د. أحمد عسكر

أعلنت اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة في الكونغو الديمقراطية، في 1 يناير 2024، عن فوز الرئيس المنتهية ولايته فليكس تشيسيكيدي بولاية ثانية وفقاً للنتائج الأولية للانتخابات الرئاسية التي أجريت في 20 ديسمبر على مدار يومين، والتي امتدت لليوم الثالث بسبب بعض التحديات اللوجستية التي عرقلت العملية الانتخابية في بعض المناطق، وتنافس فيها نحو 19 مرشحاً؛ وذلك بعد حصول تشيسيكيدي على أكثر من 13 مليون صوت بنسبة 73.34% من إجمالي أصوات الناخبين بنسبة مشاركة بلغت 43% من أصل 44 مليون ممن يحق لهم الانتخاب في البلاد البالغ عددهم أكثر من 111 مليون نسمة.وتشير نتائج الانتخابات إلى بوادر مرحلة جديدة من الاضطرابات والتوترات السياسية والأمنية التي طالما صاحبت معظم الاستحقاقات الرئاسية في الكونغو الديمقراطية منذ استقلالها في عام 1960، بما يعزز المخاوف من انخراط البلاد في أزمة سياسية خلال الفترة المقبلة. ويعزز هذا الطرح موقف المعارضة الرافض للانتخابات الرئاسية ونتائجها بسبب الممارسات التي تورط فيها النظام الحاكم خلال العملية الانتخابية بحسب مزاعم أطراف المعارضة؛ الأمر الذي يهدد مستقبل البلاد التي تعاني بالأساس سلسلة من الأزمات الأمنية والاقتصادية على مدار السنوات الماضية بتفاقم الأوضاع هناك خلال المرحلة المقبلة.صدام سياسييشير السياق العام في المشهد السياسي الكونغولي إلى بوادر أزمة سياسية في البلاد قد تتفاقم في ظل تصعيدات الأطراف السياسية عقب الانتخابات، ويمكن الإشارة إلى أبرز مؤشرات التوتر في الداخل الكونغولي على النحو التالي:1- التشكيك في نزاهة العملية الانتخابية: اتهمت المعارضة قبل إجراء الانتخابات الأخيرة نظام تشيسيكيدي بمحاولة التلاعب في الانتخابات ونتائجها، وبرر قادة المعارضة ذلك بعدم نزاهة المؤسسات المشرفة على الانتخابات التي يشرف عليها موالون للرئيس الكونغولي، مثل اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة التي يرأسها دينيس كاديما الحليف المقرب من الرئيس، الذي ينتمي إلى مجموعته العرقية لوبا.بالإضافة إلى ذلك شابت بعض الخروقات عملية التصويت خلال العملية الانتخابية وقبلها أيضاً، مثل المخالفات في عملية تسجيل الناخبين، التي عززت مخاوف المعارضة من تزوير الانتخابات، خاصة أن بعض البطاقات الانتخابية لم تكن صالحة للاستعمال، وتجاهل تسجيل أعداد من المواطنين في بعض المناطق التي تمثل معقلاً للمعارضة، مثل مقاطعتي كيفو وإيتوري في شرق البلاد وإن كانت تشهد توتراً أمنيّاً متصاعداً، وتأخر بدء عملية التصويت في ثلث مقار الاقتراع في مناطق مختلفة من البلاد، وتأخر توصيل المواد اللازمة للعملية الانتخابية وبعض الأعطال في الأجهزة، بجانب تمديد فترة التصويت في مراكز الاقتراع ليوم إضافي بشكل غير دستوري وفقاً للمعارضة التي ترى أنه يشكل أساساً كافياً لإعادة الانتخابات، واتهام اللجنة الانتخابية بعدم جمع نتائج الانتخابات بالكامل بما يتوافق مع قانون الانتخابات. ومع تسليم رئيس لجنة الانتخابات بوجود بعض المخالفات خلال العملية الانتخابية، إلا أنه أصر على أن النتائج تعكس إرادة الشعب الكونغولي.2- تزايد الأعباء المالية للانتخابات: وهي الأعباء التي تشكل ضغطاً على ميزانية الدولة وسط تحديات اقتصادية في البلاد ينعكس أثرها على سوء الأوضاع المعيشية لقطاعات كبيرة من المواطنين في البلاد؛ فقد أشارت تقارير إلى تجاوز تكلفة إجراء الانتخابات مليار دولار؛ ما يترتب عليه توسيع العجز المالي للبلاد هذا العام، لا سيما أن ضغوط الصرف الأجنبي الناجمة عن الإنفاق المتزايد على الأمن وترتيبات