قام ألفين هولسي، قائد القيادة الجنوبية الأمريكية بزيارة الأرجنتين، في 28 أبريل 2024، حيث التقى الرئيس خافيير ميلي بهدف تعزيز "الشراكة الاستراتيجية" بين واشنطن وبوينس آيرس. وخلال الزيارة التي استغرقت ثلاثة أيام، زار هولسي مدينة أوشوايا في مقاطعة تييرا ديل فويغو الجنوبية، حيث يجري إنشاء قاعدة بحرية متكاملة جديدة مع ميناء في المياه العميقة منذ مارس 2022. تهدف القاعدة إلى أن تكون بمثابة مركز لوجستي للعمليات في القارة القطبية الجنوبية "أنتاركتيكا".

جاءت زيارة هولسي لأوشوايا بعد عام تقريباً من زيارة قائدة القيادة الجنوبية آنذاك، لورا ريتشاردسون، التي كانت في نفس المكان في 4 أبريل 2024، برفقة الرئيس ميلي، الذي أعلن حينها عن نية البلدين تطوير القاعدة البحرية، وقال ميلي: "نحن اليوم هنا للتصديق على جهودنا في تطوير قاعدتنا البحرية المتكاملة. إنه مركز لوجستي كبير سيكون أقرب ميناء تطوير إلى القارة القطبية الجنوبية، وسيجعل من بلداننا بوابة القارة البيضاء".

وتُثير هذه التحركات بعض التساؤلات حول أهمية هذه القاعدة لكل من الأرجنتين والولايات المتحدة على حد سواء، وانعكاساتها على التوازن الإقليمي في أمريكا اللاتينية، إضافة إلى التداعيات المحتملة لإنشائها على مستقبل التنافس الصيني الأمريكي في القارة القطبية الجنوبية، في ظل المزاعم الأمريكية المتكررة برغبة بكين في تمويل القاعدة الأرجنتينية، بالرغم من نفي بوينس آيرس ذلك.

مكاسب متبادلة

تُشير خطة الأرجنتين لبناء قاعدة بحرية متكاملة بالقرب من القارة القطبية الجنوبية، واهتمام الولايات المتحدة المتنامي بها، إلى ما قد تقدمه هذه الخطة من فرص ومكاسب استراتيجية مهمة للبلدين، كما يتضح فيما يلي:

1- توفير بوابة مباشرة للأرجنتين إلى القارة القطبية الجنوبية: تُمثل القاعدة البحرية المتكاملة في أوشوايا، الأرجنتين، تطوراً جيوستراتيجياً مهماً في جنوب المحيط الأطلنطي. تقع هذه القاعدة في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وتوفر للأرجنتين بوابة تشغيلية مباشرة إلى القارة القطبية الجنوبية، مما يعزز قدرتها على إبراز الإمكانيات البحرية والعلمية واللوجستية في المنطقة. تعزز القاعدة البنية التحتية البحرية للأرجنتين، ومن المتوقع أن تدعم المهام العلمية والبحرية مما يسمح بتعزيز دور الأرجنتين في حماية الطرق البحرية الرئيسية، من خلال زيادة أعمال المراقبة والدوريات والسيطرة المحتملة على نقاط الاختناق البحرية، خاصةً حول ممر دريك البحري، الذي يصل المحيط الأطلنطي (بحر سكوتيا) بالجزء الجنوبي الشرقي من المحيط الهادئ ويمتد إلى المحيط المتجمد الجنوبي.

2- تعزيز موقع الأرجنتين في المفاوضات المستقبلية بشأن معاهدة أنتاركتيكا: تُوفر قدرة القاعدة على الاستخدام المزدوج (العسكري والعلمي) للأرجنتين حضوراً مشروعاً في الأنشطة المتصلة بالقارة، بما يتماشى مع التزاماتها بموجب معاهدة أنتاركتيكا، بينما تعزز أيضاً مطالبها الجيوسياسية. من خلال توسيع وجودها المادي ومساهماتها العلمية ودورها الأمني في شؤون أنتاركتيكا، ستكون القاعدة بمثابة عامل تمكيني حاسم لاستراتيجية الأرجنتين طويلة الأجل لتأمين دور بارز في مستقبل القارة القطبية الجنوبية.

