د. صدفة محمد محمود

في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي، أرسلت بريطانيا السفينة الحربية (HMS Trent) إلى غيانا، في ظل تأكيدات وزارة دفاعها أن السفينة ستشارك في تدريبات مشتركة بعد عيد الميلاد؛ وذلك في استعراض للدعم الدبلوماسي والعسكري للمستعمرة البريطانية السابقة. وكانت هذه الخطوة مثيرة للجدل بوجه خاص، بالنظر إلى أن أمريكا اللاتينية لم تكن في مقدمة أولويات الدفاع والأمن في بريطانيا، في ظل الغياب النسبي للتهديدات النووية والإرهابية النابعة من دولها.&nbsp;في غضون ذلك، أثار التحرك البريطاني عدداً من التساؤلات حول دوافعه الحقيقية، ومدى ارتباطه بجهود البلاد لاستعادة نفوذها المتراجع في منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وكذلك تداعياته المحتملة على العلاقات بين فنزويلا وغيانا ومستقبل الاستقرار الإقليمي في المنطقة، في ظل بعض المواقف الصادرة عن فنزويلا والبرازيل بشأن إرسال السفينة الحربية البريطانية إلى البحر الكاريبي.أهداف متنوعةيأتي إرسال بريطانيا سفينتها الحربية إلى غيانا، اتساقاً مع محاولتها تحقيق عدد من الأهداف، من بينها:1– دعم الحليف التاريخي: تُعد غيانا، عضو رابطة الكومنولث، الدولة الوحيدة الناطقة باللغة الإنجليزية في أمريكا الجنوبية، وكانت تعرف سابقاً باسم غيانا البريطانية قبل أن تحصل على استقلالها في عام 1966. ومنذ إجراء فنزويلا استفتاءً في 3 ديسمبر الماضي، ادعت على إثره الحكومة أن الفنزويليين يدعمون سيطرة البلاد على منطقة إيسيكويبو التي تُمثل نحو ثلثي أراضي غيانا، تصاعدت حدة التوتر بين البلدين وسط مخاوف من اندلاع صراع عسكري مفتوح في أمريكا اللاتينية.في هذا السياق، قال متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية: "ستزور HMS Trent غيانا باعتبار ذلك جزءاً من سلسلة من التدريبات في المحيط الأطلسي ومنطقة البحر الكاريبي"، وأضاف أن المملكة المتحدة ستعمل دولياً "لضمان الحفاظ على السلامة الإقليمية لغيانا". وHMS Trent سفينة دورية وسفينة إنقاذ تم استخدامها مؤخراً لاعتراض تجار المخدرات قبالة الساحل الغربي لأفريقيا، ويمكن أن تستوعب ما يصل إلى 30 بحاراً ووحدة من 18 من مشاة البحرية، وهي مجهزة بمدافع 30 ملم، ومهبط لطائرات الهليكوبتر والطائرات بدون طيار. وكانت السفينة قد أرسلت إلى بربادوس في أوائل ديسمبر الماضي لاعتراض مهربي المخدرات، لكن تم تغيير وجهتها في 24 ديسمبر الماضي إلى غيانا.2– حماية المصالح الاقتصادية: منذ انسحابها من الاتحاد الأوروبي، عملت بريطانيا على تنويع شراكاتها الاقتصادية مع مختلف مناطق العالم، خاصةً أمريكا اللاتينية والكاريبي، التي تضم نحو 650 مليون نسمة، وأوفدت كبار المسؤولين والبعثات التجارية إلى عدد من بلدان المنطقة. على سبيل المثال قام وزير التجارة نايجل هدلستون، في أكتوبر الماضي، بزيارة بيرو وكولومبيا لتعزيز العلاقات التجارية. وفي مايو الماضي، زار وزير الخارجية "جيمس كليفرلي" آنذاك، جامايكا وكولومبيا وتشيلي والبرازيل. وفي نوفمبر 2022، وقَّعت بريطانيا اتفاقية شراكة مع غيانا لتعزيز التجارة والاستثمارات.من بين دول الكاريبي، تُعَد غيانا أكبر شريك تجاري لبريطانيا، وبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 1.6 مليار جنيه إسترليني في عام 2022. أما قيمة الاستثمار البريطاني المباشر في غيانا فبلغ 11 مليون جنيه إسترليني عام 2021. في نوفمبر الماضي، فازت شركتان بريطانيتان هما: JE Energy وBB Energy بعقد لتسويق حصة غيانا من النفط الخام. