أ.د حمدي عبد الرحمن حسن

من المعروف أن روسيا كانت تُحقِّق أهدافها الاستراتيجية في أفريقيا وغيرها من مناطق العالم تحت ستار شركة فاجنر العسكرية الخاصة. كانت ثمَّة مساحة أمام الكرملين للتنصل من أفعال المرتزقة الروس في أفريقيا كما حدث في مالي؛ حيث إن الحجة دوماً هي أن شركة فاجنر لا تخضع للإشراف المباشر من قبل وزارة الدفاع الروسية. على أنه بعد مقتل مؤسس الجماعة يفجيني بريجوزين في أغسطس 2023، حدث تغير جوهري في النهج الروسي. لقد اتجهت السلطات الروسية إلى تجنيد العديد من المتطوعين للانضمام إلى "الفيلق الأفريقي" الذي سيحل محل مرتزقة شركة فاجنر العسكرية الخاصة في القارة الأفريقية. ومن المأمول أن يتألف الفيلق الجديد من 20 ألف شخص بحلول العام الحالي (2024) من القادمين الجدد والمرتزقة السابقين في شركة فاجنر. وطبقاً للمصادر الرسمية الروسية، سوف يخضع الفيلق الأفريقي، في هيكله التنظيمي، لإشراف وزارة الدفاع الروسية. وتمثل جمهورية أفريقيا الوسطى مركز القاعدة الإقليمية للوجود الروسي في أفريقيا، ولا سيما دول مثل بوركينا فاسو وليبيا ومالي والنيجر. وقد وصل بالفعل نحو 100 عسكري روسي إلى بوركينا فاسو؛ لضمان سلامة الرئيس إبراهيم تراوري.نهج جديدمن الواضح أن الدبلوماسي دينيس بافلوف الذي أصبح المنسق الجديد للمرتزقة الروس الذين عملوا من قبل تحت مظلة فاجنر، هو في الأصل ضابط استخبارات عمل سابقاً في البعثات الروسية لدى اليونسكو والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في باريس وجنيف وبروكسل. وقد تم الإعلان عن تأسيس الفيلق الأفريقي في ديسمبر 2023؛ أي عقب الجولة التي أجراها نائب وزير الدفاع يفكوروف إلى دول شمال وغرب أفريقيا. ولم يكن خافياً كذلك أن التحالف العسكري لدول الساحل (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) قد ظهر على الوجود في سبتمبر 2023 بعد التنسيق مع موسكو.ويهدف نشر وحدات الفيلق الأفريقي في الدول الأفريقية إلى تعزيز الوجود العسكري الروسي، من خلال شبكة من القواعد التي تسيطر عليها وزارة الدفاع. ومن المقرر بناء إحدى هذه القواعد في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ حيث يتمركز ألفا جندي روسي. ومن ثم فإن روسيا تحاول، دون مواربة، إحياء نفوذ حقبة الحرب الباردة في القارة، مستغلةً في ذلك التراجع الحاد في النفوذ الغربي، ولا سيما الفرنسي. ومن المؤكد أن هذا النهج الجديد سوف يسمح أيضاً للكرملين بتعزيز سيطرته على شبكة أعمال فاجنر في أفريقيا، بما في ذلك شركات التعدين المربحة.من غير المتصور عمل الفيلق الأفريقي في منطقة الساحل بدون ليبيا أو الجزائر؛ حيث إنهما تتمتعان بإمكانية الوصول إلى البحر، ولديهما مطارات انطلاق مهمة؛ ولذلك التقى يفكوروف قائدَ الجيش الوطني الليبي (المشير خليفة حفتر الذي يسيطر على شرق البلاد)، في بنغازي في أغسطس 2023، ومرة ثانية في نهاية سبتمبر 2023 في موسكو، التي زارها حفتر للمرة الأولى منذ 2016. ولا يخفى أن خبرة التعاون مع الاتحاد السوفييتي ثم مع روسيا في مجال الأمن، كانت لها تأثيرات إيجابية كبيرة على البلدان الأفريقية. وعليه فإن من غير المرجح التخلي عن هذا الميراث؛ حيث يوجد اعتقاد عام بأنه أمر مفيد لكلا الطرفين؛ لذا فإن الجهود المبذولة للحفاظ عليه مبررة.&nbsp;إن روسيا تعمل على تغيير وجودها العسكري المستتر في أفريقيا إلى قوة حقيقية لا تُخطئها العين؛ فبدلاً من وجود شركة عسكرية خاصة لها قواعدها الخاصة التي يصعب السيطرة عليها، يأتي الفيلق الأفريقي الذي يخضع لقواعد الضبط والربط بشكل واضح. إننا أمام وحدة خاصة تابعة لوزارة الدفاع، تعمل بشكل أساسي في غرب ووسط أفريقيا، ولكن يمكنها أيضاً تقديم المساعدة في مناطق أخرى.تداعيات ممتدةإن الانقلابات العسكرية التي شهدتها البلدان الأفريقية خلال السنوات القليلة الماضية، تثبت أن الأفارقة مستعدون لبناء علاقات في السياسة الخارجية حصرياً من موقع المساواة والتعاون. ولعل ذلك يبتعد بهم عن النهج الاستعماري الجديد الذي طبَّقته الدول الغربية في أفريقيا؛ ما أضعف مواقعها في المنطقة. ومن جهة أخرى، فإن تعزيز العلاقات بين روسيا والدول الأفريقية، يتناسب مع هدف موسكو العالمي المتمثل في تغيير النظام العالمي القائم؛ إذ إنه من خلال بناء التعاون المفيد لجميع الأطراف – كما هو الحال بالنسبة إلى الصين – يعمل الاتحاد الروسي على الترويج لفكرة عالم متعدد الأقطاب.