نوار الصمد 

في خطوة تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية وإعادة أواصر الشراكة، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من 28 إلى 30 أكتوبر 2024 بزيارة رسمية إلى المغرب، هي الأولى له منذ 6 سنوات، وبعد 3 سنوات من التوترات المستمرة. وتأتي هذه الزيارة بعد دعم فرنسا لموقف المغرب في قضية الصحراء الغربية، مما فتح آفاقاࣧ جديدة للتعاون في مجالات متعددة. وشهدت الزيارة توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية، فضلاً عن التنسيق في قضايا الهجرة غير الشرعية والأمن الإقليمي.أبعاد الزيارةتحمل هذه الزيارة جملة من الأبعاد التي تتراوح بين التوجهات الاستراتيجية والمصالح الاقتصادية:1- استعادة الثقة الدبلوماسية بعد توترات سابقة: تشكل الزيارة محاولة لتجاوز التوترات التي برزت خلال السنوات الماضية، خاصة بعد اللغط الذي أُثير على خلفية اختراق أجهزة هواتف بعض السياسيين الفرنسيين ومن بينهم هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عبر برنامج Pegasus، وتقييد التأشيرات الفرنسية لمواطني شمال أفريقيا، هذا بالإضافة إلى دعم نواب المجموعة الأوروبية "Renew" التي كانت تحت رئاسة ستيفان سيجورنيه المقرب من ماكرون لقرارات في البرلمان الأوروبي كانت تنتقد ممارسات الحكومة المغربية.كما يسعى ماكرون عبر هذه الزيارة إلى طي صفحة الخلاف مع المغرب، خاصة بعد حادثة مخاطبته المباشرة للشعب المغربي مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي عقب زلزال مراكش في سبتمبر 2023، وهو ما اعتبرته الرباط تجاوزاࣧ للبروتوكول مما دفعها إلى رفض المساعدات الإنسانية المقدمة من فرنسا آنذاك.2- تأكيد دعم موقف المغرب في قضية الصحراء: تأتي هذه الزيارة بعد اعتراف فرنسا في 30 يوليو 2024، بمقترح المغرب للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، مما يمثل تحولاࣧ مهماࣧ في السياسة الفرنسية تجاه هذا النزاع؛ حيث أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون دعمه لمقترح الحكم الذاتي المغربي كأساس وحيد لحل عادل ودائم في قضية الصحراء الغربية، مشدداࣧ على سيادة المغرب في المنطقة.وعبر الملك المغربي محمد السادس في خطابه أمام البرلمان المغربي في 12 أكتوبر 2024 عن امتنانه لدعم فرنسا، وفهمها العميق للنزاع. وتعتبر وجهة النظر الفرنسية في هذه المسألة محورية نظراࣧ لوجودها التاريخي في الجزائر منذ 1830، أي قبل وصول إسبانيا إلى الصحراء الغربية في عام 1844. وعادت فرنسا وأكدت مجدداࣧ على السيادة المغربية على الصحراء الغربية في 29 أكتوبر 2024، حيث قامت بإزالة الخط المتقطع من خريطة المغرب المنشورة على موقع وزارة خارجيتها، وهو خط كان يوحي سابقاࣧ بأن الصحراء الغربية كيان منفصل عن المغرب، ولقد أتى هذا التعديل بعد ساعات من إعلان ماكرون أمام البرلمان المغربي اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.3- وضع إطار استراتيجي جديد للعلاقات الثنائية: اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنشاء "إطار استراتيجي جديد" بين فرنسا والمغرب وذلك أثناء خطابه أمام البرلمان المغربي في 29 أكتوبر 2024. ويهدف هذا الإطار إلى جعل المغرب الشريك الأول خارج الاتحاد الأوروبي الذي تلتزم معه فرنسا بشراكة وثيقة بهذا المستوى. ومن المتوقع توقيع وثيقة رسمية لهذا الإطار خلال زيارة مرتقبة للملك محمد السادس إلى باريس في عام 2025، بمناسبة الذكرى السبعين للإعلان المشترك الذي مهّد لاستقلال المغرب في العام 1956.4- تحول المغرب إلى بوابة مهمة للوصول إلى أسواق أفريقيا: كما يُنظر إلى المغرب من قبل باريس كأرضية محتملة لإعادة توطين سلاسل القيمة على أطراف أوروبا، خصوصاࣧ بعد