د. أحمد عبدالعليم حسن

يُعيد تطوير تقنيات "أسراب المُسيّرات" المدعومة بالذكاء الاصطناعي تشكيل المفهوم الحالي للحروب في ضوء انخفاض تكلفتها وقدرة مئات منها على تشكيل تهديد وجودي للجيوش النظامية للدول، حيث إن الجيوش المتقدمة قادرة إلى حد كبير على صد مُسيّرات تعمل بشكل فردي، ولكن أسراب المُسيّرات التي يتم نشرها من أجل هدف معين في خضم المعارك العسكرية أو الصراعات القائمة تمثل تحدياً كبيراً للجيوش ولمفهوم الردع العسكري.جدير بالذكر أن أسراب المُسيّرات ترتبط بتشغيل ما لا يقل عن ثلاث مُسيّرات وصولاً إلى مئات المُسيّرات في نفس التوقيت لتنفيذ مهام بشكل تعاوني فيما بينها، ويتم تطوير أسراب المُسيّرات في الوقت الحالي عبر خوارزميات متقدمة ومُعقدة مع تقنيات الاستشعار والاتصال المحلية لمزامنة المُسيّرات، وقد يكون التحكم فيها عبر مهام مبرمجة مسبقاً أو من خلال التحكم المركزي من محطة أرضية أو عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي القائمة على تعليم أسراب المُسيّرات الاستجابة للمواقف الجديدة وغير المتوقعة بشكل فوري ودقيق ومُنسّق.مؤشرات الاهتمامتوجد العديد من المؤشرات الدالة على تنامي اهتمام الدول والفاعلين المسلحين من غير الدول بامتلاك أسراب مُسيّرات متقدمة، وذلك على النحو التالي:1- تطوير الشركات الناشئة أسراب مُسيّرات في أوكرانيا: كشفت بعض الشركات الأوكرانية الناشئة، في يوليو 2024، عن تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تسيير أسطول ضخم من أسراب المُسيّرات؛ حيث تأمل كييف في أن يساعدها ذلك في تحقيق تفوق نوعي في المواجهة مع روسيا، وخاصةً ما يتعلق بمهام التشويش في الحرب الإلكترونية ودقة استهداف المنشآت العسكرية ومصافي النفط الموجودة على بُعد مئات الكيلومترات داخل الأراضي الروسية.وينقسم تطوير أسراب المُسيّرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي إلى أنظمة بصرية لتحديد الأهداف، وأنظمة رسم خرائط لتوجيه الطيران، وبرامج معقدة لتمكين المُسيّرات من العمل كسرب مترابط في إطار تنفيذ الأهداف العسكرية المحددة. ويعد نظام "Styx" من أبرز الأنظمة التي تربط أسراب المُسيّرات بالذكاء الاصطناعي، إذ يتم اختبار ذلك النظام من أجل الاستطلاع واستهداف الخصوم، سواء في الجو أو على الأرض، كما يتميز النظام بقدرته على التخطيط بشكل منسق لتحركات سرب المُسيّرات وحماية المُشغّلين بالقرب من الخطوط الأمامية.2- اهتمام الجيش الأمريكي بأسراب "المُسيّرات المختلطة": كشفت تقارير غربية عن تعاون شركتين أمريكيتين في مايو 2024، من أجل تشغيل أسراب مُسيّرات مختلطة (Mixed Swarms) تعمل بتكنولوجيا متقدمة في إطار نظام يُعرف باسم "Hive"، إذ يعمل هذا النظام بحد أدنى من التدخل البشري، ويمكن إطلاق أسراب المُسيّرات وإعادتها وإعادة شحنها بضغطة زر، كما يتضمن هذا النظام التعامل مع أنواع مختلفة من المُسيّرات لمهام متنوعة.