهر الأبحاث أن المؤسسات المرنة تتعافى بشكل أسرع من الأزمات، وتستطيع استعادة نشاطها بأقل قدر من الخسائر. من ناحية أخرى، تشير "المرونة النفسية" إلى القدرة على استيعاب الصدمات والضغوط النفسية والتكيف معها دون انهيار. تساهم هذه المرونة في تعزيز القدرات الإدارية، حيث يصبح الأفراد أكثر قدرة على اتخاذ قرارات سليمة في بيئة مليئة بالضغوط والتحديات.

ويُعتبر التكيف الاستراتيجي (Strategic Adaptation) من أهم المفاهيم التي تعزز فرص استثمار الأزمات. ويعني هذا المفهوم قدرة الدول والمؤسسات على تعديل استراتيجياتها وسياساتها بما يتناسب مع الواقع الجديد الذي تفرضه الأزمات. يعتمد التكيف الاستراتيجي على رصد المتغيرات السريعة، والقدرة على اتخاذ قرارات مبنية على تقييم شامل للوضع الراهن والمستقبلي.

تكتمل دائرة الاستغلال الأمثل للأزمات كفرص للتطوير بتطوير "ذاكرة الأزمات" (Crisis Memory)، فالمؤسسات والدول التي تمر بتجارب أزمات سابقة تصبح أكثر قدرة على التعامل مع الأزمات الجديدة. ويتعزز ذلك عبر استثمار التجارب السابقة وتخزينها كدروس مستفادة تُرشد استجابات المؤسسات في المستقبل. تساعد ذاكرة الأزمات في تعزيز القدرات الوقائية والاحترازية، وتقليل الارتباك الذي قد يحدث عند وقوع أزمات مفاجئة.

نحو استراتيجية بديلة

إن الرؤية الجديدة للأزمات والتحولات الطارئة والضغوط تتأسس على اعتبارها حتميات ينبغي التكيف معها، بل واستغلالها واقتناص الفرص التي تنشأ في إطارها. موقف الأزمة في حد ذاته -وفقاً لهذا الاتجاه– في جانب كبير منه هو رؤية إدراكية وحالة شعورية تهيمن على صانع القرار تتكون من الشعور بفقدان السيطرة والعجز والارتباك أمام التطورات المتسارعة، إذا تم تجاوز هذه الحالة والتعامل مع الموقف بعقلية باردة فإن كثيراً من المواقف التي يُطلق عليها أزمات قد لا تكون بهذه الكيفية. وفي هذا الصدد فإن الاستراتيجية البديلة للتعامل مع الأزمات تتضمن عدة مبادئ رئيسية:

1- إعادة تعريف الأزمات كفرص للتحول: تبدأ الاستراتيجية بالنظر إلى الأزمات كمحفزات تكشف عن إمكانات جديدة بدلاً من النظر إليها كحواجز جامدة، بل كمراحل ضرورية للتعلم والتطور. فعلى سبيل المثال، قد تؤدي أزمة صحية أو اقتصادية إلى تبني تقنيات جديدة، أو تغيير نماذج العمل التقليدية. في بيئة الأزمات، تعد الأخطاء واردة وتُعد جزءاً من التجربة. ولذلك فإن كل تحدٍ أو خطأ يُمكن أن يُشكل درساً قيماً لصنع القرار في المستقبل، ويتم بناء ذاكرة مؤسسية للأزمات الماضية لتجنب تكرار الأخطاء نفسها مستقبلاً.

2- التركيز على العوامل القابلة للتحكم: من المهم التركيز على العوامل والعناصر القابلة للتحكم، حيث إن محاولة السيطرة على كل شيء هو استنزاف للطاقة والموارد. هذا المبدأ يُساعد صانعي القرار على التعامل بشكل فعّال مع الأزمات، خصوصاً عندما تكون العوامل غير المتوقعة جزءاً منها. فعند مواجهة أزمة، يركز القادة على كيفية استغلال الموارد المتاحة بأفضل شكل بدلاً من الانشغال بما لا يمكنهم تغييره. على سبيل المثال، بدلاً من محاولة التأثير في القوى الخارجية التي تُشكل الأزمة، يُمكن التركيز على تعزيز مرونة النظام الداخلي للمؤسسة أو الدولة، كما ينبغي تحديد الأولويات بناء على ما يمكن تنفيذه فوراً، وتوجيه الجهود نحو الحلول الأكثر واقعية.

3- تعزيز المرونة والتكيف: خلال الأزمات تعد المرونة والقدرة على التكيف ثوابت راسخة لدعم صانع القرار وقدرته على التفاعل مع المواقف الضاغطة، حيث يتم اعتماد سياسات مرنة قابلة للتعديل حسب الظروف. على سبيل المثال، قد يحتاج صانعو القرار إلى إعادة تصميم سلاسل التوريد أو تغيير نماذج العمل إذا كان التحدي يفرض قيوداً غير متوقعة. ومن خلال تطبيق مبدأ التكيف المستمر، يمكن للقادة تطوير آليات جديدة للاستجابة والتكيف مع الأزمات. هذا التكيف ليس لحظياً، بل هو مستدام، حيث يستمر حتى بعد الأزمة لتكوين منظومة جاهزة للتعامل مع الأزمات المستقبلية.