كما يضع هذا المسعى الأرجنتين في موقع جيوسياسي متميز ويمنحها نفوذاً استراتيجياً قوياً في جنوب المحيط الأطلنطي. وستكون القاعدة بمثابة إشارة إلى أن البلاد جادة بشأن طموحاتها في القارة وستدافع بنشاط عن موقفها خلال أي مفاوضات مستقبلية محتملة بشأن معاهدة أنتاركتيكا في عام 2048، حيث قد يسعى بعض الموقعين على المعاهدة إلى تغيير أحكامها الرئيسية، ولا سيما تلك المتعلقة باستخراج الموارد الطبيعية في بروتوكولها البيئي الذي يحظر التنقيب عن المعادن في القارة القطبية الجنوبية.

3- تقوية علاقات الشراكة بين حكومة ميلي وإدارة الرئيس ترامب: جاءت زيارة قائد القيادة الجنوبية الأمريكية للأرجنتين وموقع القاعدة البحرية في ظل لحظة تُعيد فيها الحكومة الأرجنتينية صياغة أولويات البلاد الخارجية. منذ تنصيب خافيير ميلي، اقتربت السياسة الخارجية للأرجنتين من الولايات المتحدة على جبهات مختلفة، بما في ذلك الأمن والتجارة والتعاون العسكري. وبالرغم من أن التخطيط لمشروع القاعدة البحرية المتكاملة بدأ في حكومة الرئيس الأرجنتيني السابق "ألبرتو فرنانديز"، بمبادرة من وزير الدفاع آنذاك "خورخي تايانا"، وأثار اهتمام روسيا والصين للمشاركة في تمويل بنائه وإدارته؛ لكن مع ذلك من الواضح أن الرئيس ميلي يرغب في أن يتم تنفيذ المشروع بدعم من واشنطن؛ حيث يسعى إلى أن تكون واحدة من أهم حلفاء بلاده الاستراتيجيين على الساحة العالمية.

قبل عام تقريباً، سافر ميلي إلى أوشوايا ليرأس اجتماعاً مع قائدة القيادة الجنوبية الأمريكية آنذاك، لورا ريتشاردسون، حيث تمّ الإعلان عن "تطوير قاعدة بحرية متكاملة" في هذه المدينة من شأنها أن تحول كلا البلدين "إلى بوابة" إلى القارة القطبية الجنوبية. وشدد ميلي خلال الاجتماع على أن الدفاع عن السيادة الأرجنتينية في الوقت الحالي يتطلب "تعزيز التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ومع جميع دول العالم التي تدافع عن قضية الحرية". من وجهة نظر الأرجنتين، يمكن أن يترجم الدعم الأمريكي إلى استثمارات أكثر في البنية التحتية الحيوية، وهو أمر ملح بالنسبة لبلد ذي موارد محدودة ومستوى عال من المديونية. يُراهن ميلي على وضع الأرجنتين كشريك موثوق به للولايات المتحدة والاستفادة من مصلحة واشنطن الجيوسياسية في القارة القطبية الجنوبية في تسهيل نقل التكنولوجيا الأمريكية وتعزيز المكانة الدولية لبلاده.

4- تسهيل وصول واشنطن إلى القطب الجنوبي: ترى واشنطن في أوشوايا منصة استراتيجية مهمة بفضل قربها من القارة القطبية الجنوبية، وبالتالي فهي مثالية لإظهار النفوذ على هذه القارة الغنية بالموارد الطبيعية والتي تخضع لنزاعات دبلوماسية دولية متعددة. في ظل الصعوبات الطبوغرافية والجغرافية التي تعيق الوصول السلس إلى القارة القطبية الجنوبية، فإن أوشوايا في الأرجنتين التي تقع على بعد 620 ميلاً من القارة القطبية الجنوبية، وبونتا أريناس في تشيلي التي تقع على بعد 870 ميلاً، تمثلان المدينتين الأقرب إلى القارة وتعملان كبوابات استراتيجية حيوية.

