نوار الصمد 

تبنَّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً مواقف حازمة بشأن الصراع في أوكرانيا؛ الأمر الذي دفع جريدة لوموند إلى تشبيهه بالحمامة التي تحوَّلت إلى صقر. ولقد تحوَّل الخطاب الماكروني، في غضون سنتين من الصراع، من توخي الحذر نحو تبني إجراءات غير مسبوقة، كتلك التي ألمح إليها في مؤتمره الصحفي في 26 فبراير 2024؛ حيث ترك الباب مفتوحاً أمام إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا. وفي الخامس من مارس 2024 في براج، حث الحلفاء على إظهار الشجاعة لدعم أوكرانيا، متمايزاً عن الموقف الألماني. وتكررت تصريحات ماكرون القوية في 14 مارس 2024 أثناء مقابلة متلفزة اعتبر فيها أنه يجب منع روسيا من الانتصار، وأن انتصارها سيُغيِّر من حياة الشعب الفرنسي، كما أشار – في مقابلة مع جريدة Le Parisien، بعد عودته من قمة عُقِدت في برلين، تم نشرها في 16 مارس – إلى أن قوة فرنسا تتمثل في أنها قادرة على القيام بعمليات على الأراضي الأوكرانية من أجل مواجهة تقدُّم القوات الروسية.سياق محفزيمكن الإشارة إلى العوامل التي ساهمت في تبني الرئيس الفرنسي خطاباً تصعيدياً تجاه موسكو عبر النقاط التالية:1– ممارسة الغموض الاستراتيجي مع روسيا: استخدم "إيمانويل ماكرون" أسلوب "الغموض الاستراتيجي" لوصف استراتيجيته في أوكرانيا. وتجلى ذلك من خلال إجابته على سؤال الصحفي الذي سأله عن احتمال إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا في 26 فبراير 2024؛ حيث كان أمام الرئيس الفرنسي الاختيار بين ثلاثة خيارات: الجواب بـ"نعم" الذي كان من شأنه أن يُغيِّر من طبيعة الحرب على الفور، ويجعل فرنسا طرفاً فاعلاً في التصعيد، والجواب بـ"لا" الذي سيكون بمنزلة اعتراف بأن الأوروبيين يضعون حدوداً لأنفسهم في مواجهة الخصم الروسي، والخيار الثالث الذي اختاره ماكرون، والذي سبَّب له الكثير من الانتقادات بأنه "لا شيء مُستبعَد" فيما يتعلق بأوكرانيا؛ حيث أراد ماكرون وضع بوتين في حالة من عدم اليقين.2– المبادرة لفتح النقاش الأوروبي حول حدود دعم أوكرانيا: أمام التشدد الذي تُمارِسه روسيا في الأشهر الأخيرة، رأى الرئيس الفرنسي أنه يجب التخلي عن الحذر والتردد؛ لأن روسيا لا تفهم إلا منطق القوة والحزم. ولقد ذكر "ماكرون" أن معظم صنَّاع القرار الأوروبيين، كانوا يُعارِضون قبل عامين تزويد أوكرانيا بالمدرعات الثقيلة أو الطائرات أو الصواريخ البعيدة المدى، ولكن بعد ذلك اقتنعوا وتراجعوا عن هذه المواقف.ومن ثم فإن إثارة مسألة نشر جنود أوروبيين على الأراضي الأوكرانية من قِبَله، تأتي من باب جعله احتمالاً مطروحاً، على الرغم من أنه لن يحصل في المستقبل القريب، كما أن ماكرون قد اعتبر لاحقاً وأثناء سفره إلى براج في 4 مارس 2024، أن ما فعله هو إطلاق للنقاش من أجل التفكير في كل ما يمكن القيام به لدعم أوكرانيا.3– زيادة الضغط على برلين: يريد ماكرون أن تكون فرنسا هي التي تُثير الأسئلة الكبرى على الصعيد الأوروبي، وخاصةً تلك التي تتهرَّب ألمانيا من التعامل معها؛ وذلك لزيادة الضغط عليها. وتأتي