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى إرسال بريطانيا سفينة حربية إلى غيانا باعتباره محاولةً من جانبها لحماية مصالحها الاقتصادية وشركاتها العاملة في قطاع النفط بوجه خاص.3– تنسيق المواقف مع الولايات المتحدة: كانت بريطانيا والولايات المتحدة الدولتين الرئيستين اللتين أعربتا صراحةً عن دعمهما لغيانا عقب تصاعد حدة التوترات مع فنزويلا. في 7 ديسمبر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة عن تدريبات جوية عسكرية مشتركة في غيانا، باعتبار ذلك جزءاً من "المشاركة والعمليات الروتينية لتعزيز الشراكة الأمنية و"تعزيز التعاون الإقليمي"، مشددةً على أنها "ستواصل التزامها بصفتها شريكاً أمنياً موثوقاً به لغيانا". ويمكن فهم التحركات البريطانية الداعمة لغيانا في إطار تنسيقها ومشاوراتها المستمرة مع الولايات المتحدة في العديد من القضايا الإقليمية والدولية.4– مناهضة الخصوم الاستراتيجيين: يمكن تفسير التحركات البريطانية الداعمة لغيانا في مواجهة فنزويلا، في ظل العلاقات التاريخية المتوترة بين لندن وكاراكاس؛ حيث أصرت فنزويلا مراراً، على أن اتفاقية جنيف لعام 1966، التي وقعتها بريطانيا وغيانا البريطانية آنذاك (غيانا الآن) ألغت الحدود التي رسمها المحكمون الدوليون من بريطانيا والولايات المتحدة في عام 1899، مشددةً على أن منطقة إيسيكويبو كانت جزءاً من الأراضي الفنزويلية خلال الفترة الاستعمارية الإسبانية، كما تزعم أن بريطانيا شريك في "سرقة" أراضي فنزويلا.وتفاقمت حدة التوترات الفنزويلية البريطانية خلال السنوات الأخيرة، مع اعتراف لندن بزعيم المعارضة الفنزويلية السابق "خوان جوايدو" في عام 2019، رئيساً انتقالياً للبلاد، رافضةً الإقرار بفوز "نيكولاس مادورو" في الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2018. وكانت هذه السياسة استثناءً جزئياً لسياسة بريطانيا الطويلة الأمد المتمثلة في الاعتراف بالدول بدلاً من حكومات محددة. وتدهورت العلاقات بوتيرة أكبر مع قيام بريطانيا وبعض القوى الغربية بفرض عقوبات على فنزويلا، ورفض بنك إنجلترا منذ عام 2018، مطالبات حكومة مادورو المتكررة بالإفراج عن ذهب فنزويلا المودع في خزائنه، الذي تقدر قيمته بنحو مليار دولار، بدعوى الشكوك حول شرعية حكومة مادورو.تداعيات جوهريةمن المرجح أن يكون لإرسال بريطانيا سفينتها الحربية إلى غيانا انعكاسات مهمة على منطقة أمريكا اللاتينية، كما يتضح فيما يلي:1– تأجيج التوتر بين فنزويلا وغيانا: رغم خطابات الطمأنة التي أطلقها كبار المسؤولين في غيانا، وتأكيدات أن وجود السفينة إجراء "روتيني" وجزء من بناء "القدرة الدفاعية"، فإنها لم تنجح في تهدئة مخاوف فنزويلا، التي وصف رئيسها الخطوة البريطانية بإنها تُمثل " تهديداً عسكرياً من لندن"، وكسرت "روح" الاتفاق الأخير الذي تم التوصل إليه بين فنزويلا وغيانا بعدم استخدام القوة لتسوية نزاعهما؛ لهذا، من المرجح أن تتصاعد حدة التوتر بين الدولتين الجارتين بعد فترة الهدوء التي أعقبت لقاء زعيمَي البلدَين في جزيرة سانت فنسنت وجزر جرينادين الكاريبية في 14 ديسمبر الماضي.تأتي هذه التوقعات في ظل الإشارات المتتالية التي تصدر عن كبار المسؤولين البريطانيين إلى غيانا، بما في ذلك تصريح وزير الخارجية "ديفيد كاميرون" مؤخراً بإن المملكة المتحدة "ستواصل العمل مع الشركاء في المنطقة؛ لضمان الحفاظ على وحدة أراضي غيانا ومنع التصعيد". وسبق أن زار ديفيد روتلي وزير الأمريكتين في وزارة الخارجية البريطانية، جورج تاون في 18 ديسمبر الماضي، وهو أول ممثل لمجموعة السبعة الكبار يقوم بذلك منذ التصعيد الأخير من قبل فنزويلا، ووعد غيانا "بدعم لا لبس فيه" من المملكة المتحدة. وانتقد وزير الخارجية الفنزويلي إيفان جيل الزيارة، متهماً المملكة المتحدة بزعزعة استقرار المنطقة. وسبق أن نددت كاراكاس بالتدريبات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وغيانا ووصفتها بأنها "استفزاز".2– تفاقم التنافس الاقتصادي في غيانا: منذ عام 2015، اكتشفت شركة "إكسون موبيل" الأمريكية، كميات كبيرة من النفط البحري في غيانا، تقدر بنحو 11 مليار برميل للنفط والغاز القابل للاستخراج. وتحتل احتياطيات النفط الخام في البلاد المرتبة الـ17 في العالم، والثالثة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. وبعدما كانت غيانا من أفقر الدول في أمريكا الجنوبية، أصبحت حالياً واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في المنطقة، واجتذبت اهتمام الشركات الدولية الكبرى للحصول على حصة من نفطها.