من هنا، يُفهم اهتمام الولايات المتحدة بتجديد التزامها بالشراكة مع هذين البلدين اللذين أعربا عن اهتمامهما بتنمية قدراتهما اللوجستية، بما يصب في مصلحة واشنطن الراغبة في الحفاظ على القارة القطبية الجنوبية لأغراض الاستكشاف العلمي السلمي، ومنع القوى الدولية المنافسة من القيام بأنشطة ربما تهدد أمن الولايات المتحدة. مع ذلك، تبدو الأرجنتين طرفاً أسهل للتفاوض مع واشنطن من تشيلي، التي لدى رئيسها "غابريل بوريك" مواقف ناقدة بشدة للتعريفات الجمركية للرئيس ترامب، ووصفه بأنه يحاول أن يظهر كإمبراطور.

في الواقع، يعبر الرئيس ميلي علناً عن تقارب أيديولوجي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يعتبره حليفاً "طبيعياً واستراتيجياً". كما تُشير تصريحات كبار المسؤولين الأمريكيين، بمن فيهم ألفين هولسي، إلى أن واشنطن تنظر إلى الأرجنتين "كشريك موثوق واستراتيجي في تعزيز الديمقراطية والاستقرار والتنمية الإقليمية". وهذه الشراكة لا تجد الولايات المتحدة لها مثيلاً في بلدان مهمة أخرى في أمريكا اللاتينية، بما في البرازيل وكولومبيا. لهذا، عملت على تعزيز دعمها لجهود تحديث القدرات الدفاعية في الأرجنتين، من خلال الإعلان في أبريل 2024 عن توقيع الأرجنتين اتفاقية لشراء 24 طائرة أمريكية الصنع من طراز F-16 من الدنمارك، وهي صفقة بقيمة 300 مليون دولار مدعومة بتمويل عسكري أجنبي أمريكي بقيمة 40 مليون دولار، وهو أول تمويل من نوعه للأرجنتين منذ عام 2003. وهذه الاتفاقية هي واحدة من عدة عمليات استحواذ على طائرات أمريكية الصنع تابعتها الأرجنتين مؤخراً.

5- إحكام السيطرة الأمريكية على الممرات الملاحية الحيوية: إن اهتمام الولايات المتحدة بقاعدة أوشوايا ليس جديداً، لكنه اكتسب قوة مع الاصطفاف الأيديولوجي لحكومة الرئيس ميلي مع واشنطن وفي سياق المنافسة العالمية المتزايدة مع الصين. في الواقع، سعت حكومة ألبرتو فرنانديز السابقة للحصول على تمويل صيني للقاعدة، لكن المبادرة لم تنجح. فتح تغيير الإدارة في الأرجنتين الباب أمام دعم أكثر نشاطاً من الولايات المتحدة، أولاً بزيارة الجنرال لورا ريتشاردسون في عام 2024 وأخيراً مع زيارة هولسي. ومن شأن وجود قاعدة في أوشوايا بمشاركة الولايات المتحدة أن يسمح أيضاً بمراقبة أفضل لحركة المرور في الطرق البحرية في جنوب المحيط الأطلنطي، والتي تكتسب أهمية مع ذوبان الجليد في القطب الجنوبي. في الوقت نفسه، ستسمح القاعدة للولايات المتحدة بتعزيز وجودها في جنوب المحيط الأطلنطي والممر الثنائي الذي سيربط بين المحيطين الأطلنطي والهادئ، وهذا مهم في إطار الجهود الأمريكية الموازية للسيطرة على حركة المرور على هذا الممر المائي بين المحيطات ومنعه من الوقوع تحت تأثير الصين.

علاوةً على ذلك، أعرب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، منذ عودته إلى منصبه، عن اهتمامه باستعادة الولايات المتحدة السيطرة على قناة بنما. مع خروج هذا الممر المائي من المعادلة، يظل مضيق ماجلان الممر الوحيد بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ، لذلك من المنطقي أن يراقب الرئيس الأمريكي هذه المسألة، سواء كان ذلك على الجانب الأرجنتيني أو على مشروع تشيلي المماثل في بونتا أريناس.

ويمكن أن يُنظر إلى استعداد الولايات المتحدة والأرجنتين لإجراء تدريب عسكري مستقبلي "خنجر الأطلنطي"، في فبراير 2026، في منطقة باتاغونيا الأرجنتينية، باعتباره خطوة إضافية في إطار الجهود الأمريكية في هذا الشأن. ومن المخطط أن يجري هذا التدريب في مواقع مثل تييرا ديل فويغو؛ حيث تقع القاعدة الأرجنتينية، مما سيمثل فرصة للبلدين لتعزيز تعاونهما في جنوب المحيط الأطنطي، ويعزز من استعداد الأرجنتين للتحديات المحتملة في مضيق ماجلان، وهو ممر استراتيجي يربطها بقارة أنتاركتيكا، كما أنه يتيح للولايات المتحدة القدرة على المراقبة عن كثب لتطورات الأوضاع بالقرب من القارة.