ما قبل الانتخابات قد ترتب عليها انخفاض قيمة الفرنك الكونغولي بنسبة 20% مقابل الدولار الأمريكي، وهو ما يعزز حالة السخط العام ضد النظام الحاكم.3- تجاهل أنصار تشيسيكيدي الانقسامات الداخلية: انطلق أنصار الرئيس تشيسيكيدي إلى شوارع العاصمة للاحتفال بفوزه بولاية ثانية، وسط انقسام في الشارع الكونغولي بين مؤيد ومعارض لنتائج الانتخابات. يأتي ذلك في الوقت الذي تعهد فيه تشيسيكيدي بمعالجة جميع التحديات التي تواجه البلاد خلال فترة ولايته الثانية التي اعتبرها ضرورية لتعزيز المكتسبات بحسب وصفه، بالرغم من تباين الآراء حول حصيلة إنجازاته خلال الولاية الأولى التي بدأت منذ عام 2019.4- رفض المعارضة نتائج الانتخابات: استبق معظم مرشحي المعارضة السياسية ظهور النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية للإعلان في بيان مشترك عن رفضهم تلك الانتخابات ونتائجها، ووصفها بأنها خدعة، كما طالبوا بإجراء انتخابات جديدة بلجنة انتخابية جديدة في موعد يتفق عليه الجميع، وهو ما يشير إلى احتمال اندلاع أزمة سياسية حادة في ظل عدم قبول المرشحين الخاسرين ومؤيديهم نتائج الانتخابات.5- تعبئة الرأي العام للتظاهر ضد نتائج الانتخابات: صعَّدت المعارضة السياسية من موقفها تجاه ما سمته تزوير الانتخابات بالدعوة إلى تظاهرات حاشدة؛ ما أدى إلى اندلاع اشتباكات بين قوات الأمن وبعض أنصار مرشحي المعارضة مثل مارتن فيولو، الذي حاصرت قوات الأمن أنصاره حول مقره الانتخابي، وأطلقت الغاز المسيل للدموع في محاولة لتفريقهم.كما انتشرت قوات من الجيش في أجزاء مختلفة من العاصمة كينشاسا لمنع أي اضطرابات. وحظرت السلطات الأمنية مسيرة دعا إليها خمسة مرشحين خاسرون احتجاجاً على الانتخابات، وهو ما اعتبرته الحكومة سعياً إلى تقويض عمل مفوضية الانتخابات فيما يتعلق بحصر نتائج الانتخابات بشكل نهائي؛ وذلك بالرغم من توقيع مرشحي الرئاسة في نوفمبر 2023 على مدونة السلوك قبل انطلاق الحملات الانتخابية الرسمية التي تنص على مكافحة جميع أشكال العنف التي تصاحب العملية الانتخابية.6- انعقاد الانتخابات بالتزامن مع تحديات داخلية متفاقمة: جاءت تلك الانتخابات في إطار سياق معقد على الصعيد الداخلي بالبلاد، في ضوء ما تشهده من تحديات اقتصادية وأمنية وانتشار واسع للفساد، إضافة إلى الانخراط في توترات إقليمية معقدة؛ فلا يزال شرق الكونغو الديمقراطية يمثل تحدياً أمنيّاً للحكومة الكونغولية في ظل نشاط العديد من الحركات المسلحة المتمردة التي تجاوز عددها 120 حركة، بجانب تنظيم داعش الذي ينشط في البحيرات العظمى، وهو ما ينعكس بشكل سلبي على مستقبل استقرار وأمن الكونغو الديمقراطية خلال الفترة المقبلة.مخاوف قائمةتفتح حلقة التوتر الذي صاحب الاستحقاقات الرئاسية الأخيرة الباب أمام جملة من التداعيات المحتملة على الصعيدين الداخلي والدولي بالنسبة إلى الكونغو الديمقراطية؛ وذلك على النحو التالي:1- تصعيد أعمال العنف في البلاد: ربما تدعو المعارضة أنصارها إلى توسيع دائرة الاحتجاجات على نتائج الانتخابات في أنحاء البلاد، وهو ما قد يقابله قمع متزايد من قبل السلطات الأمنية لإخماد تلك التظاهرات التي تعزز حالة اللايقين في المشهد السياسي بالبلاد، وما قد يعنيه من حملة اعتقالات واسعة وربما سقوط قتلى وسط المتظاهرين بما يعمق الأزمة السياسية في البلاد.2- لجوء المعارضة إلى القضاء: ثمة مسار آخر قد تسلكه المعارضة للطعن في نتائج الانتخابات أمام المحكمة الدستورية، بالرغم من ضعف ثقة قطاع كبير باستقلالية مؤسسات الدولة، حتى إن أحد مرشحي المعارضة ممن خسروا السباق الرئاسي قد أعلن عن عدم تقديمه