زيادة الضغط هذه في سياق تخوُّف ماكرون من فقدان مجموعته (Renew) داخل البرلمان الأوروبي دورَها المحوري؛ حيث كانت تتمتع بميزة صناعة الأغلبية أو كسرها بين الكتلتين الكبيرتين؛ أي حزب الشعب الأوروبي والديمقراطيين الاشتراكيين، مع إظهار استطلاعات الرأي تقدم أحزاب اليمين وأقصى اليمين. والأمر الثاني الذي يتخوف ماكرون من حدوثه، هو عودة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بعد إعادة انتخابها، إلى التنسيق مع حزب الشعب الأوروبي (الذي يقوده الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني)، بعد أن كان لماكرون دور كبير في اختيارها في ولايتها الأولى بين 2019 و2024؛ حيث إن حدوث هذا الأمر يعني أنها لن تعود مَدينةً له باختيارها؛ ما يعني استعادة الألمان السيطرة على المفوضية الأوروبية، وتقليل النفوذ الفرنسي.4– إحراج مارين لوبان: ترى بعض القراءات أن ماكرون يلعب من خلال الحديث عن حرب وجودية في أوكرانيا، لعبة تخويف الفرنسيين حول مصيرهم إذا سمح الأوروبيون لروسيا بالانتصار، خصوصاً أن حزب التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان امتنع عن التصويت على حزمة المساعدات الفرنسية لأوكرانيا في البرلمان الفرنسي. ويتبع معسكر "ماكرون" استراتيجية خاصة بالانتخابات الأوروبية القادمة قائمة على إرباك حزب التجمع الوطني المتقدم في استطلاعات الرأي.ولقد بدا ذلك من خلال مداخلة رئيس الوزراء الفرنسي "جابرييل أتال" أثناء مناقشة جلسات إقرار الاتفاقية الأمنية الفرنسية–الأوكرانية في فبراير ومارس 2024؛ حيث توجه لمخاطبة مارين لوبان في عدة مناسبات، معتبراً أن الخطر الوجودي على السبعين مليون فرنسي، يتمثل في البوتينية المتخفية في ثوب السلمية، التي تعمل على زعزعة الاستقرار الفرنسي، والتي لم يندد بها حزب الجبهة الوطنية أبداً. واعتبر "أتال" أنه لو تم انتخاب مارين لوبان في عام 2022 رئيسةً لفرنسا، لما كانت فرنسا تبحث حالياً في كيفية تزويد الأوكرانيين بالأسلحة للدفاع عن أنفسهم، بل في كيفية مساعدة روسيا على سحق الأوكرانيين، كما استغرب أتال كيف أن بعض قادة المعارضة هاجموا خيار إرسال قوات إلى أوكرانيا في الوقت الذي يجب فيه التساؤل حول إذا ما كانت قوات بوتين ليست موجودة بالفعل في فرنسا بفضل مارين لوبان وحزبها.5– استباق فك الارتباط الأمريكي: يصر ماكرون على إثارة خطورة فك الارتباط الأمريكي بالقارة الأوروبية، مركزاً على أن أوروبا تُقدِّم 30% فقط من إجمالي المساعدات التي تحصل عليها أوكرانيا، معرباً في الوقت نفسه عن قلقه بشأن قدرة الولايات المتحدة على اتخاذ القرار بشأن المساعدات الإضافية، في إشارةٍ إلى عدم توصُّل الكونجرس الأمريكي إلى حل لهذه المسألة، كما يُبدي ماكرون تخوُّفه من نتيجة الانتخابات الأمريكية المقرر إجراؤها في نوفمبر القادم، التي يمكن أن تضع حداً للالتزام الأمريكي تجاه أوكرانيا إذا تم انتخاب دونالد ترامب. ولقد دعا ماكرون الأوروبيين إلى تحمُّل مسؤولية حماية أنفسهم، وعدم تفويض مستقبلهم للناخب الأمريكي.6– محاولة تصحيح صورة فرنسا: تُفسِّر بعض