تكاليف الانفصال:

على مدار سنوات طويلة، مثَّلت الصين بالنسبة إلى الولايات المتحدة نفوذاً متصاعداً وقوة اقتصادية لا يُستَهان بها، خاصةً مع إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، التي تمكنت عبرها من اجتذاب أكثر من 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية، بما يمثل نحو 75% من سكان العالم. أَضِف إلى ذلك صعود الصين رائداً في مجال التكنولوجيا وأشباه الموصلات التي يشتد حاجة الغرب إليها، واحتدام التنافس الصيني الأمريكي في مجالات عديدة وتفاقم الحرب التجارية بينهما، وأضف إلى ذلك الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين التي شكَّلت، قبل التدخل الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، تحدياً متزايداً بالنسبة إلى الغرب، وهي الشراكة التي صارت أكثر تعقيداً بعد نشوب الحرب الروسية، على خلفية الدعم الصيني لروسيا في مواصلة عدوانها على أوكرانيا؛ حيث ساعد ذلك على ترسيخ رفض الكثير من بلدان الجنوب العالمي لإدانة موسكو أو فرض عقوبات عليها؛ ما عقَّد بالتبعية تحركات الغرب لعزل روسيا واستبعادها من الاقتصاد العالمي. في هذا الصدد، يسعى الغرب إلى اتخاذ خطوات عملية وملموسة لفك ارتباطه بالصين اقتصادياً، والبحث عن شركاء جدد يمكن أن يَحُلُّوا محل الصين، غير أن ذلك يُثير تساؤلات حول مدى نجاح الغرب في تحقيق ذلك الانفصال رغم أهمية الصين في الاقتصاد العالمي، والسيناريوهات المحتملة المترتبة على ذلك الوضع.


مؤشرات رئيسية

في إطار تنفيذ الغرب رؤيته الرامية إلى فك ارتباطه مع الصين، لجأت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة إلى اتخاذ عدد من الخطوات العملية في هذا الشأن، وهي الخطوات التي مثَّلت بدورها مؤشرات رئيسية على رغبة غربية حقيقية في التخلص من التأثير الاقتصادي للصين على الاقتصاد العالمي، وهي المؤشرات التي يمكن استعراض أبرزها فيما يأتي:


1– ضعف الطلب الاستهلاكي في الأسواق العالمية التي تخدمها الصين: أظهرت البيانات الرسمية انخفاضاً بنسبة 14.5% في صادرات الصين في يوليو 2023، وسط ضعف الطلب الاستهلاكي في الأسواق العالمية التي تخدمها الصين، وهو أسرع انخفاض منذ تفشي الوباء في عام 2020. وبينما انخفض الطلب الصيني على السلع المصدرة من تايوان والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان بشكل ملحوظ في عام 2023، انخفضت كذلك قيمة البضائع المصدرة من تلك المناطق إلى الصين بنسبة 12.8% على أساس سنوي في يونيو 2023، من 34.1% على أساس سنوي؛ وذلك وفقاً للبيانات التي جمعتها الجمارك الصينية.


2– انخفاض الاستثمار الأجنبي في الصين: انخفض الاستثمار الأجنبي في الصين إلى نحو 0.4% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية يونيو 2023 مقارنةً بمتوسط 1.6% في السنوات الخمس التي سبقت الوباء، وهو انخفاض حقيقي بنسبة 67% خلال تلك الفترة إلى أدنى مستوى منذ بدء السجلات قبل 25 عاماً.

3– انخفاض التجارة الثنائية بين واشنطن وبكين: انخفضت التجارة الثنائية بين الولايات المتحدة والصين في السلع والخدمات بالقيمة الحقيقية إلى 3% من الناتج الأمريكي في عام 2022 من ذروة بلغت 3.7% في عام 2014، وهو انخفاض بنحو الخُمس، فيما انخفضت القيمة الإجمالية للسلع المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين في يوليو 2023 بأكثر من 20%؛ وذلك بعد أن كانت الصين أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة من حيث القيمة في الفترة بين عامي 2015 و2018.


