د. منى سليمان

أعلن رئيس وكالة الصناعات الدفاعية التركية "هالوك جورجون"، في بيان على وسائل التواصل الاجتماعي نُشر يوم 20 ديسمبر 2024، عن توقيع مذكرة تفاهم بين الوكالة ووزارة الدفاع الإسبانية حول مشروع تطوير طائرات التدريب النفاثة (HÜRJET)، وأكد أن المذكرة تعكس حرص تركيا على تطوير التقنيات الدفاعية المستقلة مع الدول الصديقة والحليفة. وقد رحبت الأوساط الإسبانية بالاتفاق، لا سيما بعد التقارب السياسي بينهما الذي شهده العام الحالي، وكان له مؤشران: زيارة الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الناجحة إلى مدريد في يونيو الماضي، والتوافق بينهما حول القضية الفلسطينية بعد حرب غزة، كما تشهد المواقف السياسية للدولتين توافقاً في مختلف الملفات؛ ما سيؤدي إلى الارتقاء بالتعاون بينهما إلى التحالف الاستراتيجي، وهو ما سينعكس إيجاباً على التعاون العسكري بينهما داخل حلف "الناتو".أبعاد رئيسيةتحرص تركيا وإسبانيا على تعزيز التعاون بينهما في شتى المجالات؛ ما حقق طفرة كبيرة بين الدولتين. وأجرى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" زيارة ناجحة إلى مدريد في يونيو 2024، التقى خلالها ملك إسبانيا "فيليب السادس"، ورئيس الوزراء "بيدرو سانشيز"، وبحث معهما تطوير التعاون بمختلف المجالات، وترأس خلالها القمة الحكومية التركية الإسبانية الثامنة التي بحثت تطوير العلاقات السياسية بين الدولتين لصوغ موقف إقليمي دولي مشترك من القضايا الراهنة. هذا التقارب استدعى تعاوناً دفاعياً بين الطرفين، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:1– التعاون التركي الإسباني للإنتاج العسكري المشترك: كشف "أردوغان"، في يونيو 2024، خلال زيارته إلى إسبانيا، أن أنقرة ومدريد بدأتا العمل على إنتاج مشترك لسفينة عسكرية برمائية جديدة، وأن الدولتين تدرسان التعاون في تصنيع وإنتاج طائرات وغواصات مسيَّرة، وكذلك سفينة هجومية برمائية جديدة، بعدما صنعت الدولتان سفينة "تي سي جي أناضول". جدير بالذكر أن تركيا تعتمد على التعاون المشترك مع إسبانيا لتطوير صناعتها العسكرية، وترغب الأخيرة في الحصول على المسيرات التركية التي أثبتت فاعليتها مؤخراً، وربما تُعقد قريباً صفقة بينهما لبيع المسيرات التركية، لا سيما طراز (بيرقدار) الذي حصلت عليه أكثر من 30 دولة.2– تعدد صفقات بيع الأسلحة بين الدولتين: قامت تركيا عام 2021 بشراء حاملة طائرات من إسبانيا متوسطة الحجم، وأعلنت عن رغبتها في شراء حاملة طائرات إسبانية كبيرة الحجم، ولكن لم تتم الصفقة حتى الآن، كما طلبت تركيا عام 2023 رسمياً شراء (40 مقاتلة يوروفايتر) الأوروبية المصنعة بالتعاون بين المملكة المتحدة البريطانية وإسبانيا. يذكر أن إسبانيا احتلت عام 2018 المرتبة الخامسة في تصدير الأسلحة لتركيا، ثم أعلنت عام 2019 تعليق بيع المعدات العسكرية لأنقرة اتساقاً مع قرار أوروبي يُلزِمها بذلك اعتراضاً على التدخل العسكري التركي شمال شرق سوريا باسم عملية "نبع السلام".3– التعاون في مجال الطائرات النفاثة: وقَّعت تركيا وإسبانيا، يوم 20 ديسمبر الجاري، مذكرة تفاهم للتعاون الثنائي في مجال طائرات التدريب النفاثة. وهذا الأمر يرتبط بصورة رئيسية بطائرة (HÜRJET) التركية. وأفاد رئيس هيئة الصناعات الدفاعية التركية هالوك جورجون، في تصريح على "إكس"، أن المذكرة وُقِّعت بين الصناعات الدفاعية التركية ووزارة الدفاع الإسبانية، وأوضح أنهم يواصلون تعزيز التعاون في مجال الصناعات الدفاعية مع الدول الحليفة، ومشاركة التقنيات الوطنية مع الدول الصديقة. وأضاف جورجون أن مذكرة التفاهم ستشكل أساس التعاون مع إسبانيا البلد الحليف في حلف شمال الأطلسي "ناتو".4– مساعي إسبانيا للاستعانة بأنقرة لتحديث أسطول طائراتها: تشير العديد من التقارير إلى أن إسبانيا تسعى إلى الحصول على طائرة حرجيت (HÜRJET) التركية بديلاً لبعض الطائرات في أسطولها، وخاصةً الطائرات من طراز F–5. وتستهدف هنا الحصول على 24 طائرة من طراز حرجيت. وقد أجرت الطائرة التركية عرضاً تجريبياً ناجحاً لصالح القوات الجوية الإسبانية؛ حيث أُجرِي الهبوط الأولي للطائرة في قاعدة "توريخون" الجوية بالقرب من مدريد.