د. صدفة محمد محمود

يمثل الحكم القضائي ضد الرئيس البرازيلي السابق "جايير بولسونارو"، في 11 سبتمبر 2025، محطة فارقة في تاريخ البرازيل السياسي، إذ لم يقتصر أثره على إعادة الجدل الداخلي حول الديمقراطية وسيادة القانون، بل عمّق من حالة الاستقطاب الحاد داخل المجتمع البرازيلي بين مؤيدين يرونه انتصاراً للدستور، ومعارضين يصفونه بـ"المحاكمة المسيسة". وعلى المستوى الخارجي، ألقى هذا الحكم بظلاله على العلاقة بين البرازيل والولايات المتحدة، خاصة في ظل تضامن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع "بولسونارو" وفرضها عقوبات ورسوماً جمركية مشددة على البرازيل. وبذلك، من المحتمل أن تؤدي هذه المحاكمة لمزيد من التوتر بين البلدين، ناهيك مع ما يحمله ذلك من تداعيات على التوازنات السياسية والاقتصادية في الداخل البرازيلي.دلالات متعددةيحمل الحكم بإدانة "بولسونارو" العديد من الدلالات المهمة، التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي:1- التأكيد على قوة الديمقراطية البرازيلية: ينظر البعض إلى إدانة "بولسونارو" وأفراد رفيعي المستوى في القوات المسلحة ومدنيين في محاولة انقلابية عنيفة ضد الديمقراطية وسيادة القانون باعتبارها سابقة لا يمكن تجاهلها في بلد لديه تاريخ طويل من الإفلات من العقاب والانقلابات العسكرية، خاصةً أن البرازيل استعادت الديمقراطية في عام 1985 بعد فترة انتقالية مطولة سمحت لأفراد القوات المسلحة بتجنب الملاحقة القضائية والحفاظ على نفوذ واسع في السياسة والمجتمع. ومع ذلك، فإن هذا الحكم يُشير إلى <a href="https://latinoamerica21.com/en/brazilian-democracy-resists-lessons-from-the-bolsonaro-case/" rel="noopener noreferrer" target="_blank">قوة المؤسسات</a> والنظام الديمقراطي وسيادة القانون في البرازيل، خاصة أنه لم يكن هناك تصريح وأي رد فعل غير ديمقراطي من قبل القوات المسلحة البرازيلية عليه.2- تعزيز مكانة البرازيل كنموذج ديمقراطي عالمي: يتناقض الحكم بإدانة بولسونارو -بشكل كبير- مع ما شهدته بعض دول أمريكا اللاتينية، من حيث إضفاء الطابع المؤسسي لثقافة العفو والتعويض التاريخية، والمحاكمات المحدودة للقادة العسكريين المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترات الحكم العسكري. وقد وصف <a href="https://time.com/7316648/brazil-bolsonaro-former-president-sentenced/" rel="noopener noreferrer" target="_blank">مقال</a> بمجلة التايم الأمريكية، إدانة بولسونارو بأنه "غير مسبوق في تاريخ البرازيل أو أمريكا اللاتينية، كما يضع البرازيل في طليعة الجهود المبذولة لمكافحة ظاهرة التراجع الديمقراطي على مستوى العالم". وفي <a href="https://www.nytimes.com/2025/09/12/opinion/trump-bolsonaro-conviction-democracy.html" rel="noopener noreferrer" target="_blank">مقال رأي</a> في&nbsp;صحيفة "نيويورك تايمز" أشار البروفيسور في جامعة هارفارد "ستيفن ليفيتسكي" والبروفيسور "فيليب كامبانتي" أستاذ الاقتصاد في جامعة جونز هوبكنز إلى أنه "قامت المحكمة العليا البرازيلية بما فشل فيه مجلس الشيوخ والمحاكم الفيدرالية الأمريكية بشكل مأساوي في فعله: تقديم رئيس سابق اعتدى على الديمقراطية إلى العدالة".3- تعزيز استقلالية القضاء البرازيلي: لم يكن من المرجح إدانة "بولسونارو" بدون قضاء مستقل، خاصةً في ظل سياق إقليمي يتمتع فيه الزعماء الشخصيون والشعبويون بالقوة والنفوذ السياسيين، حيث أثبت النظام القضائي في البرازيل قدرته على العمل كثقل موازن للسلطة التنفيذية. وعلى الرغم من أن