4– تراجع الصادرات الألمانية إلى الصين: خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عمدت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل إلى تعزيز العلاقات التجارية القوية مع الصين، غير أن ذلك التوجه قد شَهِد تراجعاً واضحاً في السنوات الأخيرة؛ فوفقاً للبيانات الرسمية، شكَّلت الصادرات الألمانية إلى الصين نحو 6.2% فحسب من إجمالي الصادرات الألمانية في النصف الأول من عام 2023، وهي أدنى حصة منذ عام 2016، وهو ما اعتبره المحللون تراجعاً في مكانة الصين باعتبارها سوقاً يعتمِد عليها المصدرون الألمان.


5– فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية على الصين: بموجب المادة 232 من قانون التوسع التجاري لعام 1962، فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركية بنسبة 25% على بعض واردات الصلب الصينية، ورسوماً بنسبة 10% على بعض واردات الألومنيوم الصينية في عام 2018. وفي عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، استمرت واشنطن على نهج الإدارة الأمريكية السابقة، الرامية إلى إضعاف قدرة الصين على الهيمنة الاقتصادية؛ حيث لجأ إلى الاحتفاظ برسوم جمركية على الصين قُدِّرت بنحو 360 مليار دولار، فضلاً عن العديد من العقوبات التي طبَّقتها الإدارة الأمريكية على أفراد صينين ذوي صلة بانتهاكات حقوق الإنسان في مدينتي شينجيانج وهونج كونج الصينيتين.


6– دعم الغرب المفهوم الياباني للأمن الاقتصادي: انطلاقاً من كون الجبهة المركزية في التنافس الاستراتيجي بين الغرب والصين يتمثل في شرق آسيا، وعلى رأسها اليابان التي تمثل شريكاً رئيسياً بالنسبة إلى كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وبينما تسعى اليابان من خلال رئيس وزرائها فوميو كيشيدا إلى إقامة علاقة "مستقرة وبناءة" مع الصين، فإنها تدرك جيداً حاجتها لتقديم خطوات واستراتيجيات محددة لحماية أمنها الوطني واستقرارها الإقليمي. وفي هذا الصدد، دأبت اليابان على وضع إطار للتعامل مع الصين الصاعدة في منطقة الهندو–باسيفيك؛ ذلك الإطار هو ما تعمل أوروبا والولايات المتحدة على دعمه وتأييده حالياً؛ حيث يُعَد ذلك وفقاً للمنظور الأوروبي، دعماً للمفهوم الياباني للأمن الاقتصادي.


7– مساعٍ أمريكية لعرقلة تطوير التكنولوجيا الصينية: تنتقل الصين حالياً إلى نموذج اقتصادي قائم على القيمة المضافة والنمو المرتفع والتكنولوجيا الفائقة، ليحل محل نموذجها القديم القائم على تصدير السلع المصنعة الرخيصة، الذي يعاني حالياً من ارتفاع أسعار العمالة؛ حيث تسعى الصين إلى ترسيخ شراكاتها باعتبارها قائداً في قطاعات الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات وغيرها، بما يُمكِّنها من السيطرة على القطاعات الاستراتيجية التي تُشكِّل مستقبل نمو التكنولوجيا.

على الجهة المقابلة، تحاول الولايات المتحدة عرقلة تطوير التكنولوجيا الصينية جزئياً من خلال فرض ضوابط التصدير ضد الشركات المُصنِّعة للتكنولوجيات الأمريكية، كأشباه الموصلات وضوابط الاستيراد ضد شراء التكنولوجيا الصينية، مثل هواتف هواوي الذكية؛ ففي 9 أغسطس 2023، وقَّع الرئيس الأمريكي جو بايدن أمراً تنفيذياً يحظر بمقتضاه بعض الاستثمارات الأمريكية الجديدة في الصين في التقنيات الحساسة، مثل رقائق الكمبيوتر، كما يفرض ضوابط أخرى كإخطار الحكومة في حال الاستثمار في قطاعات تكنولوجية أخرى؛ وذلك بغية إعاقة الخبرة الأمريكية عن مساعدة الصين في تطوير تقنيات من شأنها تقويض الأمن القومي الأمريكي.