أن فرضت أزمتا الكورونا والحرب في أوكرانيا إعادة التفكير في هذه المسألة فرنسياࣧ وأوروبياࣧ. ولقد نجح المغرب، وفق بعض القراءات الفرنسية، في تقديم نفسه كمنصة للتوسع الأوروبي نحو أفريقيا، وشكل أرضاࣧ مناسبة لترسيخ مفهوم "التوطين المشترك" colocalisation، مما عزّز موقعه كمركز استراتيجي. وترى أوساط فرنسية أن المغرب بات يمثل البوابة الأساسية للشركات الراغبة في الوصول إلى السوق الأفريقية.5- محاولة فرنسا الاستفادة من الحضور المغربي في الساحل الأفريقي: تعول باريس من خلال تعزيز العلاقات مع المغرب على مواجهة تراجع نفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاࣧ بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي وبوركينافاسو والنيجر، وظهور تحالف دول الساحل الذي يرفض التعاون مع فرنسا. فقد تشكل علاقات المغرب العميقة في منطقة جنوب الصحراء ركيزة لاسترجاع النفوذ الفرنسي أو على الأقل حماية ما تبقى من المصالح الفرنسية في تلك المنطقة. وربما توصل الطرفان إلى خلاصة مفادها أن مصالحهما الأمنية المشتركة تتطلب استمرار التقارب بينهما وتجاوز الأزمات.&nbsp;6- إعادة توجيه السياسة الفرنسية في منطقة المغرب العربي: بعد محاولات الرئيس ماكرون المتكررة للتقارب مع الجزائر والتي قوبلت بعدم تفاعل جدي، قررت باريس إعادة توجيه سياستها الدبلوماسية في منطقة المغرب العربي نحو المغرب، معتبرة أن ذلك سيكون الخيار الأجدى في ظل احتمال خسارة المغرب دون أي أمل لكسب الجزائر. ويروج المدافعون عن هذا التوجه داخل الإدارة الفرنسية بأن الصادرات الفرنسية إلى المغرب بلغت 6.7 مليارات يورو في العام 2023 متجاوزة تلك المسجلة مع الجزائر، كما أن الاستثمارات الفرنسية في المغرب بلغت حوالي 8.1 مليارات يورو في العام 2022، أي ثلاثة أضعاف الاستثمارات في الجزائر.مخرجات رئيسيةيمكن الإشارة إلى أهم النتائج التي أسفرت عنها الزيارة كالتالي:1- توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والنقل: ضمت الزيارة أكثر من 120 شخصية فرنسية مرافقة لماكرون من بينهم 9 وزراء (من بينهم وزراء الاقتصاد والخارجية والداخلية والدفاع والتعليم العالي)، بالإضافة إلى حوالي 40 من الرؤساء التنفيذيين للشركات الفرنسية الكبرى، من أبرزهم: باتريك بويانيه عن توتال إنرجيز TotalEnergies، ورودولف سعاده عن CMA CGM، وكاترين ماكغريغور عن إنجي Engie.وأسفرت الزيارة عن توقيع 22 اتفاقية بقيمة 10 مليارات يورو في مجالات الطاقة والاقتصاد والنقل، تضمن أهمها مشروعاࣧ كبيراࣧ لشركة Veolia لإنشاء محطة لتحلية مياه البحر تعد الأكبر في أفريقيا والثانية على مستوى العالم بالقرب من الرباط لتوفير المياه لنحو 9 ملايين نسمة بحلول عام 2028. وفي قطاع الطاقة المتجددة، أبرمت إنجي عقوداࣧ بقيمة 3.5 مليارات يورو لتطوير مشاريع مشتركة في مجالات الطاقة المتجددة وتخزينها. كما تم الاتفاق مع توتال إنرجيز لحجز الأراضي لمشروع لإنتاج الهيدروجين الأخضر بقيمة 2 مليار يورو، ومع EDF Renouvelables لإقامة المرحلة الثانية من حديقة الرياح في تازة، كما تم الاتفاق مع شركة Egis لإدارة مشروع خط القطار فائق السرعة المستقبلي بين القنيطرة ومراكش.2- دعم تنافسية الشركات الفرنسية داخل السوق المغربية: كما حظيت العديد من الشركات الفرنسية التي تنافس على عقود مستقبلية في المغرب بدعم الرئيس ماكرون كشركتي ألستوم وإيرباص، حيث تتنافس ألستوم على عقد بقيمة 1.5 مليار يورو لتزويد المكتب الوطني للسكك الحديدية المغربي بـ 168 قطاراࣧ مع شركات إسبانية وصينية. فيما تتنافس إيرباص مع بوينج الأمريكية لتزويد الخطوط الملكية المغربية بجزء من 188 طائرة جديدة بحلول 2037، كما تجري مفاوضات لبيع حوالي 18 مروحية كاراكال