وليس أدل على ذلك من أن أكثر من 20 شركة قدمت عروضاً في المزاد الذي أُجري في 17 أكتوبر الماضي، للتنافس على عقد لتسويق حصة غيانا من إنتاج النفط، وهو ما يعكس الاعتراف المتزايد بالبلاد باعتبارها لاعباً مهماً في سوق النفط الدولية. ويمكن أن يُفضي تجدد المطالبات الفنزويلية بالأراضي والمناطق البحرية بعد اكتشافات النفط والغاز الكبرى في غيانا، والجهود الأمريكية والبريطانية الرامية إلى حماية مصالح شركاتهما النفطية العاملة هناك، إلى تحفيز بلدان أخرى على إرسال قواتها لدعم استقرار وأمن غيانا، خاصةً تلك التي لديها مصالح مهمة داخل البلاد.3– استدعاء التدخل الروسي–الإيراني: إذا استمر وجود السفينة الحربية البريطانية في غيانا أو قامت بأي عمل قد تنظر إليه فنزويلا باعتبار تحركاً عدائياً ضدها، فربما سيؤدي هذا إلى استدعاء تدخل جهات فاعلة خارجية، خاصةً روسيا وإيران؛ لحماية حليفتها كاراكاس. وقد سبق أن أرسل البلدان خبراء عسكريين إلى فنزويلا في عام 2019 دعماً لمادورو خلال الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد، والتهديدات الأمريكية بالتدخل عسكرياً للإطاحة بمادورو.كما سبق أن أرسلت موسكو بعض المعدات العسكرية إلى فنزويلا، وكان آخرها في عام 2019. ورغم دعوة روسيا الأطراف إلى الامتناع عن أي أعمال يمكن أن تزعزع توازن الوضع وتسبب ضرراً متبادلاً، وحثها على التوصل إلى "حل سلمي"، فمن المرجح إذا تصاعدت حدة التوتر أن تدعم موسكو فنزويلا.4– تهديد الاستقرار الإقليمي: تخشى البرازيل ودول تجمع كاريكوم الكاريبية ومجموعة أمريكا الجنوبية "سيلاك"، من تحول النزاع بين فنزويلا وغيانا إلى حرب مفتوحة بين البلدين؛ لذلك لعبت دوراً مهماً لتقريب وجهات النظر وتشجيع قادتهما على الجلوس على مائدة التفاوض. ومع ذلك، فإن تدخل قوى خارجية، كبريطانيا وكذلك الولايات المتحدة، لدعم غيانا، رغم أنه يبعث رسائل طمأنة إلى حليفتهما وردع لفنزويلا، يُخشى من أن يؤدي إلى تهديد الأمن والاستقرار في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي، وهو الأمر الذي يمكن قراءته مع توجيه الرئيس مادورو بنشر 6000 جندي فنزويلي، بما في ذلك القوات الجوية والبحرية، لإجراء عمليات مشتركة في شرق البحر الكاريبي بالقرب من الحدود مع غيانا، مؤكداً أن بلاده ستواصل نشر قواتها حتى تغادر السفينة الحربية البريطانية المنطقة.من هذا المنطلق، يمكن فهم الدعوات البرازيلية الأخيرة لكلا الطرفين إلى "ضبط النفس والعودة إلى الحوار". ووفقاً لبيان صادر عن الرئاسة البرازيلية مؤخراً، "تعتقد الحكومة البرازيلية أنه يجب تجنب المظاهر العسكرية لدعم أي من الأطراف؛ حتى تسفر عملية الحوار الجارية عن نتائج"، في إشارة ضمنية إلى نشر السفينة البريطانية، مشدداً على ضرورة "أن يُؤخَذ في الاعتبار روح التكامل التي تُحرِّكنا كمنطقة سلام وتعاون وتضامن".من جملة ما سبق، يمكن القول إن إرسال بريطانيا سفينة حربية إلى غيانا، التي تواجه تهديدات من قبل جارتها فنزويلا، هو محاولة من قِبل لندن لحماية مصالحها الاقتصادية المتنامية هناك. ورغم ضعف حضورها العسكري، فإن تحركها الأخير يمكن أن يجعل من غيانا نقطة ارتكاز لتعزيز حضورها العسكري في منطقة البحر الكاريبي. مع ذلك، فإن هذا التحرك ربما ستكون له تداعيات سلبية على أمن واستقرار المنطقة إذا لم يقتصر على مجرد الدعم الرمزي لغيانا، وتحول إلى حضور عسكري طويل الأمد في البلاد، خاصةً أن غيانا سبق أن طرحت في 23 نوفمبر الماضي خيار إنشاء "قواعد عسكرية" مدعومة من الخارج في إيسيكويبو، انطلاقاً من رغبتها في حماية مصالحها الوطنية، وبالتشاور مع حلفائها في مواجهة جميع الاحتمالات.

دلالات إرسال بريطانيا سفينة حربية إلى غيانا