8– بروز الهند شريكاً تجارياً للغرب: تلعب الهند حالياً دوراً متزايداً في تصنيع قطع الغيار للدول الغربية في ظل العقوبات الأمريكية ضد الصين، ومؤخراً وافقت المملكة المتحدة على الانضمام إلى CPTPP (الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة العابرة للمحيط الهادئ)، وهي اتفاقية تجارية تضم اليابان وفيتنام وسنغافورة وماليزيا وأستراليا ونيوزيلندا، بما يشير إلى مسعى أوروبي كذلك نحو التحرر من الصين بصفتها مُصنعاً لقطع العيار. يأتي ذلك في الوقت الذي يكابد فيه الاقتصاد الصيني الركود، وتكافح فيه شركات البناء الصينية الرئيسية، مثل إيفرجراند، لخدمة ديونها. ولعل نقل التصنيع ومنشآته من الصين إلى الهند يعد مؤشراً آخر على حرص كثير من المستثمرين الغربيين على التحرر من ضغوط الصين التنظيمية، وفك ارتباطهم عنها اقتصادياً ومالياً، والبحث في المقابل عن شركاء جدد.


9– البحث عن ممرات منافِسة لمبادرة الحزام والطريق: في سبتمبر 2023، خلال قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في نيودلهي، وقَّع زعماء فرنسا وألمانيا والهند وإيطاليا والسعودية والإمارات والولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية، مذكرة تفاهم حول إنشاء ممر اقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC). وتتألف المبادرة من ممر شرقي يربط الهند بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، وممر شمالي يربط دول الشرق الأوسط بأوروبا. ومن خلال المبادرة، من المفترض استكمال طرق النقل البري والبحري الموجودة بالفعل، بهدف زيادة الاتصال والتكامل الاقتصادي بين آسيا وأوروبا عبر البنية التحتية للطاقة، والسكك الحديدية، والكابلات العالية السرعة، وممرات الشحن.


وقد جاءت تلك المبادرة تحدياً مباشراً لمبادرة الحزام والطريق الصينية، التي سعت الصين من خلالها، على مدار عشر سنوات، إلى ربط آسيا بأفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وهو ما يشير إلى مساعٍ غربية نحو فك الارتباط بالصين، عبر خلق ممرات بديلة، تجعل من التحرر من هيمنة الصين على الممرات التنموية الراهنة أمراً يسيراً. وبالتزامن مع ذلك، صرَّحت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، في سبتمبر 2023، بأن إيطاليا تعتزم الخروج من مبادرة الحزام والطريق، التي باتت – من وجهة نظرها –تُشكِّل اختباراً لعلاقات إيطاليا مع الولايات المتحدة.

تحديات عالقة

رغم المساعي الغربية والإجراءات الملموسة للتحرر من الصين اقتصادياً، فإن هناك عدداً من التحديات التي قد تعيق قدرة الغرب على ذلك، وهو ما يمكن استعراضه فيما يأتي:


1– أهمية الصين السياسية في بعض الملفات المهمة للغرب: لا تزال الصين تأمل إقناع الأوروبيين بعدم اتباع مسار مماثل لمسار الولايات المتحدة حيالها من قيود، وفي ذلك الصدد، جاءت "خطة السلام" التي اقترحتها الصين في فبراير 2023، التي اشتملت بدورها على 12 بنداً لتحقيق السلام في أوكرانيا، لتدفع بعض العواصم الأوروبية نحو تشجيع المحاولات الصينية لإحلال السلام، واعتبار أن موقف الصين في الحرب الأوكرانية خلال الفترة المقبلة قد يتوقف عليه مستقبل العلاقات الأوروبية الصينية، وهو ما أكدته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، عقب إعلان الصين عن خطة السلام، مؤكدةً أن مستقبل العلاقات مع الصين مرهون بموقف بكين من الحرب الروسية على أوكرانيا، وأن من مصلحة أوروبا مواصلة الحوار مع الصين في هذا الصدد.


2– ميل الأوروبيين إلى البقاء على الحياد: في أبريل 2023، أجرى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية استطلاعاً للرأي في 11 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي (النمسا وبلغاريا والدنمارك وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا وهولندا وبولندا وإسبانيا والسويد) لفهم كيف يرى المواطنون الأوروبيون مكانهم في العالم. وقد أظهرت نتائج الاستطلاع تطلع المواطنين الأوروبيين إلى البقاء على الحياد في أي صراع بين الولايات المتحدة والصين، بل يترددون فيما يخص التخلص من المخاطر التي تمثلها الصين، وعندما يتعلق الأمر بالمخاطر المحتملة من جراء الاعتماد الاقتصادي المتبادل مع الصين، فإن المواطنين الأوروبيين يركزون بشكل أكبر على الوجود الاقتصادي الملموس للصين في أوروبا وتأثيراته.


