د. رغدة البهي

تعرضت شركة "أوبن إيه آي" لما يشبه "محاولة الانقلاب الفاشلة" التي انتهت بعودة الرئيس التنفيذي للشركة "سام ألتمان" إلى منصبه بعد خمسة أيام من إجباره على الاستقالة من قِبل مجلس إدارة الشركة. وقد تمخضت تلك العودة عن التحركات الدرامية التي مزجت بين سطوة المال والنفوذ، وضغوط الحلفاء، والاهتمام الإعلامي المكثف، والإيمان الراسخ لدى البعض بدور الذكاء الاصطناعي.وعلى الرغم من سمو الهدف الحقيقي الذي سعى "الانقلاب الفاشل" إلى تحقيقه، المتمثل في "بناء ذكاء اصطناعي عام آمن ويفيد البشرية جمعاء"، فإنه كاد يتسبب في انهيار الشركة عقب عام واحد فقط من تقديم تطبيق "تشات جي بي تي" الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي. وعلى الرغم أيضاً من استبدال مجلس إدارة الشركة بعد أن تعرض لانتقادات شديدة من ناحية، وتعيين مجلس آخر مكانه يتكون من عناصر تقليدية (تضم وزير الخزانة السابق "لورانس سامرز"، ومديراً في الشركة، وأحد مؤسسي عملاق البرمجيات "ساليزفورس") من ناحية ثانية؛ تعددت التساؤلات عن التحديات الراهنة التي تواجهها الشركة واتجاهاتها المستقبلية.التحديات الراهنةتتعدد التحديات التي تقوض نشاط وانتشار وتطور شركة "أوبن إيه أي"، والتي لاح كثير منها في أعقاب أزمة "ألتمان"، وهي التحديات التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:1- تزايد الانتقادات لإدارة الشركة: تعرض مجلس إدارة شركة "أوبن إيه آي" في العام الماضي لانتقادات عدة؛ نظراً إلى صغر حجمه من ناحية، وانقسامه المحتدم من ناحية ثانية، وانعدام قدرته على إدارة واحدة من أسرع الشركات الناشئة نمواً في تاريخ وادي السيليكون بشكل فعال من ناحية ثالثة.2- تصاعد الخلافات بين مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي: تعرضت الشركة في الآونة الأخيرة لخلافات داخلية كبرى بين مجلس إدارتها ورئيسها التنفيذي، وهي الخلافات التي ظهرت إلى العلن في 17 نوفمبر 2023 لتعكس مظاهر الخلل تلك؛ فقد قام 4 من أعضاء المجلس بإقالة "ألتمان" رغم شعبيته المتنامية في الشركة؛ فأطلقت إقالته شرارة اضطراب استمرت 5 أيام، تمكن فيها "ألتمان" من حشد جميع موظفي الشركة البالغ عددهم 770 موظفاً تقريباً للضغط من أجل استقالة مجلس الإدارة وإعادته إلى منصبه. وقد وافقت الشركة من حيث المبدأ على إعادة تشكيل مجلس الإدارة مع ضم أعضاء جدد لتفادي بعض من مظاهر الخلل التي يعاني منها.3- جدل بشأن هيمنة شركة "مايكروسوفت": لا يخفى أن مصير شركة "أوبن إيه آي" معلق إلى حد بعيد بشركة "مايكروسوفت" التي استثمرت فيها 10 مليارات دولار؛ ما يسمح لها بالوصول إلى بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر انتشاراً وتقدماً في ظل احتدام التنافس بينها وبين عدد من الشركات التكنولوجية العملاقة، وفي مقدمتها "ألفابت" و"أمازون" و"ميتا".وفي الوقت ذاته، تحتاج "أوبن إيه آي" إلى هذا التمويل وإلى قدرات "مايكروسوفت" في الحوسبة السحابية لمعالجة كميات هائلة من البيانات وتشغيل نماذج معقدة على نحو متنامٍ؛ ما يسمح لبرامج على غرار "دال-إي"(DALL-E)&nbsp;بتصميم صور واقعية اعتماداً على عدد محدود من الكلمات، وهو ما يتيح لتطبيق "تشات جي بي تي" اختلاق نص محادثة مشابه للبشر بصورة مذهلة.