6- التصدي للنفوذ الصيني في أمريكا اللاتينية: يُنظر إلى الاهتمام الأمريكي الملاحظ بالقاعدة البحرية الأرجنتينية على أنه جزء من جهود واشنطن لإعادة تشكيل التحالفات الاستراتيجية في نصف الكرة الغربي. خلال السنوات الأخيرة، عززت الولايات المتحدة حضورها في أمريكا اللاتينية كجزء من استراتيجية أوسع لمواجهة نفوذ الصين المتزايد. تؤكد تحركات إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن والإدارة الحالية لدونالد ترامب كيف تركز الولايات المتحدة من جديد على استعادة نفوذها المتراجع في هذه المنطقة، مع التركيز على الأمن الاستراتيجي والطرق البحرية الحيوية.

من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن تأمين تحالف قوي مع الأرجنتين في الطرف الجنوبي من القارة يعني كسب ميزة استراتيجية على بكين التي سعت إلى توسيع نفوذها من خلال الاستثمارات والاتفاقيات في البنية التحتية في أمريكا اللاتينية على مدار السنوات الأخيرة. ويمكن لإنشاء القاعدة البحرية في أوشوايا أن يساعد واشنطن ليس فقط في تعزيز نفوذها الإقليمي، ولكن سيمكنها أيضاً من إسقاط قوتها العسكرية في القارة القطبية الجنوبية وجنوب المحيط الأطلنطي وسيساعدها في إعادة التموضع بالمناطق الاستراتيجية التي ستكتسب مكانة بارزة في النزاعات الجيوسياسية التي تلوح في الأفق في الطرف الجنوبي من الكوكب.

عواقب استراتيجية

من المرجح أن يكون لإنشاء القاعدة البحرية المتكاملة للأرجنتين عواقب وتداعيات استراتيجية أوسع نطاقاً من مجرد المنافسة الصينية الأمريكية، كما يمكن أن تؤثر على الجغرافيا السياسية الدولية لمنطقة أمريكا اللاتينية والقارة القطبية الجنوبية بشكل عام، وذلك على النحو التالي:

1- تحويل الأرجنتين إلى منصة للتنافس الصيني الأمريكي: كانت الأرجنتين حاضرة في خضم التنافس الجيوسياسي المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة مؤخراً؛ فقبل زيارة قائد القيادة الجنوبية الأمريكية بأسبوعين، وصل وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت، إلى الأرجنتين. وخلال مؤتمر صحفي مع الرئيس ميلي، قال بيسنت إن بكين أبرمت "اتفاقيات جشعة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا يتم تقديمها كمساعدات، لكنها كانت للاستيلاء على حقوق التعدين وإضافة مبالغ هائلة من الديون إلى الميزانيات العمومية لتلك البلدان"، وطلب من السلطات الأرجنتينية إنهاء اتفاقية مقايضة العملات التي أبرمتها مع العملاق الآسيوي. من جانبها، رفضت بكين هذه التصريحات، مشددة على أنها "ترافق الدول النامية في طريقها إلى التنمية دون فرض أي شروط سياسية".

في ضوء ما سبق، من المرجح أن تكون الأرجنتين مجدداً محوراً للتنافس المحتدم بين القوتين العالميتين، ولكن هذه المرة حول القاعدة البحرية المتكاملة، التي ربما تستخدمها واشنطن كمركز لوجستي لدعم العمليات الأمريكية في جنوب المحيط الأطلنطي بدلاً من المراكز اللوجستية البحرية التي تمتلكها المملكة المتحدة في جزر جنوب الأطلنطي. كما أن مساهمة واشنطن في بناء القاعدة من شأنها أن تقطع الطريق أمام تقدم الصين التي تسعى إلى ترسيخ حضورها عند أبواب القارة القطبية الجنوبية.

