نوار الصمد 

جاءت زيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى الهند، التي استمرت يومين بدايةً من 25 يناير 2024، في سياق التعزيز المتواصل للشراكة الاستراتيجية بين الدولتين والمستمر منذ عام 1998. وتحفظ الهند لفرنسا وقوفها بجانبها في ثلاث محطات مفصلية: ففرنسا كانت الدولة الغربية الوحيدة التي لم تُدِنْ تجاربها النووية في عام 1998، كما أن فرنسا تدعم مطلب الهند بالحصول على معقد دائم في مجلس الأمن، بالإضافة إلى أن فرنسا قامت بخرق الحظر الذي فُرض على مبيعات الأسلحة للهند في عام 1965 عقب الحرب الهندية الباكستانية. وفي مقابل هذا الدعم الفرنسي، اعتمدت نيودلهي اعتماداً رئيسياً على شراء الأسلحة الفرنسية بحيث أصبحت فرنسا ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى الهند بعد روسيا، في حين أن الهند أصبحت أكبر مستورد للسلاح الفرنسي، بحسب قاعدة بيانات SIPRI لنقل الأسلحة. ومنذ مجيء ماكرون إلى سدة الرئاسة في فرنسا، تم تضمين هذه الشراكة الاستراتيجية بعداً إضافياً جديداً هو البعد الهندو–باسيفيكي.الدعوة الهنديةتستدعي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الهند عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1–تأكيد العلاقات الوثيقة بين الدولتين: تنظم الهند كل عام عرضاً عسكرياً ضخماً في 26 يناير بمناسبة اليوم الوطني أو "يوم الجمهورية" منذ عام 1953، احتفالاً بذكرى دخول الدستور الحالي حيز التنفيذ. وتقليدياً يحضر العرض ضيف شرف بجوار رئيس الوزراء الهندي. وعلى عكس كل الرؤساء الفرنسيين الآخرين منذ فاليري جيسكار ديستان، لم يشارك إيمانويل ماكرون من قبل في إحياء اليوم الوطني في الهند قبل عام 2024.وفي المجمل، شارك ستة رؤساء فرنسيون ضيوفَ شرف في اليوم الوطني الهندي، حتى أولئك الذين تم انتخابهم لولاية واحدة، مثل نيكولاي ساركوزي، وفرنسوا هولاند، في حين أن جاك شيراك شارك مرتين: مرةً رئيساً للوزراء في عام 1976، والثانية رئيس جمهورية في عام 1998. ويُعتبَر هذا العدد من الرؤساء الفرنسيين المشاركين في هذه المناسبة هو الأكبر بالنسبة إلى دولة أجنبية؛ ما يؤكد العلاقات الوثيقة التي تربط بين فرنسا والهند.2– تعويض غياب الرئيس الأمريكي عن اليوم الوطني: إذ إن هناك وجهة نظر ترى أن زيارة ماكرون إلى الهند جاءت لتعويض غياب الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ حيث قام رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بدعوته في سبتمبر 2023؛ وذلك على هامش قمة مجموعة العشرين G20 التي عُقدت في دلهي ليكون بجانبه في 26 يناير 2024 خلال احتفالات اليوم الوطني، لكن واشنطن اعتذرت لاحقاً عن عدم تلبية الدعوة في 12 ديسمبر؛ لأسباب تتعلق بجدول أعمال بايدن. وتشير بعض التحاليل إلى أن سبب الاعتذار الحقيقي يعود إلى شكوك وزارة العدل الأمريكية في ضلوع المخابرات الهندية في محاولة اغتيال معارض هندي يحمل الجنسية الأمريكية.3– التوظيف الانتخابي لحضور قيادات غربية للهند: مع غياب الرئيس "بايدن" عن احتفالات العيد الوطني، كان