بولسونارو حاول إخضاع المحكمة العليا لسيطرته وترهيب قضاتها، إلى حد أنه هدد باستخدام القوات المسلحة؛ إلا أن المحكمة قاومت هجمات "بولسونارو" وأنصاره، وأكد القضاء البرازيلي من جديد استقلاليته. ومع ذلك، تعرضت <a href="https://time.com/7316648/brazil-bolsonaro-former-president-sentenced/" rel="noopener noreferrer" target="_blank">المحكمة العليا</a> لانتقادات شديدة بأنها تتجاوز سلطاتها مما يهدد الديمقراطية في البرازيل، كما تم انتقاد حكم "بولسونارو" باعتباره مبالغاً فيه، وقال محاموه إنهم سيستأنفون القرار.4- قدرة البرازيل على مقاومة الضغوط الأمريكية: بالنظر إلى أن "بولسونارو" هو أول رئيس يميني للبرازيل، وقد وصفه البعض بـ"ترامب الاستوائي" (Tropical Trump)، فقد ارتبط بعلاقات وثيقة بالرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، الذي فرض عقوبات على بعض قضاة المحكمة العليا حتى قبل الإدانة، كما رفع الرسوم الجمركية على البرازيل إلى 50% في يوليو الماضي بسبب محاكمة بولسونارو. لكن تدخل الرئيس ترامب فشل في منع الحكم على "بولسونارو" أو إقناع <a href="https://www.pbs.org/newshour/show/brazils-former-president-jair-bolsonaro-convicted-of-attempted-coup" rel="noopener noreferrer" target="_blank">الرئيس</a> "لولا دا سيلفا" بالتخلي عن تحديه، حيث قال: "لسنا مستعمرة لأحد، ولن نكون مرة أخرى. نحن قادرون على الحكم والاهتمام بأرضنا وشعبنا دون تدخل من أي حكومة أجنبية". ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن البرازيل نجحت حتى الآن في مقاومة ضغوط واشنطن بفضل استراتيجيتها الناجحة في تنويع شركائها التجاريين دولياً، وتقوية علاقاتها بشكل خاص مع الصين.تداعيات محتدمةيمكن أن يكون للحكم بإدانة "بولسونارو" بمحاولة الانقلاب تداعيات مهمة على الداخل البرازيلي، وذلك كما يلي:1- تفاقم الاستقطاب السياسي في الشارع البرازيلي: عمّقت محاكمة "بولسونارو" والحكم الصادر ضده من حالة الاستقطاب والانقسام في الشارع البرازيلي، وهو ما يتضح في المظاهرات المؤيدة والمنددة بالحكم، حيث يصف منتقدو "بولسونارو" إدانته بأنها انتصار لسيادة القانون في البرازيل، وإعادة تأكيد على أهمية دستور الثمانينيات الذي تم إنشاؤه لإنهاء عقدين من الديكتاتورية العسكرية. في المقابل، يصف أنصار "بولسونارو" محاكمته بأنها مسيسة، وتعهدوا بمواصلة احتجاجاتهم. وفي هذا الإطار، توجد حالة من الاستقطاب الحادة حول هذه القضية، حيث توصل استطلاع للرأي أجرته مؤسسة <a href="https://apnews.com/article/brazil-bolsonaro-trial-conviction-political-influence-617cd55a5f213bd095fe1d6154c3ad33" rel="noopener noreferrer" target="_blank">"داتافوله"</a> لاستطلاعات الرأي في أغسطس الماضي إلى أن %48 من البرازيليين أرادوا رؤية بولسونارو مسجوناً، بينما أراد 46% أن يظل حراً.2- استمرار الدور السياسي لبولسونارو: على الرغم من أهمية الحكم ضد "بولسونارو"، فإنه من غير المتوقع أن يزيحه ذلك من المشهد السياسي بشكل كامل، ففي الواقع، يعد "بولسونارو" الشخصية المركزية لليمين المتطرف البرازيلي منذ انتخابه في عام 2018، وذلك على الرغم من أنه ممنوع من الترشح للمنصب حتى عام 2030، لكن هذا الحكم قد لا يكون بمثابة نهاية لحياته السياسية، حيث يسعى محاموه للاستئناف ضد الحكم والحصول على إقامة جبرية بديلاً عن السجن، وفي الوقت نفسه تُبذل جهود متواصلة من قبل أنصاره داخل الكونجرس لإصدار قانون يمنحه العفو وكذلك لأولئك الذين شاركوا في التمرد في برازيليا في 8 يناير 2023، أو على الأقل تخفيض الأحكام. ويواجه مشروع القانون مقاومة من إدارة "لولا دا سيلفا" وأحزاب يسار الوسط بمجلس الشيوخ، التي تجادل بأن أي شكل من <a href="about:blank" rel="noopener noreferrer" target="_blank">أشكال العفو</a> سيكون بمثابة دعوة ضمنية لمحاولات انقلاب مستقبلية. 