ويخشى القادة العسكريون الأمريكيون من أن تتمكن بكين من تأمين وصول موثوق به إلى القارة القطبية الجنوبية يمنحها القدرة على الوصول الاستراتيجي إلى ممرات بحرية مهمة والمرور بين المحيطين الهادئ والمحيط الأطلسي في حالة نشوب صراع من شأنه أن يجعل قناة بنما غير مفتوحة أمام السفن الصينية. في ظل المخاوف من مخاطر التنافس القوي بين واشنطن وبكين على مصالح الأرجنتين، يُنادي عدد ليس بالقليل من المحللين والمراقبين المحليين بضرورة تجنب البلاد الحصول على تمويل لبناء القاعدة سواء من واشنطن وبكين، وأن يكون العمل بأموال وطنية صرفة، تجنباً لاستعداء أي من الطرفين.

2- تعظيم الأهمية الاستراتيجية لأمريكا الجنوبية: تنظر الصين إلى القارة القطبية الجنوبية كساحة جيوستراتيجية رئيسية، على الرغم من أن متطلبات معاهدة أنتاركتيكا تحظر عسكرة القارة. من بين أولوياتها طويلة الأجل، تهدف الصين إلى "وصول عادل" إلى موارد القارة الكبيرة المحتملة، بما في ذلك المعادن. لهذا تحافظ بكين على علاقات اقتصادية وسياسية مع دول أمريكا الجنوبية، وبالتحديد الأرجنتين وتشيلي، وهما الدولتان الأقرب إلى القارة القطبية الجنوبية.

يعود التعاون بين الصين وتشيلي بشأن تبادل المعلومات والمعارف الخاصة بالقارة القطبية الجنوبية إلى عام 2010، وفي عام 2019 بدأت الصين محادثات مع تشيلي لاستخدام ميناء بونتا أريناس لاستقبال سفنها وكمرحلة لاستكشاف القطب الجنوبي. كما وقع البلدان في ديسمبر 2023 مذكرة تفاهم بشأن توسيع التعاون في أنتاركتيكا. أما بالنسبة للأرجنتين، فإن الدعم الرسمي للسلطات الصينية لسيادة البلاد على جزر فوكلاند / مالفيناس، التي تسعى لاستعادتها من المملكة المتحدة، يؤكد على الطبيعة الاستراتيجية لهذه الشراكة الثنائية.

ومن خلال بوابة أمريكا الجنوبية، تحرص الصين على ترسيخ شرعية وجودها في القارة القطبية الجنوبية على المدى الطويل، مدفوعة بالمصالح الاقتصادية (مثل استغلال الموارد الطبيعية) والمصالح الاستراتيجية (السيطرة على طرق الشحن). وعلى الصعيد التشغيلي، تستفيد الصين من البنية التحتية القائمة لتوفير دعم لوجستي متزايد لمحطاتها البحثية والعلمية الخمس في أنتاركتيكا. في هذا الصدد، تمثل بونتا أريناس في تشيلي وأوشوايا الأرجنتينية حالات ناجحة لدعم الأنشطة الصينية. تعمل هاتان المدينتان كموانئ رئيسية حيث تبحر السفن السياحية من وإلى القارة القطبية الجنوبية.

ومن الملاحظ أن تشيلي تحافط على موقف أكثر حيادية من الأرجنتين فيما يتعلق بالتنافس الأمريكي – الصيني. مثلما تنسق مع بكين في القارة القطبية الجنوبية، فإن قواتها البحرية تتعاون مع نظيرتها الأمريكية أيضاً. في أغسطس 2023، شاركت القوات الخاصة للبحرية التشيلية والكتيبة الأولى للجيش الأمريكي، مجموعة القوات الخاصة السابعة، في التدريب على البحث والإنقاذ القتالي (CSAR). أجروا هذا التدريب في منطقة ماجلانس والقارة القطبية الجنوبية التشيلية. عملوا من بونتا أريناس بهدف تعزيز قابلية التشغيل البيني في قارة أنتاركتيكا.