ونتيجة لذلك كله، كان لشركة "مايكروسوفت" موقف حاسم تجاه إقالة "ألتمان"؛ فقد قررت الاستعانة به بهدف تعزيز جهودها البحثية في مجال الذكاء الاصطناعي عقب ساعات من الإطاحة به من منصبه، كما سعت "مايكروسوفت إم إس إف تي" (أحد الداعمين الماليين للشركة الناشئة أيضاً) إلى ضم "جريج بروكمان" أحد الشركاء المؤسسين لشركة "أوبن إيه آي" الذي استقال عقب استغناء الأخيرة عن "ألتمان".4- تعدد تحديات تطبيق "تشات جي بي تي": يواجه التطبيق الأهم الذي طورته شركة "أوبن إيه آي" جملة من التحديات؛ فعلى النقيض من البحث على محرك "جوجل" أو محرك "بينج"، لا يتيح التطبيق في الوقت الراهن أي معلومات تتعلق بمصادر المعلومات المستخدمة، وتعترف الشركة بأن بعض الإجابات التي يقدمها التطبيق قد يجانبها الدقة. ومن المتوقع أن يؤثر ذلك بوجه خاص في العاملين في مجال المعلومات وخدمة العملاء والبرمجة وكتابة الإعلانات وأعمال السكرتارية.كما أنه يفتقر إلى الضمير والنوايا؛ فهو مجرد نموذج رياضي يعتمد على الأنماط اللغوية، ومن ثم فإن ردوده واستجابته ليست أصلية بالمعنى الإنساني للكلمة؛ فهي عبارة عن مجموعات من العبارات والكلمات التي تدرب عليها سلفاً دون أن يكون له أي دور في توليدها أو استحداثها من العدم، كما أنه يفتقر إلى القدرة على تطبيق المعايير الأخلاقية في إجاباته؛ لأنه لا يفهم ماهية تلك المعايير ابتداءً؛ إذ إن الوصول المنظم وغير المحدود إلى جميع أنواع المعلومات يمثل تهديداً للقدرة البشرية على القراءة والبحث المنهجي عن المعرفة.كما تشير قدرة التطبيق على إنتاج محتوى فائق الجودة ودعم منظومة الابتكار إلى تداعياته المحتملة على قطاع التعليم؛ فقد يستخدمه الطلاب في كتابة أبحاثهم ووظائفهم وأبحاثهم العلمية؛ ولذا تتزايد أهمية التفرقة بين نص كتبه الطالب بنفسه وآخر قدمه روبوت المحادثة.5- الاختلاف الحاد حول سرعة تطور&nbsp;الذكاء الاصطناعي: إن ثمة مخاوف حقيقية تتعلق بسرعة تطوير الذكاء الاصطناعي، ليبرز في هذا الصدد اتجاهان: أحدهما يرغب أنصاره في تطوير الذكاء الاصطناعي بسرعة مضطردة، فيما يفضل أنصار ثانيهما التحرك بحذر في عملية التطوير. وفي الوقت الذي أكد فيه "ألتمان" رغبته في التقيد بقواعد السلامة، فإنه حث الشركة على بيع منتجاتها بالأسواق بوتيرة أسرع لتحقيق أكبر ربح ممكن، بينما كان ينتقد ويحذر من المخاطر المتزايدة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي؛ فقد دلل نشاط "ألتمان" على رغبته في التحرك بسرعة كبيرة جداً لتوسيع عروض "أوبن إيه آي" التجارية دون النظر إلى الآثار المترتبة على السلامة في شركة تعهدت أيضاً بتطوير التكنولوجيا لتحقيق "أقصى فائدة للإنسانية".اتجاهات مستقبليةيمكن استشراف بعض الاتجاهات المحتملة ذات الصلة بنشاط وتطور الشركة بالنظر إلى النقاط التالية:1- شخصنة شركة "أوبن إيه آي": غالباً ما تتعرض الشركات التكنولوجيا الكبرى والناشئة لعملية شخصنة دلل عليها "ستيف جوبز" و"مارك زوكربيرج" و"إيلون ماسك" و"آلان شوجر"، ومن المرجح مستقبلاً أن يصبح "ألتمان" أحد هؤلاء الأشخاص، لتنعدم جدوى شركة "أوبن إيه آي" بدونه. ويشكل ذلك خطراً كبيراً على مستقبل الشركة – في نظر بعض التحليلات – لأن "ألتمان" لا يملك موهبة استثنائية، ولم يقدم رؤية خاصة لإدارة أعمال الشركة. ومع