الآراء التصعيد الفرنسي ضد روسيا، والإلحاح على فكرة هزيمتها، بالتشويه السابق الذي لحق بمصداقية فرنسا أوروبياً. ولقد حصل هذا التشويه بسبب إصرارها في الأشهر الأولى التي تلت غزو أوكرانيا في فبراير 2022 على إمكانية لعبها دور الوسيط مع موسكو، و"الإصرار على ضرورة عدم إذلال روسيا". ويبدو أن ماكرون قد توصل إلى قناعة مفادها أن مصداقية فرنسا تزداد أكثر حينما يتبنَّى مواقف متشددة، وتتراجع عندما يحاول لعب دور قوة التوازن. ويتخيَّل ماكرون أن أخذ زمام المبادرة في الدفاع عن أوروبا سيُعيد إلى فرنسا فرصة تصحيح موقعها داخل الاتحاد الأوروبي والاضطلاع بدور القيادة.تداعيات محتملة يمكن لتصعيد الخطاب ضد موسكو وما ينتج من ردود فعل عليه، أن يسفر عن التأثيرات التالية:1– الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع روسيا: قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية، أكد ماكرون أنه لن يتصل بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في حال فوزه في الانتخابات؛ لأنه "لا يمكن تهنئة شخص تزامن فوزه مع وفاة مَن ناضل من أجل التعددية في روسيا"، كما أكد ماكرون أنه "يجب على الفرنسيين ألَّا يقعوا فريسة للترهيب الذي يمارسه بوتين؛ لأن روسيا – حسب رأيه – ليست قوة عظمى، بل هي قوة متوسطة تمتلك أسلحة نووية، وناتجها المحلي الإجمالي أقل كثيراً من الناتج الأوروبي، وأقل من الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا وفرنسا".ولكن على الرغم من محاولات التطمين هذه، فإن خطوة إرسال جنود فرنسيين إلى أوكرانيا، ستُنشِئ معطيات جديدة في الحرب، من ضمنها مخاطر نشوب مواجهة مباشرة بين موسكو التي تمتلك الأسلحة النووية وباريس. ومن شأن هذه المواجهة أن تجر حلف شمال الأطلسي إلى التورط في الدفاع عن فرنسا إذا تم استهدافها؛ لأن فرنسا عضو في الناتو، وتستطيع تفعيل المادة رقم 5 من معاهدة الناتو. وفي مقابل التلميحات الفرنسية، اعتبر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن ماكرون يواصل زيادة مستوى التدخل المباشر لفرنسا في الصراع في أوكرانيا، كما رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ماكرون من دون أن يُسمِّيه أثناء مقابلة تلفزيونية في 13 مارس 2024، معتبراً أن نشر قوات غربية على الجبهة الأوكرانية لن يُغيِّر الوضع في ساحة المعركة، مشيراً إلى أن ترسانته النووية جاهزة دائماً للحرب.2– تزايد حدة الجدل حول الإنفاق العسكري: تذكر بعض التحليلات أن ماكرون، الذي يدفع حالياً نحو تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، كان قد قام في المرحلة الأولى من وصوله إلى الإليزيه في يوليو 2017، بتخفيض ميزانية الجيش الفرنسي؛ فكيف أصبح – بعد عدة سنوات من التراجع – مؤيداً لزيادة الإنفاق العسكري؟! وعلى الرغم من تنامي الإنفاق العسكري في أوروبا على وقع التطورات الراهنة في روسيا، فإن بعض المراقبين يتساءلون عن جدوى الدخول في سباق التسلح، على اعتبار أن تحقيق هذا الهدف من شأنه منع نشوب حرب في أوروبا، ويذكرون أن القدرات العسكرية لأوروبا كانت تتفوَّق على قدرات روسيا، لكن ذلك لم يمنعها من غزو أوكرانيا.3– احتمالية تزايد الانزعاج الغربي من توجهات باريس: في مقابلةٍ مع صحيفة لو باريزيان Le Parisien في 16 مارس 2024، عاد ماكرون ليصر على أنه ربما في مرحلة ما سيكون من الضروري إجراء عمليات على الأرض في أوكرانيا، مهما كانت طبيعتها من دون استثناء مواجهة القوات الروسية، وأن قوة فرنسا تكمن في أنها قادرة على القيام بذلك.