3- تأجيج النزاعات الإقليمية اللاتينية: لطالما كانت القارة القطبية الجنوبية منطقة متنازعاً عليها للغاية. منذ عام 1961، حددت معاهدة أنتاركتيكا القارة القطبية الجنوبية باعتبارها غير مصرح لأي دولة بادعاء السيادة فيها. حالياً، الطريقة الوحيدة لإنشاء قاعدة في هذه القارة هي للأغراض العلمية، ولا يسمح بأي شكل من أشكال الاحتلال العسكري أو الاستكشاف الاقتصادي. ومع ذلك، يمكن أن يعاد التفاوض على هذه المعاهدة في غضون عقود قليلة ومن ثم تعود النزاعات الإقليمية، والتي من المرجح أن تكون واحدة من أهم القضايا الجيوسياسية العالمية.

في الوقت الحالي، هناك حوالي 55 بلدا أطرافاً في معاهدة أنتاركتيكا، في حين أن 30 بلداً تحتفظ بما مجموعه حوالي 82 محطة في القارة. إن الحفاظ على القطب الجنوبي كمجال للاستكشاف العلمي في المقام الأول هو مسألة ذات أهمية بيئية واستراتيجية، مع الأخذ في الاعتبار أن السباق لاستغلال موارد التعدين وصيد الأسماك والرواسب الضخمة من البترول والغاز الطبيعي من شأنه أن يزيد من حدة المنافسة للوصول إلى هذه الموارد، خاصة في ظل تسارع وتيرة التغيرات المناخية والتطورات العلمية والتكنولوجية التي تسهل الوصول إلى القارة القطبية الجنوبية التي تعد موطناً لأكبر احتياطي للمياه العذبة في العالم.

وتُعد تشيلي والأرجنتين من بين الموقعين الأصليين على معاهدة أنتاركتيكا، واثنتين من سبع دول لها مطالبات إقليمية رسمية في القارة، والأخرى هي المملكة المتحدة والنرويج وأستراليا وفرنسا ونيوزيلندا. الأرجنتين وتشيلي هما الدولتان الوحيدتان اللتان تطالبان بسيادة أنتاركتيكا، وهما ليستا عضوين في حلف شمال الأطلنطي أو تحالف العيون الخمس، فضلاً عن كونهما المشاركين الوحيدين في مبادرة الحزام والطريق من بين المطالبين السبعة في أنتاركتيكا.

ويمكن أن يؤدي إنشاء القاعدة البحرية الأرجنتينية بدعم أمريكي إلى تجديد مطالبات البلدين التاريخية في القارة، والمجمدة بموجب معاهدة أنتاركتيكا. مع ذلك، فإن الأمر يتوقف على مدى التزام الأرجنتين وتشيلي بالقنوات الدبلوماسية السلمية المخصصة للتشاور حول القضايا الخلافية الثنائية، بما في ذلك لجنة الأرجنتين-التشيلي ثنائية القومية المعنية بشؤون أنتاركتيكا، التي تأسست في مارس 2022. ومن العوامل التي ربما تسهم في تخفيف التوترات الثنائية المحتملة، قيام البلدين بتشكيل قوة بحرية مشتركة في أنتاركتيكا منذ عام 1998. ومن خلالها تجتمع القوات البحرية من البلدين خلال أشهر الصيف في أنتاركتيكا (نوفمبر - مارس) للقيام بدوريات في مياه أنتاركتيكا، ومساعدة السفن المحتاجة، والاستجابة للانسكابات النفطية، وزيارة ودعم القواعد المختلفة.

4- تفاقم التوترات السياسية والعسكرية بين الأرجنتين والمملكة المتحدة: تميل خطط الأرجنتين لإنشاء القاعدة البحرية في أوشوايا إلى الاصطدام بمشروع المملكة المتحدة في القارة القطبية الجنوبية، حيث للبلدين مطالبات تاريخية في القارة. سعت الحكومة البريطانية دائماً إلى توسيع وجودها في المناطق المحيطة، وخاصة من خلال جزر فوكلاند. وبالمثل، للأرجنتين حضور تاريخي في القارة القطبية الجنوبية يعود إلى عام 1904. يعتبر بعض المراقبين أن قرب جزر فوكلاند / مالفيناس -التي تحتلها المملكة المتحدة وتطالب الأرجنتين بها- من القطب الجنوبي أحد العوامل الاستراتيجية الكبرى التي دفعت الأرجنتين والمملكة المتحدة إلى التطرف في نزاعاتهما، والتي وصلت إلى درجة الصدام العسكري المباشر في عام 1982. حالياً، يخطط البريطانيون لبناء محطة ميناء كبيرة في بورت ستانلي، والتي من المتوقع أيضاً أن تعمل كمركز لوجستي للأنشطة في قارة أنتاركتيكا. تقدر قيمة المشروع بأكثر من 85 مليون دولار.