على مودي إيجاد بديل ليحل محل بايدن؛ حيث إن الظهور مع شخصية هامة على الصعيد الدولي يخدم مصالح رئيس الوزراء الهندي، وخصوصاً في بداية عام انتخابي في الهند يسعى فيه إلى الفوز بولاية ثالثة؛ وذلك من أجل التباهي أمام الناخبين الهنود بالمكانة الدولية المهمة التي وصلت إليها الهند خلال سنين حكمه؛ لذلك وقع الاختيار على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قبِل – حسب تقرير نُشر في جريدة لوموند Le Monde الفرنسية بتاريخ 24 يناير 2024 – بلَعِب دور البديل عن بايدن.4– استكمال مسار دبلوماسية القمة بين الهند وفرنسا: فيما تعتبر وجهة نظر أخرى، كالتي عبَّرت عنها مجلة لوبوان الفرنسية Le Point، في 25 يناير 2024، أن دعوة ماكرون إلى اليوم الوطني في الهند لم تكن مفاجئة، بل هي رد طبيعي على دعوة مودي إلى زيارة باريس في يوليو 2023 للمشاركة كضيف شرف في احتفال 14 يوليو السنوي في الشانزليزيه، الذي كان سعيداً جداً بالحفاوة التي تم استقباله بها.كما أن مودي ما زال يُقدِّر أيضاً دعوة ماكرون السابقة له إلى حضور اجتماع مجموعة السبع G7 التي عُقدت في مدينة بياريتز الفرنسية في عام 2019؛ لذلك لن يفوت أي فرصة لرد الجميل لماكرون، وقد أراد أن يُظهر له ذلك من خلال دعوته إلى المشاركة في اليوم الوطني؛ علماً بأن هذه الزيارة هي الثالثة لماكرون إلى الهند منذ أن أصبح رئيساً، كما تُظهر جدولةُ خمسة لقاءات بينه وبين مودي خلال هذه الزيارة التي امتدت لـ40 ساعة، مدى تقدير مودي لماكرون.أهداف باريستؤمِّن العلاقة مع الهند لفرنسا تحقيق عدة أهداف يمكن الإشارة إلى أبرزها بما يأتي:1– لعب دور قوة التوازن بين الشمال والجنوب: تتشابه الدولتان من حيث إنهما على الرغم من انتمائهما إلى تكتلات دولية راسخة، فإنهما تميلان إلى إظهار الاستقلال الاستراتيجي أثناء ممارسة سياساتهما الخارجية؛ فكما أن فرنسا عضو بارز في حلف الناتو ولكنها في الوقت نفسه تسعى إلى إقامة طريق ثالث بين المعسكرَين الشرقي والغربي، كذلك فإن الهند لاعب رئيسي في الجنوب العالمي، وعضو مؤسس في مجموعة البريكس، لكنها تسعى أيضاً إلى إقامة علاقات مميزة مع الولايات المتحدة، وتُطبِّق سياسة تعدد الانحيازات Multi Alignement على الصعيد الدولي.ولقد أدى هذا الأمر إلى حصول تقارب في السياسات الخارجية للدولتين، وميل نحو تبني توجهات مشتركة في العديد من المحطات، لا سيما خلال الحرب على العراق في 2003. وهذا التقارب الاستراتيجي دفع ماكرون، في عام 2018، إلى فتح الموانئ الفرنسية في المحيط الهندي، والقاعدة الفرنسية في جيبوتي، أمام البحرية الهندية. ويحرص ماكرون على توطيد هذا الرابط القوي الذي يجمعه مع الهند، خصوصاً في الفترة الحالية مع ما يتعرض له أمن الملاحة في مضيق باب المندب للخطر، وهو الممر الذي يربط بين الدولتين.2– الترويج لسياسة عقود التسليح الكبرى: يشكل إبرام عقود السلاح الكبرى قاعدة هيكلية لتطوير العلاقات الثنائية بين فرنسا والهند بحسب دراسة نُشرت على موقع Le Grand Continent الفرنسي بتاريخ 8 سبتمبر 2023. وتسعى باريس إلى استغلال متطلبات السوق الهندية فيما يتعلق بمسألة نقل التكنولوجيا، التي لا تتوافق مع الرغبات الأمريكية، عبر تعهُّدها بتعزيز هذه المسألة؛ الأمر الذي جعل صناعة الدفاع الفرنسية عاملاً رئيسياً في تحديث القوات المسلحة الهندية، كما أدى إلى أن تصبح فرنسا بين عامي 2018 و2023 ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى الهند، خلف روسيا وقبل الولايات المتحدة.