د. محمد عز العرب

لم تعد التحولات العسكرية والسياسية التقليدية التهديدات الأهم لأمن واستقرار دول الشرق الأوسط، حيث تصاعدت التهديدات غير التقليدية النابعة عن الظواهر السكانية والمشكلات الاقتصادية والأزمات الصحية، على غرار انتشار الأوبئة التي باتت تُنذر بتقويض دعائم أمن الأفراد والمجتمعات في دول الإقليم بصورة غير مسبوقة، خاصة مع الطفرة الاستثنائية في انتشار بعض الأمراض الوبائية في بعض دول الإقليم التي يتوقع أن يتزايد انتشارها في إطار تدفقات العمالة العابرة للإقليم، وحركة الهجرة البينية في ظل تصاعد السيادة المتعددة والسيولة الحدودية بين دول عديدة بالإقليم.تفاعلات كاشفةوفي سياق كهذا، كشفت الأمراض التي شهدتها دول الإقليم خلال عام 2024 عن محورية التفاعلات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، على النحو التالي:1- استمرار صراع السلطة بين الجيش والدعم السريع في السودان: إذ أدت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى انتشار عدد من الأمراض في مناطق مختلفة داخل ولايات عديدة، خاصة في شرق البلاد (ولايتا كسلا والقضارف)، وأبرزها وباء الكوليرا، نتيجة الأوضاع البيئية المتدهورة والافتقار إلى المياه الآمنة. ويتسبب المرض بالإسهال والجفاف الشديد، الأمر الذي قد يؤدي إلى الوفاة خلال ساعات، وفق منظمة الصحة العالمية، على نحو أدى إلى وفاة 300 شخص حتى منتصف أغسطس الجاري، بل يُتوقع أن تكون الأعداد أكثر مما يتم الإبلاغ عنه.وفي هذا السياق، قال وزير الصحة السوداني علي آدم، في تصريحات لوسائل إعلامية بتاريخ 19 أغسطس 2024، إن "الحرب التي تدور بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ أكثر من 16 شهراً أثرت بشكل مباشر في ظهور وانتشار المرض". كما أشارت المسؤولة بمنظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس، في تصريحات إعلامية، إلى أن الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب الأهلية في السودان تؤدي أيضاً إلى تفاقم انتشار أمراض منها الكوليرا.وفي سياق متصل، كشف رئيس منظمة "أطباء بلا حدود" كريستوس كريستو، في تصريحات بتاريخ 17 يوليو 2024، عن العلاقة بين الحرب في السودان وانهيار النظام الصحي قائلاً: "نعمل في 8 ولايات بالسودان وإحداها الخرطوم التي شهدت نزوح الملايين، نحاول أن نعيد عمل بعض المنشآت الصحية التي تأثرت بسبب الحرب، حيث إن أكثر من 70% من المنشآت الصحية في السودان لا تعمل بسبب أنها دُمرت أو نُهبت أو ليس لديها إمدادات كافية أو عدد كافٍ من الموظفين". ولفت إلى أن "التواصل يتم مع المنشآت الطبية الموجودة وخدمات وزارة الصحة، لكن يجب علينا التعاون مع الطرفين المتحاربين (الجيش، والدعم السريع) لضمان أمن وسلامة موظفينا".ومن ثمّ يمكن إرجاع تصاعد معدلات الإصابة بالكوليرا إلى فشل وعجز السلطات السودانية عن تقديم الخدمات العلاجية المناسبة للمرضى في التوقيت المناسب، نتيجة ضعف المنظومة الصحية، كما أن العنابر المخصصة لعزل المصابين بالكوليرا في أغلب المستشفيات لا تناسب طبيعة وسرعة الوباء في الانتشار، بخلاف ذلك لم تكن هناك شفافية من جانب السلطات الرسمية في الإعلان عن وباء الكوليرا، وهو ما عبر عنه البيان الصادر عن نقابة الأطباء السودانية على منصة (إكس)، حيث قال إن المعلومات المعلنة عن الوباء متعلقة بالمناطق الآمنة فقط، مشيراً إلى عدم توافر معلومات دقيقة عن الوضع الوبائي في الولايات التي تشهد عمليات عسكرية نشطة، ولا سيما في ظل نقص حاد في الموظفين والأدوية واللقاحات والمعدات.2- تعثر التعافي من انهيار المؤسسات في ليبيا: لا تزال ليبيا تعاني من السيادة المتعددة، والسلطة ذات الرأسين في الشرق والغرب، مما يؤثر على استعادة دور المؤسسات في القيام بدورها والمنشآت والهيئات العاملة في المجال الصحي، على الرغم من التصريحات الداعية للاهتمام بملف الصحة بعد انهيار سد درنة. وفي هذا السياق، قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، خلال افتتاحه يوم 25 نوفمبر 2023، مجمع عيادات مصراتة الذهبي، بعد الانتهاء من أعمال الصيانة والتجهيز والذي كان متوقفاً عن العمل منذ عام 2013 إنهم "يطمحون لأن يكون 2024 عام الصحة فـي ليبيا، وسيعملون على تحقيق ذلك".