ياسمين أيمن

تلوح في الأفق احتمالية تزايد التوترات بين الولايات المتحدة والصين بشكلٍ كبير خلال ولاية "دونالد ترامب" الثانية، ولا سيما مع تهديداته بفرض المزيد من الرسوم الجمركية، ووضع حدود على تصدير التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين. ورداً على ذلك، هدد المسؤولون الصينيون بفرض المزيد من القيود على الشركات الأمريكية العاملة داخل حدودها. ويمكن أن تشمل هذه التدابير سياسات شراء حكومية أكثر صرامةً، وتحديد الشركات الأمريكية على أنها "كيانات غير موثوقة"؛ ما يقلل بشكل فعَّال من وصولها إلى الأسواق، وقدرتها التنافسية في الصين. ويؤكد هذا الموقف الانتقامي تزايد المخاوف في بكين فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية الأمريكية التي يُنظَر إليها على أنها عدوانية وضارة بالمصالح الاستراتيجية للصين.تحديات متنوعةهناك جملة من التحديات التي تواجه الشركات التكنولوجية المنخرطة في الأسواق الصينية خلال ولاية "ترامب" الثانية، وهو أمر يمكن توضيحه فيما يلي: 1– الحاجة إلى تعزيز التعاون مع الشركاء المحليين في الصين: سيكون على الشركات التكنولوجية الأمريكية العاملة في الأسواق الصينية، تعزيز التعاون مع الشركاء المحليين، واكتساب ثقة المستثمرين الصينيين والحكومة الصينية من جهةٍ أخرى، في ظل التهديد والوعيد المستمر من جانب الرئيس المنتخب دونالد ترامب؛ فمثلاً في الأوقات الحالية تعمل شركة "أبل" التي تمثِّل السوقُ الصينية لها أهمية محورية في مبيعاتها، على التفاوض مع شركتي "بايت دانس" و"تينسينت" لإدماج نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بتلك الشركات في أجهزة "آيفون" التي يتم بيعها في الأسواق الصينية، خاصةً أن اللوائح التنظيمية الصينية تحظر استخدام "شات جي بي تي" المستخدم في نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة "أبل" منذ عام 2023م.2– البحث عن دول أخرى لتصنيع التكنولوجيا الأمريكية: تملك بكين قدرات تصنيعية عالية؛ ولذلك تختار العديد من الشركات الأمريكية التكنولوجية تصنيع منتجاتها في الصين، بالنظر إلى تفوق بكين في مجال التصنيع وانخفاض تكلفة الأيدي العاملة مقارنةً بدولة متقدمة مثل الولايات المتحدة، ولكن إذا قامت بكين بتضييق الخناق خلال الأوقات القادمة على الشركات التكنولوجية الأمريكية، فسيكون هناك تحدٍّ كبير أمام الشركات لإيجاد مكان آخر يعوِّض القدرات التصنيعية الصينية في الوقت الراهن، وهو أمر شديد الصعوبة بالنظر إلى عدم وجود دولة تمتلك مؤهلات الصين في الوقت الحالي.وقد لجأت شركة "أبل" إلى الهند لتصنيع هاتف آيفون 17، ولكنها أعلنت أنها ستحافظ على تحديث هذا الجهاز داخل الصين، كما أن 90% من أجهزة آيفون وأجهزة الكمبيوتر الخاصة بالشركة، وملحقات هذه الأجهزة، تُصنَّع في الصين؛ لذلك فالتحول إلى دولة أخرى في الوقت الراهن ليس سهلاً. وعلى صعيد آخر، فإن رجل الأعمال "إيلون ماسك" الحليف الأول لترامب ومالك شركة "تسلا" في الوقت الحالي، ستتضرر مصانعه الموجودة في الصين، ولكنه أعلن عن اعتزامه افتتاح مصانع جديدة في جنوب شرق آسيا خلال الفترة القادمة. وثمة العديد من الدول المقترحة في هذا السياق مثل ماليزيا وسنغافورة.3– احتمالية تضييق الصين على الشركات الأمريكية: من المتوقع أن تنشط بكين هي الأخرى لتضييق الخناق على الشركات الأمريكية التكنولوجية، وفرض رسوم عليها، وقيود على مبيعاتها في الأسواق الصينية، وهو أمر سيجبر الشركات التكنولوجية الأمريكية العاملة على البحث عن أسواق بديلة عن السوق الصينية، وهو أمر سيكون صعباً في الوقت الراهن على المدى القصير، بالنظر إلى حجم السوق الصينية الكبير، وحتى لو تم اللجوء إلى السوق الهندية بدلاً من السوق الصينية، فإن ذلك لن يكون كافياً في الوقت الحالي لتعويض الخسائر التي قد تنجم عن ترك السوق الصينية.4– توجه الحكومة الصينية نحو دعم الشركات المحلية: من المتوقع أن تنشط الحكومة الصينية في دعم الشركات المحلية العاملة في المجالات التكنولوجية لتعزيز قدرتها التنافسية، وتأهيلها للتخلي عن التكنولوجيا الأمريكية يوماً ما، وهو أمر لن يتحقق بين ليلة وضحاها، ولكن زيادة نشاطه خلال الفترة القادمة، سيفرض تحديات أمام الشركات الأمريكية العاملة في الصين حالياً، وهو أمر بدأت بكين تفعله منذ سنوات، استفادةً من ولاية "ترامب" الأولى؛ حيث دعمت الشركات الصينية، مثل "هواوي" و"أوبو" و"أونور" و"إكسيموي" و"فيفو".