ويأتي إعلان الهند في يوليو 2023 عن شراء 26 طيارة رافال بحرية تنطلق من حاملة الطائرات، وثلاث غواصات فرنسية، في سياق استمرار علاقة التعاون العسكري نفسها المرسومة بين الدولتين سابقاً. وتظهر دلائل الفهم الفرنسي للمتطلبات الهندية من خلال تسليم شركة نافال جروب Naval Group الفرنسية في عام 2017 الغواصة الأولى، من ضمن 6 غواصات كانت الهند قد طلبتها من فرنسا، بعد أن أنتجتها في الهند.وفي عام 2016، مثَّل طلب شراء 36 طائرة رافال (كان الطلب الأوَّلي أكثر من مائة طائرة وتم تخفيضه لاحقاً إلى 36) من شركة داسو Dassault، أكبر عقد في تاريخ صناعة الدفاع الفرنسية، بحسب دراسة نُشرت على موقع ديبلو ويب Diploweb الفرنسي بتاريخ 22 سبتمبر 2022، بقيمة شراء تبلغ 7.8 مليار يورو. وتم الاتفاق على إنفاق 4 مليارات يورو من قيمة هذا العقد في الهند، عبر إنشاء داسو وشركائها الفرنسيين، مشاريع إنتاج بعض أجزاء طائرات الرافال في مناطق بالهند، مثل ميهان وحيدر أباد، لتعزيز سياسة حكومة مودي الاقتصادية "صنع في الهند" (Make in India)، كما ذكرت شركة إيرباص Airbus الفرنسية، أثناء زيارة ماكرون الأخيرة، توصلها إلى اتفاق مع مجموعة تاتا الهندية لتركيب طائراتها المروحية H125 Écureuil في الهند.3– أهمية نيودلهي في استراتيجية الهندو–باسيفيك الفرنسية: أدركت فرنسا خطورة الصعود الصيني وتزايد تأثيراته على ساحل المحيط الهندي في وقت متأخر؛ وذلك مع بدء بناء الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي في عام 2016، وهو ما شكَّل مصدر قلق لفرنسا؛ لأنها قوة نافذة في المحيط الهندي، وتمتلك معظم منطقتها الاقتصادية الخالصة هناك. ووجدت فرنسا في مخاوف الهند، التي تشعر أيضاً بأنها محاصَرة بسبب الاستثمارات الصينية في باكستان وميانمار ونيبال وبنجلاديش، وسيلة لبناء مصلحة مشتركة معها بهدف محاصَرة التمدد الصيني؛ حيث اعتبر ماكرون، لأول مرة، في مايو 2018 أن الصين هي الخطر الذي يجب تجنبه في منطقة الهندو–باسيفيك. وفي عام 2021، أسفرت اتفاقية AUKUS – وهي اتفاقية ثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة – عن إلغاء عقد الغواصات الفرنسي الأسترالي. ومنذ ذلك الحين، فضَّلت الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الهندوباسيفيك الاعتماد في المقام الأول على الهند، التي أصبحت حجر الزاوية في سياستها الخارجية بتلك المنطقة.4– وسيلة للدعاية عن القوى الناعمة الفرنسية: تأتي الزيارة إلى الهند بالنسبة إلى ماكرون فرصةً لتسليط الضوء على نجاح دبلوماسي لا غبار حوله، في حين تتعرض سياسته في الداخل الفرنسي وفي أفريقيا والشرق الأوسط لانتقادات متكررة، كما أنها وسيلة لإرسال رسالة إلى الولايات المتحدة أن الأفكار الفرنسية القائمة على الاستقلال الاستراتيجي يمكن أن تجد شركاء مهمين على الساحة الدولية، وإقناع شركائها في الاتحاد الأوروبي أن العلاقات الجيدة مع واشنطن ليست مرادفةً للانحياز أو التبعية الكاملة لها.