كذلك، وقّعت وزارة الدفاع الأمريكية خمس صفقات عسكرية على الأقل من أجل تطوير أسراب المُسيّرات ذات التكنولوجيا المتقدمة، حيث تهتم واشنطن بشكل أساسي بتعزيز القدرات القتالية والاستطلاعية لهذه المُسيّرات. ومن أبرز التطورات في هذا الإطار، برنامج "Replicator"، الذي يسعى إلى إنتاج أعداد ضخمة من المُسيّرات بتكلفة منخفضة لتوفير دعم عسكري فوري وفعال في الحروب والمعارك العسكرية. ومن أبرز المُسيّرات، مُسيّرة "XQ-58"، التي يمكنها اتخاذ قرارات بطرق مستقلة عن التوجيه البشري، حيث تعتمد على خوارزميات متطورة مثل "Particle Swarm Optimization" و"Ant Colony Optimization"، والتي تسمح للأسراب بالعمل بتناسق وكفاءة عالية في تنفيذ مهام معقدة.3- تنافس دولي على تطوير أسراب "المُسيّرات الذكية": يتم تصنيف أسراب المُسيّرات إلى ثلاث فئات، الأولى عبارة عن مجموعة مُسيّرات يتم تنسيق عملها من قبل بعض المُشغلين، والثانية مُسيّرات يتم تنسيق عملها بشكل فردي مع تحكم بشري محدود، أما الفئة الثالثة فهي أسراب المُسيّرات الذكية (intelligent swarms)، وهي التي يمكنها التواصل فيما بينها عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي ولديها القدرة على الاستجابة للتهديدات والتعامل معها. ومن المتوقع وفق وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (DARPA)‏ التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، اختبار تقنيات الأسراب الذكية على أكثر من 150 مُسيّرة بحلول عام 2027، وسط اهتمام عالمي بهذه التقنيات، على غرار اهتمام الصين وروسيا والهند والمملكة المتحدة وحتى تركيا.جدير بالذكر أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تمنح أسراب المُسيّرات الذكية القدرة على العمل بشكل مستقل والتعاون فيما بينها دون تدخل بشري مباشر من خلال خوارزميات التعلم الآلي والتعلم العميق، ويشمل ذلك القدرة على تنسيق الهجمات ومواجهة التهديدات أو التحديات التي تظهر في بيئة عمل أسراب المُسيّرات بشكل سريع ومنظم.4- توظيف الفاعلين المُسلحين لأسراب "المُسيّرات الانقضاضية": نفذ حزب الله اللبناني، خلال يونيو ويوليو 2024، هجمات بأسراب المُسيّرات الانقضاضية على مواقع عسكرية إسرائيلية، وقد أدت إلى إيقاع قتلى وجرحى بين الجنود الإسرائيليين، وهو ما يُثير تساؤلاً حول امتلاك الفاعلين المسلحين من غير الدول مثل هذه التقنيات المتقدمة، علاوةً على فشل الدفاعات الجوية لدول تمتلك قدرات عسكرية كبيرة في اعتراض أسراب المُسيّرات، وبما يفتح الباب واسعاً أمام إعادة تشكيل الحروب الحديثة في المستقبل القريب.ووفقاً لتقديرات شركة (MarketsandMarkets)، فمن المتوقع أن تصل قيمة سوق المُسيّرات العسكرية إلى 447.2 مليون دولار بحلول عام 2030، مع معدل نمو سنوي مركب بنسبة 40.47%، وهذه النسبة كبيرة وتكشف عن سوق عالمية واعدة، وهي مدفوعة بشكل رئيسي بتوظيف أسراب المُسيّرات لجمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاع واستهداف الخصوم، وبما يمكن أن يُحدث ثورة في التكتيكات والقدرات العسكرية حول العالم.تحديات المُسيّراتتواجه التقنيات المتقدمة المرتبطة بأسراب المُسيّرات ذات الاستخدام العسكري، العديد من التحديات، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:1- معضلة "الانتشار غير المنضبط" لأسراب المُسيّرات: تقنيات أسراب المُسيّرات المدعومة بالذكاء الاصطناعي قد يكون من السهل نسبياً لبعض الدول أو الفاعلين المسلحين من غير الدول أو التنظيمات الإرهابية امتلاكها في ظل أنها رخيصة الثمن وذات فاعلية كبرى، وهو ما قد يُحدث ثورة في الظاهرة الإرهابية والجرائم العابرة للحدود، وكذلك في تنامي التهديدات المرتبطة بمناطق الصراع، وبما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في أقاليم مختلفة من العالم.2- مخاوف "التصعيد غير