3– تشابك مصالح الاقتصادين الأمريكي والصيني: ترتبط كلٌّ من الولايات المتحدة والصين بالأخرى اقتصادياً؛ فقد نمت التجارة الأمريكية مع الصين بشكل كبير في العقود الأخيرة؛ نظراً إلى كون الصين واحدة من أكبر أسواق التصدير للسلع والخدمات الأمريكية، وكذلك الولايات المتحدة بالنسبة إلى الصين؛ ما انعكس بالإيجاب على الولايات المتحدة في شكل أسعار أقل للمستهلكين وأرباح أعلى للشركات. وتعتمد الصين على الولايات المتحدة فيما يقرب من 580 مليار دولار من الصادرات سنوياً، وإجمالي استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 124 مليار دولار، فضلاً عن المشاريع المشتركة في الصناعات العالية النمو. كذلك تعتمد الولايات المتحدة على الصين في تحقيق النمو الاقتصادي في الاستثمارات، وتدفق الأشخاص والأفكار والتجارة في الصناعات الرئيسية. ورغم مؤشرات التراجع في علاقاتهما الاقتصادية فإنها لا تزال قوية، بالشكل الذي قد يترتب عليه خسائر واسعة للطرفين إذا اتسع مجال الانفصال بينهما اقتصادياً.


4– التكلفة الاقتصادية الكبيرة للانفصال: تشير التقديرات إلى أن الانفصال اقتصادياً عن الصين، قد يكلف صناعة الطيران الأمريكية ما يصل إلى 875 مليار دولار بحلول عام 2038، وصناعة أشباه الموصلات بقيمة تصل إلى 159 مليار دولار و100 ألف وظيفة، وصناعة الخدمات الطبية أكثر من 479 مليار دولار على مدى العقد المقبل، وربما أكثر، وهي حسابات معقدة قد يضعها صانع القرار الأمريكي قيد اعتباره قبل اتخاذ أي قرار في هذا الشأن.


5– ارتفاع تكلفة الإنتاج وتعطل سلاسل التوريد: على اعتبار الصين واحدة من أكبر الأسواق العالمية للإنتاج والتصنيع، وتُقدِّم تكلفة منخفضة نسبياً للعمالة والإنتاج، رغم المشكلات التي تواجهها حالياً فيما يتعلق بتوافر العمالة الشابة؛ فإن التغيير في هذا النموذج وتحول الإنتاج إلى مناطق أخرى، ربما يزيد تكلفة الإنتاج الغربي؛ ما يجعل من الصعب عليه منافسة الأسواق العالمية. على الجانب الآخر، تلعب الصين دوراً حاسماً في سلسلة التوريد العالمية، كما تعتمد العديد من الشركات الغربية بشكل كبير على المكونات والمواد الخام الصينية في ظل هيمنة الصين على المعادن الأرضية النادرة، وكذلك منافستها على استخراج المعادن البحرية في قاع المحيط، ومن ثم فإن تغيير هذه العلاقة يمكن أن يؤدي إلى تعطل سلسلة التوريد وتوقف إنتاج السلع، وبخاصة التكنولوجية، وتلك السلع المعتمدة بشكل رئيسي على أشباه الموصلات، بما يؤثر على أداء الشركات الغربية.


6– احتمالية تزايد التوترات التجارية: نظراً إلى كون التخلي عن الصين اقتصادياً، يعني توقف الغرب عن الاستمرار في الاتفاقيات التجارية معها، فإن ذلك من شأنه أن يدفع نحو تصاعد التوترات التجارية والتعامل مع تحديات جديدة في مجال التجارة الدولية. وبالتبعية، يؤثر سلبياً على أسواق الأسهم والأسواق المالية بوجه عام.