وعلى صعيد الدبلوماسية الثقافية، يحاول ماكرون جذب عدد أكبر من الطلاب الهنود إلى فرنسا البالغ عددهم حالياً 10 آلاف، وإيصال هذا العدد إلى 30 ألفاً بحلول عام 2030؛ حيث كان هذا العدد يقدر بـ6000 في عام 2019 . وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها البرامج الحكومية الفرنسية والقطاع الأكاديمي، بقي عدد الطلاب الهنود في الجامعات الفرنسية أقل بكثير من عددهم في ألمانيا المقدر بـ34 ألفاً في 2022. وتذكر صحيفة لوفيجارو الفرنسية Le Figaro في 25 يناير ضمن هذا السياق أن هدف باريس من هذه الزيارة هو تعميق الشراكة وتعزيز العلاقات مع المجتمع المدني الهندي.5– الاستفادة من نمو الاقتصاد الهندي: باستثناء المنتجات العسكرية، فإن الشركات الفرنسية تعتبر أقل رسوخاً في الهند من شركات دول أوروبية أخرى؛ حيث إنه بحسب الأرقام التي نشرها موقع إنديا بريفينج India Briefing في فبراير ومايو 2023، بلغ حجم التبادل التجاري بين ألمانيا والهند نحو 25 مليار دولار في عام 2022 ( و17 مليار دولار بالنسبة إلى هولندا). ويصل هذا الرقم بالنسبة إلى فرنسا إلى 12 مليار دولار، كما أن فرنسا تحتل المرتبة الـ11 بين المستثمرين الأجانب في الهند.وبحسب جريدة ليبراسيون Libération في 25 يناير 2024، فقد حضر نحو 15 من رواد الأعمال والرؤساء التنفيذيين للشركات الفرنسية الكبرى، مثل Dassault وEDF مع ماكرون في هذه الزيارة؛ من أجل الاستفادة من الآفاق الاقتصادية الهندية الجيدة، ومن نمو الاقتصاد الهندي الذي وصل إلى 7.2% في عام 2022.ومن المشاريع الاقتصادية التي يُسلَّط عليها الضوء كثيراً بين الدولتين، والتي ما زالت في طور التفاوض، مشروع بناء محطة للطاقة النووية تعمل بالماء المضغوط مع ستة مفاعلات في جايتابور بولاية ماهاراشترا الهندية من قِبل EDF الفرنسية. وإذا تم الانتهاء من هذا العقد، فإنه سيؤدي إلى إنشاء أكبر محطة للطاقة النووية في العالم بقدرة تقارب 10 ميجاوات، بحسب تقرير نُشر على موقع لا تريبون La Tribune الفرنسي في 23 أبريل 2021.خلاصة القول: يبدو أن فهم وتحقيق مصلحة فرنسا من خلال العلاقات الفرنسية–الهندية، في ظل رئاسة إيمانويل ماكرون، يمر عبر تغليب المنظور الجيوسياسي والمصالح الاقتصادية، وهو ما يمثل، في حد ذاته، تطبيقاً واضحاً للسياسة الواقعية Realpolitik؛ حيث يتم استبعاد التركيز على نشر القيم الديمقراطية واحترام حقوق الأقليات وحرية التعبير؛ وذلك على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي تُوجَّه من الداخل الفرنسي إلى السياسات المتبعة من قبل ناريندرا مودي والشراكة الاستراتيجية التي يُقيمها ماكرون معه.

لماذا يحرص "ماكرون" على تطوير الشراكة الاستراتيجية مع الهند؟