4- تبني التفكير الاستراتيجي طويل الأمد: من المهم التفكير في تأثيرات الأزمات على المدى البعيد، وتطوير استراتيجيات تستوعب التغيرات المستقبلية. فالأزمات التي تبرز التحديات الصحية أو البيئية، على سبيل المثال، قد تكون دافعاً لتبني سياسات استدامة أوسع أو تغيير سياسات الإنتاج لتكون صديقة للبيئة. ومع تزايد تداخل الأزمات، يجب قبول أن الوضع العادي الجديد (The New Normal) سيستمر في التغير، وبالتالي فإن تطوير استراتيجيات طويلة الأمد تتماشى مع هذا الواقع المتغير هو السبيل لضمان الاستمرارية.

5- الاستثمار في الإبداع والابتكار: يقع ضمن أولويات الاستعداد الوقائي للتعامل مع الأزمات خلق بيئات تدعم الابتكار عبر تشجيع اقتراح أفكار وحلول غير تقليدية للتعامل مع الأزمات. في فترة جائحة كورونا، على سبيل المثال، لجأت العديد من المؤسسات إلى تطوير طرق جديدة للعمل عن بُعد، أو إعادة تصميم منتجاتها لتلائم متطلبات السوق المتغيرة. وعلى مستوى موازٍ فإن التكنولوجيا تُعد من أقوى أدوات مواجهة الأزمات. من خلال اعتماد تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي، يمكن للقادة اتخاذ قرارات مدروسة والتنبؤ بمسارات الأزمات المحتملة.

6- بناء ثقافة التعلم من الأزمات: إن تتابع المواقف الضاغطة والاستثنائية يفرض تطوير ثقافة مؤسسية تهدف إلى استخلاص الدروس من كل أزمة، وتأسيس ذاكرة مؤسسية للأزمات (Crises Memory) من خلال توثيق الأزمات التي مرت بها المؤسسات وتسجيل الدروس المستفادة، بحيث يمكن الرجوع إليها مستقبلاً. هذه الذاكرة المؤسسية تُعزز من القدرة على التعامل مع الأزمات المستقبلية، وتضمن عدم تكرار الأخطاء. ويتصل ذلك بتطوير برامج تدريبية تستند إلى التجارب السابقة تساعد القادة والموظفين في تطوير مهاراتهم والاستعداد لمواجهة تحديات مشابهة في المستقبل.

7- اعتبار الأزمات محفزاً للتغيير الهيكلي: في بعض الأحيان، تكون الأزمات الفرصة الوحيدة لتغيير الأنظمة البالية وإعادة تشكيل الهياكل القائمة. إذ توفر الأزمات فرصة للمؤسسات لإعادة تقييم هياكلها التنظيمية، ويمكن أن تؤدي الأزمات إلى تسريع عمليات إعادة الهيكلة التي ربما كانت مؤجلة في ظروف العمل العادية. وبالنسبة للحكومات، يمكن للأزمات أن تكون محفزاً لإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية. فقد استغلت بعض الدول الأزمات الاقتصادية لتحفيز التحولات في نظام الدعم الحكومي، أو تعزيز قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا المتقدمة.

ختاماً، في عالم يتسم بتعقيد متزايد وترابط متسارع بين الأزمات، لم تعد التحديات مجرد عوائق يجب تخطيها؛ بل باتت أدوات حيوية لتعزيز القدرات المؤسسية، واستنباط استراتيجيات جديدة أكثر مرونة وكفاءة. لقد أظهرت الأزمات الكبرى التي مر بها العالم أن لكل عقبة إمكانيات كامنة للتعلم والتحول، إذا ما قوبلت بفهم عميق واستجابة مدروسة. ومن خلال تبني منظور "العقبة هي الطريق"، يصبح التعامل مع الأزمات فرصةً لإعادة تقييم الهياكل التنظيمية، وتطوير منظومات صنع القرار، وتعزيز الابتكار في مواجهة الظروف الاستثنائية.

إن بناء المرونة المؤسسية وتعزيز القدرة على التكيف مع المتغيرات ليس خياراً، بل ضرورة استراتيجية تفرضها طبيعة البيئة العالمية الحالية. فالتعامل مع الأزمات المتداخلة يتطلب تبني استراتيجيات مرنة ترتكز على فهم معمق لتداخل العوامل المؤثرة، وتطوير سياسات استباقية تضمن جاهزية الدول والمؤسسات لمواجهة أي تحدٍ جديد. ويظهر بوضوح أن تكامل الجهود المحلية والدولية، وتوظيف التكنولوجيا والابتكار، هما من الأسس الراسخة لتحويل الأزمات إلى فرص تنموية. وبهذا، يتحول منظور الأزمات من كونه تحدياً محدوداً إلى كونه محوراً مركزياً لتطوير نماذج استجابة شاملة تعزز من استدامة ومرونة المؤسسات واستقرارها على المدى البعيد.

فهم جديد لصنع القرار في بيئة الأزمات المتداخلة