قبل أكثر من عامين، سيطرت حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، في ظل وضع اقتصادي متردٍّ وغير مستقر. ومع عدم الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، وفرض عقوبات اقتصادية ضدها، تضاعفت التحديات الاقتصادية بصورة هددت فرص استمرارها في السلطة. وعلى خلفية ذلك، انتهجت طالبان، خلال العامين الماضيين، إجراءات مختلفة لتعزيز موقفها في الدولة؛ منها حظر استخدام الدولار والروبية الباكستانية في المعاملات الحالية، وفرض قيود صارمة على خروج العملات الأجنبية من الدولة. ومن جراء ذلك، برزت العملة الأفغانية، على نحو غير متوقع باعتبارها العملة الأفضل أداءً في العالم خلال الربع الثالث من عام 2023، وفقًا للبيانات التي جمعتها بلومبرج؛ حيث تعززت قيمتها بنحو 9% في ذلك الربع، و14% منذ بداية العام، بما تجاوز مكاسب البيزو الكولومبي التي قُدِّرت بنحو 3% فحسب، بيد أن ذلك التحسن لم يصحبه تحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى، بما يثير التساؤلات حول وضع الاقتصاد الأفغاني في الوقت الراهن، بعد مرور عامين من سيطرة طالبان على السلطة.
مؤشرات رئيسية
ثمة مؤشرات رئيسية يمكن استعراضها للوقوف على حالة اقتصاد الدولة الأفغانية في الوقت الفعلي، ولمعرفة مقدار التحسن والتراجع فيه؛ وذلك كما يأتي:
1- تفشي معدل البطالة: بحسب البنك الدولي، فإن أفغانستان تشهد تفشياً كبيراً في معدلات البطالة حالياً؛ ما يجعل نحو ثلثي الأسر تكابد على نحو مستمر في سبيل شراء المواد الأساسية، وهو ما أكده تقرير حديث صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في يونيو من عام 2023؛ حيث ذكر أن عدد العاطلين عن العمل في أفغانستان قد زاد بشكل كبير خلال العامين الماضيين.
2- نقص الغذاء وارتفاع معدلات الجوع: وفق تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ما يقرب من 20 مليوناً في أفغانستان؛ أي نحو 44% من سكان الدولة، لا يحصلون على الغذاء الكافي، فيما يعيش نحو 34 مليون أفغاني في فقر، وهو ما يرجع بالدرجة الأولى إلى زيادة معدلات البطالة، التي ألحقت الضرر بحياة الملايين من الأفغان.
3- انخفاض الناتج المحلي الإجمالي: وفق بعض التقديرات، فإن الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان قد انخفض بنحو 20% منذ سيطرة طالبان على السلطة. وإن كان الاقتصاد قد بدأ يستقر نسبياً نتيجة بعض القيود التي مارستها طالبان على الواردات المهربة، والقيود المفروضة على المعاملات المصرفية، ومساعدات الأمم المتحدة، غير أن ذلك لم ينعكس بشكل إيجابي في صورة نمو في الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
4- تركُّز الثروة في المراكز الحضرية: أدى المرسوم الذي أصدره المرشد الأعلى لطالبان في أبريل 2022،بحظر زراعة الخشخاش، وما ترتَّب عليه من توقف شبه كامل لتلك الزراعة في المقاطعات الكبرى مثل "هلمند" التي تمثل نحو 50% من إجمالي الطاقة الزراعية بالدولة؛ إلى عواقب سلبية كبيرة على المزارعين وأُسَرهم الذين يكافحون من أجل جني دخول مماثلة من خلال زراعة المحاصيل البديلة كالقمح، وهو ما ترتب عليه مزيد من الارتفاع في معدلات الفقر في المناطق الريفية الأفغانية عنها في المناطق الحضرية التي تشهد تركزاً كبيراً في الثروة على خلاف المناطق الريفية. ويُتوقع في هذا الصدد، أن يترتب على خسارة كثير من المزارعين الأفغان لمصادر دخولهم، حدوث مزيد من النزوح الداخلي، وربما تنمو حركات الهجرة إلى الخارج.
5- انخفاض المساعدات الخارجية: انخفضت المساعدات الخارجية خلال عام 2023 بنسبة 30%، وهو الأمر الذي حذرت من خطورته الأمم المتحدة؛ إذ من شأن ذلك أن يقلل من دخل الفرد في أفغانستان إلى 306 دولارات، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 40% عن مستويات عام 2020. وعليه دعت الأمم المتحدة إلى تقديم مزيد من المساعدات لأفغانستان؛ حيث قدرت حاجة الدولة خلال هذا العام إلى نحو 3.2 مليار دولار من المساعدات، بينما لم توزع سوى نحو 1.1 مليار دولار منها، وفقاً لخدمة التتبع المالي التابعة للمنظمة العالمية، وهو ما يعد تراجعاً كبيراً مقارنةً بالعام الماضي، حين أنفقت الأمم المتحدة نحو 4 مليارات دولار، من جراء تعرُّض نصف سكان أفغانستان لجوع هدد حياتهم.