سيناريوهات محتملة

إذا قرر الغرب التخلي نهائياً عن الصين، وعلى افتراض تمكن الغرب من معالجة التحديات المرتبطة بذلك التخلي، فإن هناك عدداً من السيناريوهات المحتملة لشكل ذلك التحول عن الصين، يمكن استعراض أهمها فيما يأتي:


1– مساعي واشنطن لتحويل سلاسل التوريد بعيداً عن الصين: على المدى القصير مستقبلاً، من المحتمل ألَّا تقلل الولايات المتحدة من اعتمادها المالي على الصين مع استمرار الأخيرة في تمويل عجز حسابها الجاري وتحفيز النمو في الصناعات المحلية الحيوية، لكن الولايات المتحدة قد تشرع في محاولة تحويل سلاسل التوريد الخاصة بها إلى أماكن أخرى بخلاف الصين، بما في ذلك المكسيك؛ حيث تكون تكاليف العمالة أرخص في بعض الحالات مقارنةً بالصين. وعلى مدى العقد أو العقدين المقبلين، قد يصبح ذلك التوجه جذاباً على نحو متزايد بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ حيث تواجه الصين حالياً تباطؤاً في معدل المواليد، وتقلُّص قوة العمل من العمالة الرخيصة، وعزوف العمالة الشابة عن العمل في المصانع، والشيخوخة السكانية التي لا تتمتع إلا بقدر ضئيل من فوائد الضمان الاجتماعي. وبالطبع فإن جدوى ذلك يتوقف على مدى قدرة الصين على مواصلة سياستها الرامية إلى مغازلة البلدان النامية، التي إن نجحت في ذلك على المدى البعيد، فربما تتمكن الصين من منافسة الولايات المتحدة على السلع الأساسية القادمة من الدول النامية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وشرق آسيا.


2– انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتل منفصلة: في مجالات التجارة والاستثمار الأجنبي، قد ينقسم الاقتصاد العالمي إلى كتل منفصلة على المدى القريب. وربما تشكل القوى الاقتصادية الغربية – بما في ذلك الديمقراطيات المتحالفة معها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية – كتلة واحدة، وفي مقابل ذلك، يمكن للصين أن تشكل بجانب شركائها التجاريين الرئيسيين في شرق آسيا، وغيرها من الدول المتحالفة معها، نموذجاً آخر، مستغلةً في ذلك توجهها نحو توسيع عضوية الانضمام إلى بريكس.


3– نجاح التحالفات الغربية في تشكيل شراكات اقتصادية وأمنية: على المدى الطويل قد تنجح التحالفات التي يقودها الغرب في تشكيل شراكات اقتصادية وأمنية أكبر؛ ما يجعلها قادرةً على الفوز بالقوى الناشئة كالهند، مع الحفاظ في الوقت ذاته على الضوابط الرأسمالية على الرنمينبي؛ فمن ناحية ربما لا يكون النموذج الصيني قوياً أو مستقلاً بالقدر الكافي للتحايل على اعتماده على الأنظمة الغربية، وفي تلك الحالة قد تلجأ الصين أيضاً إلى الحفاظ على علاقات قوية بالولايات المتحدة وأوروبا في التجارة والاستثمار ما دامت تغذي معدلات النمو المرتفعة المستهدفة. ومن ناحية أخرى، إن كان من الممكن للغرب أن ينجح في مواجهة صعود الصين في التمويل العالمي بشكل فعال، إلا أنه ربما يصعب التغلب على قوة العمل المتقلصة في الصين والقدرة الأسوأ نسبياً على اجتذاب العمالة الموهوبة من الخارج مع انتقالها إلى نموذج اقتصادي ذي قيمة مضافة وعالية التقنية.


إجمالاً، تدفع الحروب التجارية الغربية الأخيرة ضد الصين، والقيود المفروضة على تصدير التكنولوجيا الصينية، نحو مزيد من التقارب الصيني الروسي، ومواجهة السياسات الغربية على نحو أوسع، عبر التوسيع المتواصل في تكتل بريكس، وضم دول أخرى لتشكيل تحالف أقوى، بما في ذلك إيران في مقابل التحالف الغربي. وربما يكون المستفيد الأكبر من احتدام الحرب التجارية بين التكتلين المحتملين، هي القوى الاقتصادية الناشئة، كالهند ودول جنوب شرق آسيا؛ إذ إن من نتائج احتدام تلك الحرب التجارية أن تعزز من شأن تلك القوى، وأن تدفع نحو مزيد من التحول في موازين القوى الاقتصادية العالمية.