ومن شأن "الفيلق الأفريقي" أن يعزز الوجود العسكري الروسي بشبكة من القواعد التي تسيطر عليها وزارة الدفاع، في محاولةٍ لإحياء نفوذ موسكو أثناء الحرب الباردة في القارة. وفي الوقت نفسه، فإن الانتقال إلى دور عسكري رسمي، من شأنه أن يدمر تصور عملية فاجنر، التي زودت الكرملين بإنكار معقول لتهم الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب في أفريقيا ضد مجموعة المرتزقة.يبدو التحول في النهج العسكري الروسي صغيراً، مع وصول نحو 100 جندي روسي إلى بوركينا فاسو لتوفير الأمن لإبراهيم تراوري، الذي استولى على السلطة في انقلاب عسكري عام 2022، لكن الكرملين لديه خطط طامحة: بناء مقر إقليمي في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ حيث شنت مجموعة فاجنر على مدى السنوات الست الماضية، حملة عنيفة نيابة عن الرئيس، وتسللت إلى جهاز الأمن القومي مقابل الماس والذهب. سوف يتم بناء قاعدة عسكرية؛ حيث تضاعف عدد القوات الروسية في جمهورية أفريقيا الوسطى ليصل إلى ما يقرب من 2000 جندي منذ سبتمبر 2023، وهي علامة على كيفية تكثيف التعاون الأمني مع روسيا.&nbsp;ويبدو أن الكراهية تجاه فرنسا والغرب كانت من بين الدوافع وراء الانقلابات العسكرية؛ لذلك ترى روسيا منطقة الساحل منطقةً جاهزةً لوضع موطئ قدم لها باستخدام الفيلق الأفريقي. وفي الوقت نفسه، أبدت دول الساحل، التي شهدت انقلابات في السنوات القليلة الماضية، إعجاباً كبيراً بموسكو. وقد التقى بوتين وأجرى محادثات مع الزعيم المؤقت لبوركينا فاسو إبراهيم تراوري خلال القمة الروسية الأفريقية في يوليو 2023، كما زار نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف ليبيا في أغسطس والنيجر في ديسمبر 2023 ، قبل أن يسافر إلى مالي. وفي 24 يناير 2024، التقى بوتين ومحمد إدريس ديبي القائد العسكري لتشاد الذي تولى السلطة في انقلاب ناعم عام 2021.وثمة مخاوف أمريكية من أن تتوصل روسيا إلى اتفاق بشأن وجود عسكري في النيجر؛ حيث تمتلك الولايات المتحدة قاعدة كبيرة للطائرات بدون طيار. لقد أسهمت روسيا بالفعل في دعم جهود دول الساحل في محاربة الحركات المتمردة والإرهابية؛ ففي نوفمبر 2023، استعاد جيش مالي، بمساعدة مقاتلين روس، السيطرة على مدينة كيدال الشمالية الاستراتيجية، التي كان المتمردون الانفصاليون يسيطرون عليها لأكثر من عقد من الزمان. و كما هو الحال في بلدان أخرى، يتم استبدال قوات الجيش النظامي مكانَ مقاولي فاجنر في مالي ببطء (وإن لم يكن بشكل كامل).وبجانب دورها الداعم للنظام الحاكم، من المتوقع أن تحافظ قوات الفيلق الأفريقي على نهج فاجنر نفسه في التركيز على استخراج المواد الخام لجذب العملة الصعبة لتمويل الحرب في أوكرانيا. قد يبدو الأمر كأن روسيا تغير جلدها في أفريقيا. لقد ابتعد الكرملين فجأةً عن فاجنر التي عمل الغرب جاهداً على احتوائها، وظهرت له مخالب جديدة على شكل الفيلق الأفريقي.وختاماً، فإن الفيلق الأفريقي (الوجه الآخر لمجموعة فاجنر) يمثل أداة محورية لروسيا لتأكيد نفوذها في القارة الأفريقية، لا سيما وسط استمرار عدم الاستقرار في منطقة الساحل، وتراجع دور المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). ومن خلال وضع نفسها حليفاً أمنياً في المنطقة، فإن روسيا لا تعالج المخاوف الأمنية المباشرة فحسب، بل تمهد الطريق أيضاً لتوسيع نفوذها عبر أفريقيا. ربما يكون التركيز المباشر على منطقة الساحل، لكن الطموحات البعيدة المدى للفيلق الأفريقي، تمتد بلا شك إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير؛ ما يشير إلى أنه لدى روسيا النية الاستراتيجية للقيام بدور مهم في تشكيل المشهد الجيوسياسي للقارة، في ظل بيئة دولية مضطربة.

دور "الفيلق الأفريقي" في تعزيز نفوذ روسيا بأفريقيا