6- ارتفاع معدلات التضخم: تضاعفت أسعار المنتجات الغذائية منذ أن سيطرت طالبان على السلطة؛ فقبل 15 أغسطس لعام 2021 على سبيل المثال، بلغ سعر 50 كيلوجراماً من الدقيق نحو 1200 أفغاني، وبعد مرور عامين، قُدِّر سعره بنحو 2500 أفغاني، وهو ما يمثل مؤشراً على الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء في الوقت الحالي. وقد يُعزَى ذلك بالدرجة الأولى إلى انخفاض التجارة الخارجية لأفغانستان.
7- ارتفاع قيمة العملة الأفغانية: بحسب بلومبرج، فإنه خلال الربع الثالث من العام الجاري، ارتفعت قيمة العملة الأفغانية بنحو 9%، ونحو 14% منذ بداية العام، وهو ما يرجع بشكل كبير إلى مليارات الدولارات من المساعدات الإنسانية، وزيادة تجارة حكومة طالبان مع جيرانها؛ وإن كان بعض المحللين، يعتقدون أن ذلك الارتفاع مؤقت، ولا يمكن اتخاذه مقياساً أو دليلاً على تحسن الاقتصاد، بدليل تراجع كثير من مؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى. فإن رئيسة قسم المخاطر في الدول الأوروبية في شركة BMI بلندن "أنويتا باسو" تتوقع أن يستقر سعر العملة الأفغانية عند المستويات الحالية حتى نهاية العام، وهو ما يمكن – على حد اعتقادها – أن يسهم في الحد من ضغوطات التضخم على الواردات الحيوية لأفغانستان كالنفط.
8- توقعات إيجابية بتراجع الانكماش: على الرغم من التحذيرات الدولية بشأن مخاطر انخفاض المساعدات العالمية المقدمة لأفغانستان من جراء انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان، فإن توقعات البنك الدولي تشير إلى توقف الاقتصاد الأفغاني عن الانكماش في عام 2023، مسجلاً نمواً بنسبة 2% إلى 3% حتى عام 2025.
سبل المواجهة
انتهجت حكومة طالبان، عقب سيطرتها على أفغانستان في عام 2021، عدداً من السياسات الاقتصادية التي أملت من ورائها تثبيت دعائم حكمها، ومواجهة عدم الاعتراف الدولي بها. وفيما يأتي يمكن تناول أبرز هذه السياسات:
1- اعتماد نظام الحوالة في تحويل الأموال: بحسب البنك المركزي الأفغاني، فإنه نتيجة للعقوبات الدولية الموقعة ضد أفغانستان، يتم تحويل كافة التحويلات المالية تقريباً إلى أفغانستان، عبر نظام الحوالة الذي أضحى جزءاً أساسياً من أعمال الصرَّافين، الذين يتم تداول العملات الأجنبية من خلالهم إلى حد كبير، وعادةً ما يقيمون أكشاكاً في الأسواق أو يعملون من خلال متاجر في المدن والقرى. ويُذكَر في هذا الصدد أن سوق "ساراي شاه زاده" في كابول تُعَد بمنزلة المركز المالي الفعلي للدولة؛ حيث يتم فيه تداول الملايين من العملات الأجنبية.
2- حظر بعض العملات الأجنبية: أطلقت حركة طالبان منذ سيطرتها على الحكم، سلسلة من الإجراءات لإبقاء العملة الأفغانية تحت السيطرة، ويشمل ذلك حظرها استخدام الدولار الأمريكي والروبية الباكستانية في التعاملات المحلية، فضلاً عن تشديدها القيود لمنع خروج الدولار الأمريكي من الدولة. فيما لجأت إلى البت بعدم قانونية تداول العملات عبر الإنترنت، وهددت المنتهكين للقانون بالسجن، وهي جميعها ضوابط على العملة والتدفقات النقدية، ساهمت بدورها في ارتفاع قيمة العملة الأفغانية بنحو 9% للربع الثالث من عام 2023 و14% منذ بداية العام؛ ما وضعها في المركز الثالث في القائمة العالمية، بعد عملتَي كولومبيا وسريلانكا.
3- اتباع إجراءات لتخفيف الضغط على العملة الأفغانية: مثَّلت الدولارات المُهربة من باكستان إلى أفغانستان مُتنفساً لحركة طالبان خلال الأشهر الماضية من عام 2023. وبحسب المتحدث باسم بنك "دا أفغانستان" حسيب الله نوري، فإن البنك المركزي في أفغانستان يبيع أسبوعياً نحو 16 مليون دولار لدعم العملة الأفغانية. ومع تراجع الضغط على العملة، رفع البنك المركزي الحد الأقصى للسحب بالدولار إلى 40 ألف دولار شهرياً للشركات من 25 ألف دولار، و600 دولار أسبوعياً للأفراد من 200 دولار قبل عامين.