المقصود" في الصراع: يرتبط توظيف أسراب المُسيّرات في مناطق الصراع بإمكانية حدوث تصعيد غير مقصود (Accidental Escalation)، عبر حدوث أخطاء في تنفيذ الأوامر بسبب التدخل البشري أو بسبب تعطُّل التقنيات المستخدمة، وهو ما يمكن أن يؤثر بشكل كبير على الردع والأمن النووي والاستقرار الاستراتيجي في الحروب المستقبلية؛ إذ إن التطورات في هذه الأنظمة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في توظيف أسراب المُسيّرات يمكن أن تجعل الدول تتخذ قرارات بتفويض القرار إلى هذه الأنظمة، مما يُخلّف العديد من التهديدات والمخاطر العالمية بسبب القيود التقنية الحالية للذكاء الاصطناعي، مثل هشاشة الأنظمة وصعوبة تفسير قراراتها.3- صعوبة منع "سباق تسلُّح" أسراب المُسيّرات: بالرغم من التوافق الشفهي بين الرئيسين الأمريكي والصيني في نوفمبر الماضي حول إنشاء مجموعات عمل بشأن سلامة الذكاء الاصطناعي، لكن لم يمنح ذلك أولوية لمواجهة سباق التسلُّح المرتبط بأسراب المُسيّرات المدعومة بالذكاء لاصطناعي، في ظل مسارعة الدولتين لتطوير التقنيات المتقدمة المرتبطة بأسراب المُسيّرات. وفي ظل تراجع الثقة بين البلدين، فمن المرجح ألا يكون هناك جهد دولي منظم لمنع سباق التسلُّح المرتبط بالمُسيّرات بشكل عام وأسراب المُسيّرات بشكل خاص، ولا سيما مع فشل الأمم المتحدة في لعب دور بارز في هذا الإطار، حيث حاولت على مدار عقد من الزمن تعزيز جهود منع انتشار المُسيّرات، والتي تشمل قيوداً مثل حظر استهداف المدنيين أو القيام بالتطهير العرقي، لكن دون جدوى.4- تساؤلات أخلاقية حول توظيف أسراب المُسيّرات: هناك مخاوف أخلاقية متعلقة بتوظيف أسراب المُسيّرات في الحروب أو في استهداف الخصوم، خاصةً ما يتعلق بإمكانية استخدام أساليب عشوائية أو غير كافية لحماية المدنيين في مناطق الصراع، إذ إن توظيف المُسيّرات يجب أن يكون متوافقاً مع اتفاقيات جنيف التي تنظم حماية المدنيين، كما تطرح بعض الاتجاهات ضرورة أن تكون هناك بروتوكولات واضحة لتحديد المسؤولية القانونية عن توظيف المُسيّرات. ووفق بعض التقديرات فإنه حتى عام 2023 قامت نحو 19 دولة بتنفيذ غارات جوية باستخدام المُسيّرات في مناطق مختلفة حول العالم، وهو اتجاه من المرجح أن يتزايد بشكل أكبر في المستقبل القريب.5- مسألة تعزيز الأمن السيبراني لأسراب المُسيّرات: إحدى مهام أسراب المُسيّرات متعلقة بجمع معلومات حول محيطها، وهو ما يتطلب ضرورة وضع بروتوكولات لحماية المعلومات المجمعة والمخزنة، مثل الصور والفيديوهات أو تسجيلات الصوت للأفراد من أجل عدم اختراقها من جانب الخصوم، علاوةً على ضمان عدم اختطاف المُسيّرات من قِبل أطراف تشكل تهديداً على الأمن العالمي، على غرار المليشيات أو التنظيمات الإرهابية أو الجماعات الانفصالية، في ظل إمكانية استخدامها لأغراض غير مشروعة داخل الدول وعبر الأقاليم.وختاماً، فإن العالم على أعتاب ثورة يقودها الذكاء الاصطناعي في الشؤون العسكرية، خاصةً ما يتعلق بأسراب المُسيّرات ذات التكنولوجيا المتقدمة، والقادرة على تغيير شكل الحروب الحديثة ولا سيما مع تراجع التدخل البشري، وتعاظم الإمكانيات والمهام المرتبطة بتقنيات أسراب المُسيّرات، مع توقعات بتنامي سباق التسلُّح بين القوى الكبرى والمتوسطة من أجل امتلاك أسراب المُسيّرات في المستقبل القريب.

كيف تُغيّر أسراب المُسيّرات استراتيجيات الحروب الحديثة؟