وأشار رئيس الحكومة غير المعترف بها من قبل البرلمان الليبي إلى أن افتتاح هذا المرفق الصحي هدفه السير خطوة أخرى نحو إصلاح وتجديد القطاع الصحي المتهالك، ويعكس الجهود المبذولة من جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية في تطوير المرافق الصحية والتعليمية، ضمن خطة عودة الحياة، إلا أن غياب التوافقات السياسية وانتشار الميلشيات المسلحة يقف عائقاً أمام تعافي ليبيا من دوامة العنف الممتد.3- غياب أفق انتهاء حرب غزة الخامسة: على الرغم من مرور عشرة أشهر على هجمات 7 أكتوبر 2023، والتي قادت إلى حرب غزة بين حماس وإسرائيل، لا توجد مؤشرات توحي بقرب وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب، على الرغم من الجهود التي تبذلها الأطراف الوسيطة، وتحديداً القاهرة والدوحة، لإنجاح اتفاق التهدئة. وفي سياق كهذا فإن الأمراض الجلدية، على سبيل المثال، تتفشى في غزة بسبب الأوضاع المروعة في المخيمات المكتظة التي تؤوي مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم، فضلاً عن تسجيل أكثر من مليون حالة التهاب حاد بالجهاز التنفسي منذ اندلاع الحرب.وفي يوليو 2024، كشفت منظمة الصحة العالمية أن هناك احتمالاً كبيراً لخطر تفشي فيروس شلل الأطفال في أنحاء قطاع غزة وما حوله بسبب الوضع الصحي الصعب، وكذلك تدهور نظام الصرف الصحي في القطاع الفلسطيني المنكوب بالحرب.وعلى الجانب الإسرائيلي، يمكن القول إن طول أمد الحرب على غزة، وعدم اتضاح جدول زمني لإنهاء القتال في ظل أحاديث العسكريين الإسرائيليين عن حرب معقدة وممتدة، على نحو يضع الجنود الإسرائيليين تحت وطأة المعاناة من الأمراض النفسية، التي تتراوح بين الاكتئاب والوساوس والميول الانتحارية، وصولاً إلى اضطراب ما بعد الصدمة، وهي أعراض "مزمنة" وتحتاج وقتاً طويلاً للعلاج وتلقي خدمات الصحة العقلية، على نحو ما أشارت إليه تحقيقات في صحيفتي "جيروسالم بوست" و"هآرتس"، لدرجة أن بعض التحليلات تذهب إلى إقرار الجيش الإسرائيلي بمواجهة "أكبر مشكلة للصحة النفسية" منذ عام 1973.4- تأثر الفئات المجتمعية الهشة بدورة الصراع الممتدة: يعد الأطفال والنساء وكبار السن أكثر الفئات تضرراً من استمرار الصراعات المشتعلة في المنطقة العربية. إذ يشير أحد التقارير الصادرة عن منظمة اليونيسيف في 19 أغسطس 2024 إلى ارتفاع عدد الأطفال دون سن الخامسة الذين يعانون سوء التغذية الحاد أو الهزال بنسبة 34% مقارنة بالعام 2023 في جميع مناطق سيطرة الحكومة اليمنية، مما يؤثر على أكثر من 600,000 طفل، من بينهم 120,000 يعانون سوء التغذية الحاد.ويمكن القول إن هذا الارتفاع الحاد يُعزَى إلى التأثير المركب لتفشي الأمراض (الكوليرا والحصبة)، وارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي، ومحدودية الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، والتدهور الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، في الزمام السكاني ذاته وُجد أن حوالي 223,000 امرأة حامل ومرضعة تعاني من سوء التغذية الحاد في عام 2024. ومن أجل حماية النساء والأطفال الأكثر عرضة للخطر، فإن الاستثمار في جهود الوقاية والعلاج وتوسيع نطاقها أمر بالغ الأهمية أكثر من أي وقت مضى.