وتتميز طائرة حرجيت بأنها طائرة تدريب متقدمة ذات محرك واحد، وتعد طائرة هجوم خفيف، ووُصِفت بأنها بديل مثالي لطائرات التدريب المتقدمة الأخرى، مثل (Boeing T–7) و(KAI T–50) و(Leonardo M–346). وتهدف شركة "توساش" المصنعة للطائرة إلى تصنيع (100 طائرة) منها لصالح لتركيا، وتصدير (300 طائرة) أخرى بنهاية عام 2030.تداعيات مستقبليةيمكن القول إن التعاون العسكري المكثف بين تركيا وإسبانيا يستدعي عدداً من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1– التوسع في تصدير المنتجات الدفاعية التركية: أوضح المدير العام لشركة "توساش" المصنعة للطائرة (HÜRJET) "محمد ديمير أوغلو"، أن هناك إقبالاً كبيراً من الدول الأوروبية وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى للحصول عليها، وأكد بيان وزارة الدفاع التركية أن "التعاون مع إسبانيا سيعزز التعاون مع الحلفاء في مجال الصناعات الدفاعية، ويزيد من النجاح التركي في هذا المجال"، كما سيحقق الهدف التركي في الوصول "إلى الاستقلال بتصنيع التقنيات العسكرية"، ثم تصديرها والمشاركة في تصنيعها مع الدول الصديقة والحليفة. وسبق أن أعلن "أردوغان" عن هدف تركيا في تحقيق الاعتماد على نفسها بنسبة (80%) من صناعاتها الدفاعية، كما أن تصدير المنتجات الدفاعية التركية إلى إسبانيا سيعزز التوسع في تصديرها إلى كافة الدول الناطقة بالإسبانية في أمريكا اللاتينية؛ نظراً إلى تأثرها بتوجهات السياسة الخارجية لمدريد.2– مواصلة مدريد دعمها انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: أعلنت إسبانيا، في أكثر من مناسبة، دعمها انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بعكس دول أخرى رفضت ذلك؛ منها (ألمانيا، وفرنسا، واليونان)؛ حيث جدد رئيس الوزراء الإسباني "بيدرو سانشيز"، خلال زيارته إلى تركيا، في نوفمبر 2021، دعم بلاده انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، وأوضح أن ذلك يسهم في تقوية العلاقات بين الدولتين من جهة، وتقوية العلاقات بينهما وبين الاتحاد من جهة أخرى؛ لأن "تركيا ليست مجرد جار، بل إنها حليف مشترك للاتحاد"، ودعا الاتحاد إلى إعادة استئناف مفاوضات انضمام تركيا إليه، وهو ما رحَّب به "أردوغان"، ودعا الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ "خطوات ملموسة ونهج استراتيجي" لتطوير العلاقات مع تركيا المرشحة لعضوية الاتحاد، كما رفضت إسبانيا التوقيع على بيان أوروبي عام 2024 ينتقد تراجع حقوق الإنسان في تركيا ويطالبها بالإفراج عن رجل الأعمال التركي الألماني "عثمان كافالا" المسجون بتركيا بذريعة تورطه في الانقلاب الفاشل عام 2016.3– تكثيف التعاون الأمني لمواجهة أزمة الهجرة: يمكن أن يشمل التعاون التركي الإسباني المتقدم التعاون الأمني فيما بينهما لمواجهة التحديات الأمنية الراهنة، كخطر الإرهاب والهجمات السيبرانية وأزمة "الهجرة غير الشرعية" التي تعاني منها تركيا وإسبانيا؛ حيث تمثل كل منهما "بوابة جنوبية" إلى الدول الأوروبية. وسبق أن وصف "أردوغان" تركيا وإسبانيا بأنهما "تحميان الحدود الجنوبية لأوروبا" بفضل موقعهما الاستراتيجي على جنوب شرق أوروبا وجنوب