أ.د حمدي عبد الرحمن حسن

كان إعلان اللجنة الانتخابية عن نتائج الانتخابات التي جرت في جنوب أفريقيا في 29 مايو 2024 بمثابة زلزال سياسي ولحظة فاصلة في التاريخ السياسي للبلاد. فقد بلغت نسبة إقبال الناخبين على التصويت مستوى منخفضاً للغاية بلغ 58%، وهو ما يعكس عدم الرضا عن السياسات الحكومية التي أدت منذ عام 2008 إلى زيادة الفقر، وعدم المساواة، والبطالة. على أن الظهور القوي لحزب "أومكونتو ويسيزوي" (إم كيه) التابع للرئيس السابق جاكوب زوما، والذي حصل على 14% من إجمالي الأصوات الوطنية، و45% من الأصوات في معقله الانتخابي بمقاطعة كوازولو ناتال، قد مثل تحدياً لمعظم التحليلات السياسية السائدة في جنوب إفريقيا.ويُظهر حزب زوما الجديد، الذي سُمي على اسم الجناح المسلح القديم (رمح الأمة) لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، كيف يستغل زوما البالغ من العمر 82 عاماً إرث الماضي النضالي لحشد دعم مواطني جنوب أفريقيا ضد الحزب الحاكم، الذي ادعى هو نفسه ذات يوم أنه سيحكم البلاد حتى "عودة المسيح".لقد أصبح زوما رغم العراقيل التي وُضعت أمامه البطاقة الرابحة في انتخابات الدولة الأكثر تقدماً في أفريقيا بعد ست سنوات من استقالته من رئاسة جنوب أفريقيا وسط أجواء من عدم اليقين السياسي. لقد تم تشكيل حزبه أومكونتو قبل ما يزيد قليلاً على ستة أشهر، ومع ذلك استطاع أن يستنزف دعماً كبيراً من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي واجه بالفعل أصعب اختبار له. إنّ أوراق اعتماد زوما، حيث كان رفيقاً لنيلسون مانديلا في السجن ونضاله في الحركة المناهضة للفصل العنصري، يتردد صداها بشكل خاص في مقاطعة كوازولو ناتال، مسقط رأسه.دخل جاكوب زوما السجن في عام 2021 بعد رفضه الإدلاء بشهادته في تحقيق يتعلق بتهم الفساد في الحكومة خلال الفترة التي كان فيها رئيساً من 2009 إلى 2018. أضف إلى ذلك فقد قررت المحكمة الدستورية حرمانه من الترشح للانتخابات في مايو الماضي، وهو ما اعتبره جزءاً من ضغينة ضده من قبل الحزب الحاكم ومؤسسة القضاء. ولا يسمح الدستور لأي شخص بالترشح للانتخابات إذا حكم عليه بالسجن لمدة 12 شهراً أو أكثر دون خيار الغرامة.ويستغل زوما وحزبه الجديد خطاباً شعبوياً لدغدغة مشاعر الشباب الذين لا يتذكرون سياسات الفصل العنصري. ولذلك نجده يستخدم الشعار نفسه للجناح العسكري القديم لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ويقدم وعوداً براقة بتوفير فرص عمل وتعليم مجاني ورعاية صحية أفضل للشباب الذين يشكلون غالبية سكان البلاد ولديهم الكثير من المظالم بشأن عدم المساواة العميقة التي لا تزال قائمة. ويزعم زوما أنه النسخة الحقيقية من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وأكثر تكريساً لمساعدة الأغلبية السوداء الفقيرة في جنوب أفريقيا.معضلة الاستقرارإن عودة حزب زوما تجعل قضية مستقبل الاستقرار السياسي في جنوب أفريقيا على المحك. يرتبط ذلك بالتراث النضالي للرئيس زوما، والعامل العرقي المتمثل في مسقط رأسه في بلاد الزولو. وقد ظهر ذلك واضحاً في زيادة دعم حزب زوما على حساب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وفي الوقت نفسه، زاد حزب إنكاثا للحرية، الذي يعبر سياسياً عن قومية الزولو، نصيبه ليصل إلى 17 مقعداً، مما يشير إلى أن وجهات النظر التبسيطية حول العرق لا تؤثر بالضرورة على الولاء السياسي.وإذا تم استبعاد حزب زوما من أي تحالف سياسي فقد تكون لذلك تبعات سياسية، حيث يصبح إقليم كوازولو ناتال غير قابل للحكم. وربما يذكرنا ذلك بأعمال الشغب والنهب واسعة النطاق التي اندلعت في يوليو 2021 بعد سجن زوما. ومن جهة ثانية، تعاني مقاطعة الزولو من تحديات الجريمة والمحسوبية، وخاصة في صناعة سيارات الأجرة، وإدارة الأراضي، والتي تشكل جزءاً من صندوق إنغونياما الذي أُنشئ عام 1994. ويسيطر الصندوق -الذي يُعتبر ملك الزولو وصياً عليه- على حوالي 30% من أراضي المقاطعة في ظل غياب الشفافية.وقد أدى صراع شرس داخل عائلة الزولو المالكة إلى تتويج رامافوسا لميسوزولو ملكاً للزولو عام 2023، لكن المحكمة العليا في بريتوريا قضت ببطلان هذا الأمر لأسباب إجرائية. وأمرت المحكمة بإجراء تحقيق في اعتراضات الأخ غير الشقيق للملك، الأمير سيماكادي زولو، الذي يقول إنه الوريث الشرعي. ولا يزال الحكم الآن قيد الاستئناف. ومن جهة ثالثة، فإن التقاء القبلية مع حزب سياسي متهم بالفساد ونهب موارد الدولة، وعازم على التهرب من العدالة، قد يؤثر على سمعة البلاد واستقرارها السياسي.