ولا يقتصر ذلك على مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، بل إن الأثر الحاد لتفشي الأمراض، وارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي، وضعف الوصول إلى الخدمات الأساسية؛ قائم في مناطق سيطرة الحوثيين. فبعد تسع سنوات من الصراع اليمني الذي خلّف دماراً واسعاً في البنية التحتية الصحية، تزداد الأوبئة والأمراض الأشد فتكاً مع اتساع دائرة الاحتياجات الصحية لملايين النازحين والأطفال الذين باتوا هدفاً للعديد من الأمراض المميتة مثل الكوليرا وحمى الضنك وشلل الأطفال وغيرها، فالنظام الصحي في اليمن أصبح هشاً بشكل كبير.5- التحوط من التأثيرات الانتشارية للأوبئة على دول الجوار: إذ تنتقل بعض الأوبئة عبر الحدود، ولا سيما في ظل اضطراب الانتقال السياسي والصراع المسلح داخل بعض الدول؛ حيث كشف مساعد وزير الصحة المصري، حسام عبد الغفار، في تصريحات صحفية بتاريخ 19 أغسطس 2024، في أعقاب إعلان وزارة الصحة السودانية تفشي وباء الكوليرا، عن رفع درجة التأهب والترصد المكثّف بالمنافذ البرية مع السودان، فضلاً عن تشديد الإجراءات الاحترازية بالمطارات، ضمن استعدادات البلاد لمواجهة تفشي الكوليرا في السودان والحد من انتقال أي عدوى للأراضي المصرية والحفاظ على الصحة العامة، وخاصة التصدي لمجموعة الأمراض التي يُخشى من انتقالها بين الدول، ولا سيما بعد انتشار جدري القرود في الكونغو.إذ أعلنت منظمة الصحة العالمية والهيئة الصحية التابعة للاتحاد الأفريقي تفشي جدري القردة في الكونغو وأماكن أخرى في أفريقيا واعتباره حالة طوارئ صحية عالمية، وهو أعلى مستوى من التأهب، مع تأكيد حالات إصابة بين الأطفال والبالغين في أكثر من 12 دولة، وانتشار سلالة جديدة من الفيروس. وقد شهد شهر أغسطس الجاري تحديثاً للدليل الإرشادي للتعامل مع مرض "جدري القردة"، وتم توزيعه على كافة المستشفيات ووحدات الطب الوقائي المنتشرة على مستوى الجمهورية في مصر؛ لتحديث المعلومات الخاصة بالمرض وطرق الوقاية منه وعلاجه. وشمل هذا الدليل الذي أصدره قطاع الطب الوقائي تعريفاً بتفاصيل التفشي الوبائي لـ"جدري القردة"، وطرق انتقال العدوى، وأعراض وعلامات المرض، مع إجراءات الوقاية والحد من خطورة الإصابة بالعدوى بين البشر.6- تصاعد الطلب على دور منظمة "أطباء بلا حدود": شهدت مرحلة ما بعد الحراك الثوري العربي زيادة واضحة في دور منظمة أطباء بلا حدود في ليبيا واليمن وسوريا والسودان بسبب استهداف المستشفيات والأطباء من جانب أطراف الصراع وسد فجوات التمويل. وقد أوضح ذلك رئيس منظمة أطباء بلا حدود كريستوس كريستو، في تصريحات بتاريخ 17 يوليو 2024 بقوله: "تعاني منظمات الأمم المتحدة من نقص كبير في التمويل، كما أن المنظمات غير الحكومية لا تستطيع المجيء بسبب المخاطر الأمنية، مشيراً إلى أن أطباء بلا حدود ستزيد نشاطاتها في السودان لسد الفجوات الموجودة بسبب نقص التمويل".سياقات ضاغطةخلاصة القول، إن الأمراض كانت كاشفة للتفاعلات التي شهدها الشرق الأوسط خلال ثلثي عام 2024، داخلياً وبينياً، لمدى التأثيرات السلبية للصراعات المسلحة على النظم الصحية وفاعلية أداء الفرق الطبية، مع انتشار الفقر المدقع وانعدام التدخلات الإنسانية لتوفير المياه الآمنة وانتشار مياه الصرف الصحي المتهالك في أوساط الأحياء السكنية، وعدم اتّباع الشفافية من جانب السلطات الرسمية في عدد من دول الإقليم في الإعلان عن حالات الإصابة بهذا المرض أو ذاك، مع تأثر فئات مجتمعية أكثر من غيرها ولا سيما في مخيمات النازحين من نيران بؤر الصراعات، وتزايد الطلب على دور منظمة أطباء بلا حدود وغيرها من المنظمات التي لم تستجب بالشكل المطلوب مقارنة بالحاجة الماسة لتدخلهم وبالشكل العاجل للحد من انتشار الأوبئة ومعالجة الإصابات.

كيف تعكس الأوضاع الصحية المتدهورة تفاعلات الشرق الأوسط عام 2024؟