طعن قانوني للسبب نفسه. ومع ذلك، فإن من المتوقع أن تعتمد المحكمة الدستورية نتائج الانتخابات ورفض الطعون المقدمة من المعارضة، وهو ما قد يعزز السخط الشعبي تجاه مؤسسات الدولة.3- أزمة شرعية سياسية لنظام تشيسيكيدي: ربما تؤدي الأزمة السياسية في كينشاسا إلى انضمام قطاعات كبيرة من المجتمع الكونغولي المتضررة من تفاقم الأزمات الاقتصادية والأمنية في البلاد إلى صفوف المعارضة، بما قد يؤثر على الشرعية السياسية للنظام الحاكم في البلاد، ويضعه أمام المزيد من التحديات خلال الفترة المقبلة.4- ضعف الثقة بالديمقراطية: تعزز المعارضة مساعيها إلى كشف سلسلة الانتهاكات الانتخابية التي تورط فيها النظام الحاكم لضمان فوز مرشحه لولاية رئاسية ثانية بحسب مزاعمها، وهو ما قد يعزز غياب ثقة المواطنين بالمسار الديمقراطي والانتقال السلمي للسلطة في البلاد، وربما يدفع نحو التورط في أعمال العنف لتغيير الوضع الراهن بالقوة؛ ما يهدد أمن واستقرار البلاد في المدى المنظور.5- تفاقم التدهور الأمني في شرق البلاد: قد يؤدي اهتمام الحكومة الكونغولية بإخماد الأزمة السياسية بالداخل عقب الانتخابات إلى انشغالها عن مواجهة التهديدات الأمنية في شرق الكونغو الديمقراطية، بما قد يمثل فرصة للحركات المسلحة والتنظيمات الإرهابية لتوسيع دائرة العنف التي تتورط فيها هناك، وربما يمتد نشاطها إلى العمق الكونغولي وفي المحيط الإقليمي أيضاً.6- تصاعد التوتر الإقليمي: تستفيد بعض دول الجوار الإقليمي من توتر الأوضاع السياسية والأمنية في الكونغو الديمقراطية؛ إذ تشير تقديرات إلى أن رواندا تفضل وجود سياق فوضوي في الداخل الكونغولي لكي تتمكن من الاستمرار في نهب موارد البلاد بشكل غير قانوني بحسب مزاعم كينشاسا، بينما ترغب أنجولا في استمرار استخراج النفط بشكل غير قانوني من مياه الكونغو بالرغم من توقيع الطرفين اتفاقاً في يوليو 2023 للاستفادة المشتركة من النفط.ومن هنا، فإن من المرجح أن يتصاعد التوتر السياسي بين رواندا والكونغو الديمقراطية، لا سيما في ضوء اتهام تشيسيكيدي لها بالتورط في دعم الحركات المسلحة بشرق البلاد، خاصة أنه تعهد قبل الانتخابات بإعلان الحرب عليها برغم إدراك البعض أن تلك التصريحات كانت لأغراض سياسية؛ من أجل إثارة المشاعر القومية لحشد المؤيدين في السباق الانتخابي، كما يتوقع أن يدخل الرئيس تشيسيكيدي في مفاوضات جادة مع أنجولا لتسوية أزمة النفط، وفي حالة الفشل ربما يبدأ معركة سياسية جديدة معها، تعزز بدورها التوتر الإقليمي في وسط وغرب القارة الأفريقية.7- احتمالية التدخل الأجنبي في الكونغو: ربما تجد بعض القوى الدولية الفاعلة، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين، في تأزم المشهد السياسي والأمني في الكونغو الديمقراطية فرصة للانخراط من أجل السيطرة على الثروات المعدنية والموارد الطبيعية هناك، لا سيما معدن الكوبالت؛ الأمر الذي يعزز التنافس الدولي وما قد يصاحبه من عسكرة المنطقة بما في ذلك الكونغو الديمقراطية.وإجمالاً، من المرجح أن تصبح فترة ولاية تشيسيكيدي الثانية مفخخة بالعديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والإقليمية في ضوء تعقد التحديات والملفات الشائكة التي تنتظر الحكومة الجديدة خلال الفترة المقبلة، وسط استمرار المعارضة في تشكيل المزيد من الضغوط على النظام الحاكم، إضافة إلى التوترات الإقليمية بين كينشاسا وكل من رواندا وأنجولا، وما قد يترتب عليها من تصعيد ربما يدفع المنطقة نحو صراع محتدم تكون انعكاساته السلبية على المنطقة بأكملها مستقبلاً.

كيف تفاقمت التوترات في الكونغو الديمقراطية بعد الانتخابات؟