3- احتدام المنافسة في انتخابات الرئاسة لعام 2026: يمكن أن تغير إدانة "بولسونارو" مسار الانتخابات الرئاسية القادمة في البرازيل.&nbsp;وقد تزيد الضغوط على الرئيس السابق لاختيار وريث سياسي لتحدي "لولا دا سيلفا" في انتخابات العام المقبل، حيث يجب على أي مرشح معارض أولاً تأمين القاعدة الانتخابية الحاسمة وتلقي الدعم الصريح من بولسونارو، ويُعد "تارسيسيو دي فريتاس" منافساً قوياً في انتخابات عام 2026، إذ ينظر إلى الوزير السابق وضابط الجيش "دي فريتاس" على نطاق واسع على أنه المرشح المفضل لليمين، ومع ذلك كشفت رسائل خاصة أن "إدواردو" نجل بولسونارو الذي يعيش في الولايات المتحدة وله علاقات&nbsp;بحركة "ماجا" )MAGA( الأمريكية يتهم <a href="https://apnews.com/article/brazil-bolsonaro-trial-conviction-political-influence-617cd55a5f213bd095fe1d6154c3ad33" rel="noopener noreferrer" target="_blank">"دي فريتاس"</a> بشكل خاص بالفشل في الدفاع عن والده في المحكمة العليا. وفي الوقت نفسه، تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن "لولا دا سيلفا" تتصاعد شعبيته بقوة، مما يشير إلى أنه سيكون مرشحاً تنافسياً في الانتخابات المقبلة، فوفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة <a href="https://valorinternational.globo.com/politics/news/2025/09/19/lula-maintains-lead-in-both-rounds-of-election-scenarios.ghtml" rel="noopener noreferrer" target="_blank">"جينيال كويست"</a> لاستطلاعات الرأي في 18 سبتمبر 2025، حصل لولا على نسبة تفضيل بلغت 32% مقابل 24% للرئيس السابق. 4- زيادة التوترات البرازيلية - الأمريكية: طوال المحاكمة رفع المتظاهرون المؤيدون لبولسونارو العلم الأمريكي خلال احتجاجاتهم، وأكد كبار المسؤولين الأمريكيين دعمهم لبولسونارو، ومنهم الرئيس "ترامب" ووزير الخارجية "ماركو روبيو" ونائب وزير الخارجية "كريس لانداو"، ويشير هذا التضامن مع الرئيس السابق المدان إلى أن العلاقة بين الولايات المتحدة والبرازيل تميل للشخصنة والتسييس في عهد ترامب. فعلى المدى القصير، يمكن أن تعرض هذه الديناميكية البرازيل لرسوم أمريكية أكثر حدة أو عقوبات إضافية على كبار مسؤوليها، مما يزيد بدوره من احتمالات الانتقام البرازيلي، حتى مع استمرار إدارة "لولا دا سيلفا" في الدعوة إلى حل تجاري تفاوضي مع واشنطن، وإذا أدت الإجراءات إلى <a href="https://thedialogue.org/analysis/whats-the-impact-of-bolsonaros-conviction-in-brazil" rel="noopener noreferrer" target="_blank">تصعيد التوترات</a>، فقد تصبح العلاقة بين البلدين قضية انتخابية تزيد من الانقسامات والاستقطاب بين الكتل الحزبية والسياسية البرازيلية.في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحكم بإدانة "بولسونارو" يمثل اختباراً حقيقياً لمدى قوة الديمقراطية البرازيلية، وقدرة أكبر بلدان أمريكا اللاتينية على الحفاظ على استقرارها السياسي وسيادتها الوطنية في مواجهة الضغوط الأمريكية. وسيظل تحقيق هذا مرهوناً بنجاح القوى السياسية البرازيلية في تجاوز خلافاتها ومعالجة انقساماتها الداخلية للمضيّ قدماً نحو المستقبل.

ما هي التداعيات الداخلية والخارجية لإدانة الرئيس السابق "بولسونارو"؟