وجدير بالذكر أنه مع بدء السماح بإدخال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الهواتف المحمولة، قد يكون للشركات المحلية مزايا أكبر من تلك الأجنبية الموجودة داخل الصين، وهو ما سيعزز قدرتها التنافسية، خاصةً أن أسعارها شديدة التنافسية مقارنةً بأسعار الهواتف المحمولة المملوكة لشركة أمريكية مثل "أبل".5– الاضطرار إلى تقديم تنازلات للشركات الصينية: سيكون على الشركات الأمريكية العاملة في مجال التكنولوجيا تقديم بعض التنازلات للشركات الصينية المحلية إذا أرادت الحفاظ على وجودها في الأسواق الصينية، على غرار التنازل عن خصوصية المستخدمين التي تسعى شركة "بايدو" الصينية إلى الحصول عليه من شركة "أبل" مقابل التعاون معها فيما يتعلق بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي يميز شركة "أبل" بالأساس بالنسبة إلى المستخدمين؛ لذلك سيكون من الصعب عليها تنفيذ هذا الطلب، لكن الشركات الأمريكية المختلفة قد يكون عليها تنفيذ تنازلات من هذا القبيل. وعلى صعيد آخر، قد يكون هناك حاجة إلى تقديم المزيد من التنازلات للسماح للرقابة الصينية الحكومية على مختلف التطبيقات، وهو أمر يُعَد مساعدة "للأنظمة الاستبدادية" من وجهة النظر الأمريكية.6– تزايد الرفض الشعبي للشركات الأمريكية: على غرار مشاعر العداء المتنامية تجاه الصينيين التي ساعد "ترامب" في تنميتها بين أفراد المجتمع الأمريكي بعد انتشار جائحة كورونا خلال عام 2020، من المتوقع في حال توجُّه "ترامب" نحو تطبيق المزيد من الرسوم الجمركية، وتضييق الخناق على المنتجات والشركات الصينية داخل الولايات المتحدة، أن تتزايد مشاعر العداء القومية الصينية تجاه الشركات الأمريكية أيضاً، بل قد يتم التوجه حينها أيضاً للبحث عن منتجات صينية بديلة عن المنتجات الأمريكية، وهو ما سيجعل الشركات الأمريكية التكنولوجية تخسر سوقاً هامةً مثل السوق الصينية التي تُدِر عليها مليارات الدولارات.وهو أمر سبق أن حدث مع شركة تصنيع الرقائق الإلكترونية "إنيفيديا"؛ حينما منع "ترامب" شركات "هواوي" و"زي تي إيه" من الوصول إلى الرقائق الأمريكية؛ حيث شجعت الحكومة الصينية الشركات المحلية على البحث عن بديل محلي لتلك الرقائق الباهظة التكلفة والصعبة التصنيع، ونجحت بعض الشركات بالفعل في تطوير رقائق إلكترونية، بما يمثل خسارة لشركة "إنيفيديا".7– أهمية التحلي بالمرونة لدراسة البدائل المتاحة: سيكون على الشركات التكنولوجية العاملة في الصين التحلي بقدر أكبر من المرونة خلال الفترة القادمة؛ حيث سيكون عليها تكوين تحالفات داخل وخارج الصين استعداداً لسياسات "ترامب" العدائية تجاه بكين؛ علماً بأن الصين تريد في الأساس إيجاد وسيلة للتعاون مع النظام الأمريكي الجديد؛ لأنها لا ترغب في تكبُّد خسائر اقتصادية. ولكن إذا فشلت في ذلك، فسيكون عليها هي الأخرى تنمية قدراتها التكنولوجية، وهو أمر نجحت في تحقيقه شركة مثل "هواوي"؛ حينما حُرمت من الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية. ومع ذلك، لن تتمكن الصين في الوقت الراهن من التخلي عن التكنولوجيا الأمريكية لأنها لم تصل إلى ذلك المستوى المتقدم؛ لذلك فإنها لن تضيق الخناق كلياً على الشركات الأمريكية العاملة لديها.تبعات العولمةإجمالاً، يمكن القول إن الصراع الاقتصادي المتنامي في الأوقات الراهنة بين واشنطن وبكين، ما هو إلا جزء من تبعات العولمة والحرية الاقتصادية التي سعت واشنطن إلى نشر قيمها في جميع أنحاء العالم مع انتهاء الحرب الباردة؛ ولذلك لم يعد من السهل انسلاخ دولة ما عن الأخرى بصورة كلية؛ فحتى لو وقعت اضطرابات سياسية بين الدول، فإن الروابط الاقتصادية تحول دون انفكاك هذه الدول بعضها بع بعض بشكلٍ كلي. وفي حالة الولايات المتحدة والصين، فإن الخسائر الاقتصادية التي ستتبع تطبيق المزيد من الرسوم الجمركية لن تقع على عاتق طرف واحد، بل ستضر بجميع الأطراف، إلا أنها في المطلق ستكون محفزاً لبكين على السعي لتطوير قدراتها التكنولوجية بعيداً عن واشنطن التي باتت تنظر إلى الصين كعدو أول لها، وستكون دافعاً للشركات الأمريكية نحو البحث عن أسواق ومنشآت تصنيع بعيدة عن الصين.

تحديات شركات التكنولوجيا الأمريكية العاملة في الصين خلال حُكم ترامب