H225M للقوات المسلحة الملكية بقيمة مليار يورو. كما سعى الإليزيه لدعم نافال جروب في منافستها مع ثيسنكروب الألمانية على بيع غواصتين للمغرب. كما جرت محاولات فرنسية لإقناع المغرب بعدم استبدال الأقمار الصناعية محمد السادس "أ" ومحمد السادس "ب" الفرنسية.3- التوجه نحو حل أزمة التأشيرات: تركت أزمة التأشيرات أثراࣧ واضحاࣧ لدى الطبقة الوسطى المغربية التي تميل تقليدياࣧ إلى الفرانكفونية. وبالعودة إلى الأرقام فإنه يتبين أنه تم إعطاء 238 ألف تأشيرة في عام 2023 للمغاربة مقارنة بـ346 ألفاࣧ في عام 2019. ولقد شكل رفض التأشيرات إحباطاࣧ لدى أغلبية المرفوضين مما جعلهم يتحولون إلى دول أخرى. كما أظهرت دراسة أجراها المجلس الثقافي البريطاني في عام 2021 إلى أن 40% من الشباب المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاماࣧ يفضلون اللغة الإنجليزية مقابل 10% فقط يفضلون الفرنسية.وعلى خلفية معالجة مسألة التبرم من القيود على التأشيرات، دعا ماكرون أمام البرلمان المغربي إلى وضع أسس لتنقل طبيعي للأشخاص لتعزيز التعاون في مجالات البحث عن المشاريع وإنشاء الشركات، ما يتيح فرصاࣧ جديدة للمواهب. كما أوضح أنه تم اتخاذ مبادرات إيجابية في الأشهر الأخيرة لصالح الخريجين المغاربة الذين تابعوا دراساتهم في مؤسسات التعليم العالي الفرنسية حيث باتوا يحصلون الآن تلقائياࣧ على تأشيرات.4- تعزيز الجهود المشتركة لمكافحة الهجرة غير الشرعية: وضعت قضية مكافحة الهجرة غير الشرعية على رأس أولويات المواضيع التي تمت مناقشتها خلال زيارة ماكرون إلى المغرب، خصوصاࣧ أن الوفد الرسمي المرافق للرئيس الفرنسي ضم وزير الداخلية برونو ريتايو الذي يسعى إلى إعادة صياغة قوانين الهجرة في فرنسا لجعلها أكثر تشدداࣧ، ولا سيما بعد حادثة مقتل الشابة فيليبين في فرنسا في سبتمبر 2024 حيث كان المشتبه به مهاجراࣧ غير شرعي سبق له أن أُدين بالاغتصاب، ولم يتم تنفيذ أمر ترحيله إلى بلده الأم لعدم صدور تصريح مرور قنصلي باستعادته من هذا البلد، ما أدى إلى إطلاق سراحه.وتعتبر بعض التحليلات أن فرنسا عبرت للمغرب عن عدم الرضى عن مستوى تعاون المغرب في استعادة مواطنيه المطلوب مغادرتهم للأراضي الفرنسية. وفي هذا السياق، اعتبر ماكرون في 30 أكتوبر 2024، خلال زيارته للمغرب، أن فرنسا والمغرب قد أقامتا شراكة معززة لـمكافحة الهجرة غير الشرعية وجميع أشكال التهريب، مركزاࣧ على ضرورة تحقيق نتائج.5- توتر العلاقات الجزائرية-الفرنسية: أظهر تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في 5 أكتوبر 2024، برغبته في الحفاظ على "شعرة معاوية" في العلاقات مع فرنسا، مدى الهشاشة التي وصلت إليها العلاقة بين الدولتين. واعتبرت بعض الأوساط الجزائرية أن زيارة ماكرون إلى المغرب كفيلة بقطع آخر خيط يربط فرنسا بالجزائر بسبب دعم فرنسا للمغرب في قضية الصحراء الغربية. كما ذكرت صحيفة الوطن الجزائرية الناطقة بالفرنسية أن تغيير ماكرون لموقفه بشأن هذا الإقليم المتنازع يشكل استخفافاࣧ بالقانون الدولي ومدخلاࣧ للقطيعة بين فرنسا والجزائر.خلاصة القول، ساهمت هذه الزيارة في تعزيز مكانة المغرب كشريك استراتيجي لفرنسا مما يمهّد لتحقيق تكامل أعمق يخدم المصالح المشتركة للدولتين. وعلى الرغم من تناول هذه الزيارة مجموعة واسعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، بدءاࣧ من التعاون الاقتصادي والطاقة المتجددة، مروراࣧ بمكافحة الهجرة غير الشرعية، وصولاً إلى تعزيز الروابط الثقافية، فإن السؤال المحوري يبقى ما إذا كانت هذه الزيارة ستنجح في ترتيب هذه العلاقة على الأمد الطويل أم أن مفعولها سيكون قصير الأجل.

مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية بعد زيارة ماكرون