مشكلة التنميةما من شك أن أي تحالف سياسي مع حزب زوما منفرداً أو مع حزب المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية بزعامة جوليوس ماليما وخطابه الشعبوي الذي يطالب بتولي حقيبة المالية قد يدفع إلى الاستقرار، ولكنه سوف يؤثر عكسياً على مسيرة البلاد التنموية. ومن المرجح أن تتراجع الثقة في الاقتصاد والاستثمار الأجنبي المباشر، وسوف تتراجع العواقب المترتبة على سيادة القانون، وهو ما يعني الإفلات من العقاب. وفي هذه الحالة لتعزيز الخيار التنموي وإكمال مسيرة الرئيس رامافوزا يمكن تصور خيارين رئيسيين يعملان على استقرار مقاطعات كوازولو وغوتنج إلى جانب كيب الغربية التي تمثل قلب جنوب أفريقيا الاقتصادي والسكاني:السيناريو الأول: التحالف الثلاثي بين حزب المؤتمر الوطني والتحالف الديمقراطي وحزب الحرية إنكاثا ممثلاً عن الزولو. ويقدم التحالف الديمقراطي نفسه على أنه رائد الأعمال واقتصاديات السوق الحرة، ويفضل إلغاء بعض إجراءات تمكين السود الرائدة التي اتخذها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والتي يقول إنها لم تحقق أي نجاح، وكثيراً ما يتهم الحزب الديمقراطي بأنه يمثل مصالح الأقلية البيضاء المتميزة، بيد أنه يرفض هذا الوصف ويقول إن الحكم الرشيد يفيد جميع مواطني جنوب أفريقيا. وثمة إمكانية لتشكيل حكومة أقلية تابعة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي بدعم من التحالف الديمقراطي وحزب الحرية إنكاثا مقابل مشاركتهما في بعض المناصب التنفيذية، وترك رئاسة البرلمان وبعض اللجان المهمة للتحالف الديمقراطي. في هذه الحالة تضمن حكومة حزب المؤتمر الحصول على الدعم اللازم في عمليات التصويت المهمة، مثل الميزانية أو أي اقتراحات بالثقة، مقابل تنازلات سياسية والمشاركة في العملية التشريعية.السيناريو الثاني: تشكيل حكومة وحدة وطنية، تمثل الطريق الثالث الذي يضم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، والتحالف الديمقراطي، وحزب (إم كيه)، والحرية إنكاثا، والمناضلين من أجل الحرية الاقتصادية. وهنا يمكن إدارة مقاطعة غوتنغ بشكل فعال من قبل ائتلاف بقيادة التحالف الديمقراطي. أما كوازولو فتدار من قبل ائتلاف بقيادة حزب زوما. بيد أن هذا الخيار قد ينطوي على خطر عدم الاستقرار والانهيار، أو انسحاب حزب أو أكثر، مما يترك حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في ائتلاف مع حزبي المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية وحزب زوما. لقد تم وصف التحالف بين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب المناضلين من أجل الحرية أو حزب (إم كيه) بأنه "سيناريو يوم القيامة" من قبل التحالف الديمقراطي، حيث سينظر إلى هذا التحالف على أنه مثير للقلق للغاية من قبل الأسواق المالية والمستثمرين الأجانب.ومن المعروف أن المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية، بقيادة جوليوس ماليما، الزعيم السابق المثير للجدل لجناح الشباب في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي انشق عن الحزب، يسعون إلى تأميم المناجم والبنوك والاستيلاء على الأراضي من المزارعين البيض لإعادة توزيعها على المزارعين السود.وعلى أية حال يجب أن ينعقد البرلمان الجديد بحلول 16 يونيو 2024، وسيكون أول أعماله اختيار رئيس للبلاد. وفي ظل الوضع الحالي، يبدو من المرجح أن يكون الرئيس الحالي سيريل رامافوزا، هو الأوفر حظاً، على الرغم من أنه قد يتعرض لضغوط للاستقالة أو الاستعداد لخلافته نظراً للأداء الضعيف لحزب المؤتمر الوطني في الانتخابات الأخيرة. وفي جميع الحالات تمثل عودة جاكوب زوما وحزبه الذي يعني "رمح الأمة" خصماً سياسياً من رصيد الحزب الحاكم، ورقماً صعباً في معادلة القوة خلال الفترة القادمة في جنوب أفريقيا، والتي تؤثر على توجهاتها المستقبلية نحو الاستقرار والتنمية، ولا سيما أنها سوف تتولى رئاسة مجموعة العشرين.

كيف يؤثر حزب "رمح الأمة" على مشهد ما بعد انتخابات جنوب أفريقيا؟