وأكد ماكرون، خلال تلك المقابلة، أن العديد من الدول الأوروبية تتفق معه في هذا الرأي، في إشارةٍ إلى دول البلطيق وجمهورية التشيك وبولندا. وترى بعض الآراء الأوروبية أن هذا النوع من القرارات لا يُتَّخذ بشكل انفرادي، بل على مستوى رؤساء كل الدول والحكومات الأوروبية، وأن بحثه بموضوعية يجب أن ينتظر أيضاً انتقال القيادة على رأس حلف الناتو والمفوضية الأوروبية ونتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.4– تفاقم حدة الانقسام الأوروبي: تعتبِر أوساط أوروبية أن ماكرون في خطابه التصعيدي تجاه روسيا، سرَّع الانقسام الأوروبي بين مؤيدي بوتين (كالرئيس المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو)، وبين المترددين (كالمستشار الألماني أولاف شولتز) والقوى الدافعة للتصعيد التي اصطفَّت خلف ماكرون. وتعتبر أوساط أخرى أن انتقاد ماكرون له ما يبرره؛ لأنه لم تكن هناك حاجة على الإطلاق إلى تضخيم التوترات مع روسيا، ولكن في الوقت نفسه فإن هذا لا يعني أن موقف شولتز المتحفظ الذي يرفض تسليم صواريخ توروس لأوكرانيا مفيد لأوروبا. وتأسف هذه الأوساط لأنه في الوقت الذي يجب فيه على أوروبا أن تُوحِّد صفوفها لمواجهة روسيا، يتصاعد التباين الأوروبي.5– معارضة الشارع الفرنسي توجهات ماكرون: ترى بعض الآراء أن تصعيد الخطاب تجاه روسيا من قبل ماكرون الذي يندرج ضمن إطار القيام بمناورة انتخابية للتأثير على الناخبين الفرنسيين قبيل الانتخابات الأوروبية المقبلة، لن يساعده في تحقيق النتائج المرجوة؛ حيث أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن 73% من الفرنسيين لا يُوافِقون على خطوة إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا. وهذا القلق الفرنسي استدعى تدخل الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي اعتبر في 11 مارس 2024 أنه ما دامت أوكرانيا صامدةً فإنه يمكن للجيش الفرنسي أن يبقى في فرنسا، وأن شباب فرنسا لن يموتوا في أوكرانيا، كما دفعت هذه الشبهة رئيس حزب الجمهوريين إيريك سيوتي إلى القول إنه يوافق على دعم أوكرانيا، لكنه "يعارض النفخ في جمر صراع عالمي من أجل أغراض انتخابية".وختاماً، فإن التطورات القادمة كفيلة بالكشف فعلياً عن النوايا الحقيقية التي تقف خلف مواقف ماكرون الأخيرة بشأن أوكرانيا، وإذا ما كانت صادقة فعلاً تهدف إلى إيقاظ أوروبا، أم أنها موجهة لكسب معركة داخلية ضد أقصى اليمين. وفي كلتا الحالتين، فإن الطريقة التي يحكم بها ماكرون تكشف عن نهج واقعي دقيق في التعامل مع القيادة ومع الجغرافيا السياسية.

مآلات التصعيد في خطاب الرئيس الفرنسي تجاه حرب أوكرانيا