ذلك، فإن الأزمة الأخيرة التي شهدها دللت على تنامي قوته ونفوذه من ناحية، وأوضحت أن شركة "أوبن إيه آي" أصبحت هي "سام ألتمان" من ناحية ثانية.2- احتدام المنافسة التي تخوضها الشركة: أدت إقالة "ألتمان" إلى معاناة الشركة الناشئة الأكثر شهرة في وادي السيليكون من أزمة تاريخية؛ حيث كانت "أوبن إيه آي" في طليعة الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي التوليدي. وبمجرد استقرار الأوضاع في الشركة، ستجد "أوبن إيه آي"، برئيسها التنفيذي ومجلس الإدارة الجديد، نفسها أمام منافسة شرسة لإثبات قدرتها على تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي في ظل التضارب الحاد في الآراء حول سرعة تطويره كما سبق القول.3- تغير النموذج الذي تقدمه الشركة: يتخوف كثيرون من تحيز البيانات التي تدربت عليها خوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ فقد بنيت غالبيتها على مستخدمي الإنترنت الذين يتحدثون الإنجليزية والطبقة المتوسطة والذكور من البلدان المتقدمة. وقد سبق أن تبنى "ألتمان" نفسه نهجاً حذراً عند تطوير الذكاء الاصطناعي؛ ففي شهادته أمام الكونجرس الأمريكي في مايو 2023، أعرب ألتمان عن مخاوفه من أن الصناعة "يمكن أن تسبب ضرراً كبيراً للعالم"، وحث صناع السياسات على سن لوائح محددة للذكاء الاصطناعي.بيد أن شركة "أوبن إيه آي" من شأنها أن تتحول إلى دليل على مدى صعوبة الحفاظ على حواجز الحماية حتى في شركة مخصصة لصيانتها ولو على المستوى النظري. لذا من المرجح مستقبلاً أن ينصب تركيزها على مصالحها التجارية مع تراجع اهتمامها بمخاوف السلامة من ناحية، وتراجع الأصوات المقاومة للسرعة المضطردة لنمو أنظمة الذكاء الاصطناعي دون تطوير معايير السلامة والتقيد بها من ناحية ثانية.4- ارتهان مكانة الشركة بمستقبل الذكاء الاصطناعي: من المتوقع أن تعاني شركة "أوبن إيه آي" من انقسام حاد يعاني منه وادي السيليكون في الوقت الراهن بين من يرى أن الذكاء الاصطناعي إن تُرك دون رادع فسيشكل خطراً وجودياً على البشرية، ومن ثم تتزايد أهمية فرض قواعد تنظيمية أكثر صرامة، وبين من يقلل – في المقابل – من مخاطر الذكاء الاصطناعي، ويشدد على قدرته على تحفيز التقدم.ويمكن للمعسكر الذي يثبت أنه أكثر نفوذاً أن يشجع أو يعيق لوائح أكثر صرامةً، وهي اللوائح التي يمكن أن تحدد بدورها من سيستفيد أكثر من الذكاء الاصطناعي في المستقبل. وقد أججت أزمة الشركة الأخيرة من الانقسام بين أنصار كلا الرأيين، بيد أن مخرجات ذلك الجدل هي التي ستحسم مستقبل الذكاء الاصطناعي، وبالتبعية ستحدد الرابحين والخاسرين منه.ختاماً، أثارت شركة "أوبن إيه آي" الجدل حول الحاجة الملحة إلى حوكمة الذكاء الاصطناعي وضبط مخرجاته والتحكم في سرعة تطوره؛ وذلك بعد أن تصدر اسم "ألتمان" واجهة عالم التكنولوجيا، محدثاً هزة تتعلق بالذكاء الاصطناعي من ناحية، وتواترت الأنباء عن إقدام الشركة على تطوير بعض النماذج التي قد تهدد البشرية وتقوض السلامة العامة من ناحية ثانية. واتجهت الشركة بسرعة مضطردة إلى تطوير الذكاء الاصطناعي العام (AGI) الذي يمكنه أداء مجموعة واسعة من المهام على مستوى أعلى من مستويات الذكاء البشري مع التهرب من السيطرة البشرية من ناحية ثالثة.

لماذا تتزايد مشكلات شركة "أوبن إيه آي"؟