4- تجنب طباعة النقود: خلال العامين الماضيين، لم يقم البنك المركزي الأفغاني بطباعة النقود؛ نظراً إلى أن طباعة العملات غير المدعومة بالدولار، تسهم في مزيد من الارتفاع في سعر الدولار في الدولة، ومن ثم انخفاض قيمة العملة المحلية، وفي المقابل فرضت حركة طالبان استخدام الأموال الأفغانية في السوق، ونتيجةً لنقص العملات الأفغانية المتداولة، وافقت حركة طالبان على استخدام العملات المعدنية القديمة.
5- تعزيز الاستثمار في الموارد الأرضية النادرة: تحاول إدارة طالبان، في ظل الضائقة المالية التي تكابدها، تعزيز الاستثمار في الموارد والمعادن التي تزخر بها الدولة، والتي تُقدَّر قيمتها – بحسب بعض التقديرات – بنحو ثلاثة تريليونات دولار، بما في ذلك موارد كالذهب والكروميت والنحاس والحديد والرصاص والزنك والفحم والغاز الطبيعي والبترول والأحجار الكريمة والليثيوم ومختلف العناصر الأرضية النادرة. وفي ضوء ذلك، سعت حكومة طالبان إلى خلق سبل مختلفة يمكن من خلالها تطوير مواردها، حتى إنه في 31 أغسطس 2023، وقع مسؤولون بالحكومة الأفغانية سبع اتفاقيات تعدين مع شركات صينية وبريطانية وتركية تُقدَّر بقيمة 6.5 مليار دولار، بغية بناء مناجم ضخمة للحديد والذهب في أفغانستان، ليضاف بذلك إلى الاتفاق الذي وقَّعته طالبان في يناير 2023، مع شركة صينية تابعة لشركة البترول الوطنية الصينية، لاستخراج النفط من حوض آمو داريا الشمالي.
6- حرص طالبان على تعزيز العلاقات مع الصين: في شهر مايو 2023، اتفقت كل من الصين وباكستان على توسيع نطاق مبادرة الحزام والطريق لتشمل أفغانستان؛ حيث تعهَّدتا بالعمل معاً في عملية إعادة إعمار أفغانستان، بما في ذلك ضمها إلى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني الذي تبلغ تكلفته 60 مليار دولار إلى أفغانستان، وهو ما قابلته حكومة طالبان بترحيب شديد؛ حيث أعربت عن استعدادها للمشاركة في المشروع، نظراً إلى ما يحمله من فرص إيجابية للاستثمار في البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها.
7- تحسن نسبي في العلاقات مع الولايات المتحدة: في سبتمبر 2023، حضر وفد أمريكي مؤتمر التجارة الأفغاني في العاصمة الأفغانية كابول، وصرَّحوا بأنهم يعملون على الإفراج عن الأصول المجمدة في الدولة، ورفع العقوبات المفروضة على النظام المصرفي الأفغاني، مشيرين إلى فرص واسعة للاستثمار الأجنبي في أفغانستان في الوقت الراهن. وتُعَد هذه المرة هي الأولى التي يزور فيها وفد تجاري أمريكي أفغانستان منذ سيطرة طالبان على السلطة، بما يشير إلى احتمالية حدوث انفراجة في العلاقات الأمريكية مع حكومة طالبان.
إجمالاً، رغم التطورات الإيجابية التي يشهدها الاقتصاد الأفغاني على الصعيد النقدي، التي ظهرت نتائجها جلياً من خلال تعزُّز قيمة العملة الأفغانية، بجانب تحسُّن علاقة حكومة طالبان بكلٍّ من الصين والولايات المتحدة – وهي التطورات التي من المحتمل أن تحمل منافع اقتصادية مهمة للدولة الأفغانية خلال الفترة المقبلة – فإنه حتى الوقت الراهن لم ينعكس أي تحسُّن أو توقعات إيجابية في الاقتصاد على الحالة الإنسانية في الدولة؛ حيث لا تزال في وضع مُزْرٍ. فبينما كانت تخطط الولايات المتحدة للإفراج عن 3.5 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي المجمدة من أصل 9.5 مليار دولار، فإنها أوقفت تلك العملية نتيجة المخاوف المثارة بشأن مدى استقلال البنك المركزي عن طالبان، وأوجه القصور في ضوابط مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب؛ وذلك بحسب المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان في يوليو 2023، بما يدلل على كون مساعي إصلاح العلاقات الأفغانية مع الولايات المتحدة، لا تزال محل شك، خاصةً أنه لا تزال حكومة طالبان غير مُعترَف بها دولياً، بما يدفع إلى القول بأنه من غير المُرجَّح أن تنحسر الأزمة الاقتصادية الحالية في أفغانستان، إذا استمرت الأوضاع المحلية والدولية لحكومة طالبان على حالها دون تغيير، بالإضافة الى استمرار تصاعد النشاط الإرهابي لتنظيم داعش في الدولة