غربها.4– تعقيد العلاقات بين دول جنوب المتوسط "بالناتو": أكد رئيس وكالة الصناعات الدفاعية التركية "هالوك جورجون" أن مذكرة التفاهم مع إسبانيا بشأن الطائرات النفاثة، ستمثل أساس التعاون بين مدريد وأنقرة في مجال الصناعات الدفاعية، كما ستعزز التعاون داخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي تحظى الدولتان بعضويته. وهذا سيؤدي إلى تنافس تركي فرنسي، وفرنسي إسباني؛ نظراً إلى رغبة باريس في قيادة دول جنوب المتوسط داخل الناتو والاتحاد الأوروبي، وهو ما سيضاعف الملفات الخلافية بين أنقرة وباريس، التي تشمل (الدعم الفرنسي للأكراد في سوريا والعراق، والاعتراض الفرنسي على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، والتنافس على النفوذ في القارة الأفريقية والشرق الأوسط).5– احتمالية تزايد التحفظات اليونانية على التقارب التركي الإسباني: تتحفظ اليونان على أي تعاون عسكري وثيق بين دول جنوب المتوسط مع تركيا؛ نظراً إلى تفاقم الخلافات بينهما خلال العقد الماضي حول (حقوق التنقيب عن الغاز شرق المتوسط، والقضية القبرصية، و​الهجرة غبر الشرعية)؛ وذلك رغم المحاولات المتعددة من أنقرة وأثينا لاحتوائها. ومن المتوقع أن تعلن الأخيرة تحفظها على هذا الاتفاق؛ لأنه في عام 2021 أعربت اليونان عن قلقها إزاء توسيع التعاون العسكري بين إسبانيا وتركيا، ودعت أثينا مدريد إلى الالتزام بالقرار الأوروبي الصادر عام 2019 "بعدم إمداد تركيا بتكنولوجيات عسكرية قد تُستخدَم لممارسة أعمال عدائية وتقويض الاستقرار الإقليمي"، ثم بعد ذلك عززت أثينا أسطولها الجوي بشراء صفقة من طائرات (رافال المقاتلة) الفرنسية. وبنهاية نوفمبر 2024، تعمل اليونان على شراء "قبة حديدية" من إسرائيل لتطوير دفاعها الجوي في الوقت الذي تتوتر فيه العلاقات بين تل أبيب وأنقرة بفعل الدعم التركي للقضية الفلسطينية؛ ما يضاعف الأزمات بين دول جنوب المتوسط.6– مضاعفة الدعم التركي الإسباني للقضية الفلسطينية: ثمة توافق تركي إسباني على دعم القضية الفلسطينية حتى إعلان الدولة الفلسطينية بحدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وقد اتخذتا العديد من المواقف الجادة لدعم القضية؛ حيث أعلنت أنقرة ومدريد الانضمام إلى دعوة المحكمة الجنائية الدولية، وأعلنت أنقرة قطع التبادل التجاري مع إسرائيل، كما أعلنت مدريد اعترافها رسمياً بالدولة الفلسطينية في 28 مايو 2024، وهو ما رحَّبت به تركيا؛ فغداة ذلك، أجرى "أردوغان" اتصالاً هاتفياً بـ"سانشيز"، ثمَّن فيه القرار الإسباني، وأشار إلى أن ذلك سيعزز إرساء السلام والعدالة بالشرق الأوسط وصولاً إلى اتفاق سلام ينهي العنف بالمنطقة ويعلن الدولة الفلسطينية. وقد عكس الموقف السياسي التركي والإسباني الرافض للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تقارباً واضحاً في وجهات النظر بين الدولتين. وهذا سيؤدي في النهاية إلى مضاعفة الزخم الدولي الداعم لإعلان الدولة الفلسطينية التي تعد أكبر أزمات الشرق الأوسط.مما سبق، نرى أن تركيا وإسبانيا تحرصان على تعزيز التعاون العسكري بينهما، وهو ما ينعكس إيجاباً على تعاونهما بشتى المجالات؛ ما يؤهل للإعلان عن تحالف استراتيجي بينهما سيعزز مكانة الدولتين الإقليمية، ويضاعف الدعوات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، بيد أن استمرار التعاون التركي الإسباني، لا سيما العسكري، سيرتدُّ على الترتيبات الإقليمية جنوب المتوسط، وخاصةً في ظل المواقف الفرنسية اليونانية الإسرائيلية تُجاهَ أنقرة، وهو ما سيؤدي إلى المزيد من التعقيدات في العلاقات بين هذه الدول.

تداعيات تزايد التعاون الدفاعي بين تركيا وإسبانيا