بالمثل، قد تحاول الأرجنتين ربط طموحاتها في أنتاركتيكا بمطالبها الأوسع بالسيادة على جزر مالفيناس / فوكلاند. يمكن أن تؤدي قدرة البلاد المتزايدة على إبراز القوة من القاعدة البحرية في أوشوايا القريبة من جزر فوكلاند / مالفيناس إلى تغيير ميزان القوى في جنوب المحيط الأطلنطي، مما قد يتحدى موقف المملكة المتحدة في هذا النزاع. ستمكن القدرة التشغيلية التي توفرها قاعدة أوشوايا الأرجنتين من تعزيز الدوريات حول الجزر، وقد تخلق هذه الدوريات احتكاكاً دبلوماسياً، خاصة إذا زادت الأرجنتين من عمليات التفتيش على السفن التي ترفع أعلاماً أجنبية بالقرب من أنتاركتيكا، وربما تفاقم من حدة التوترات الثنائية طويلة الأمد بين الأرجنتين والمملكة المتحدة.

5- إشعال الانقسامات السياسية في الأرجنتين: قدّرت الحكومة الأرجنتينية تكلفة إنشاء القاعدة المتكاملة في أوشوايا بحوالي 300 مليون دولار أمريكي، وأوضحت أنها لا تنطوي على منح أي امتيازات خاصة للولايات المتحدة، كما أن الحكومة الأمريكية لم تعلن صراحة حتى الآن عن مخصصات مالية محددة لبناء القاعدة. وبالرغم من التقارير العديدة المتداولة حول اهتمام الولايات المتحدة بهذه القاعدة، فقد أوضح مكتب مجلس الوزراء الأرجنتيني رداً على تحقيق رسمي قدمه قبل أشهر مشرعون في مجلس النواب، أن القاعدة الجديدة "أرجنتينية وليست قاعدة مشتركة".

وقد أثار الحديث عن دور محتمل للولايات المتحدة في القاعدة حالة من الجدل الشديد داخل الأرجنتين. قال غوستافو ميليلا حاكم مقاطعة تييرا ديل فويغو الجنوبية، الذي رفض مقابلة قائد القيادة الأمريكية، إن "تييرا ديل فويغو هي منطقة سلام ولسنا بحاجة إلى قواعد عسكرية أجنبية، مما ينتهك أيضاً قرارات الأمم المتحدة التي نستشهد بها اليوم في حملتنا الصليبية من أجل مالفيناس". من جانبها، رفضت بعض المنظمات مثل جمعية قدامى المحاربين في مالفيناس (فوكلاند) مثل هذه الخطط، ويطالبون حكومة ميلي بالتركيز على استعادة جزر مالفيناس من المملكة المتحدة والالتزام بالمعاهدات التي تروج لأمريكا اللاتينية كساحة للسلام، بدلاً من الدفع نحو مزيد من عسكرة المنطقة.

تشعر القطاعات القومية الأرجنتينية بالقلق من أن الزيارة الأخيرة التي قام بها قائد القيادة الجنوبية الأمريكية الأدميرال ألفين هولسي قد تكون مقدمة للتنازل عن السيادة الوطنية لصالح واشنطن، والتي يعتقد أن الرئيس خافيير ميلي يفضلها. وترى هذه القطاعات أن وجود ميناء عسكري محدث وممول من وزارة الدفاع الأمريكية يتمتع بقدرات جوية وبرية وبحرية بالقرب من القارة القطبية الجنوبية من شأنه أن يعزز سيطرة الولايات المتحدة على الطرق والموارد البحرية الرئيسية، وبالتالي يمكن أن يولد توترات مع الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية الأخرى، لا سيما روسيا والصين، مما يؤثر على قدرة الأرجنتين على الحفاظ على سياسة خارجية متوازنة ومتعددة الأقطاب، كما قد يهمش ذلك من دور الشركاء الإقليميين مثل البرازيل وتشيلي. بالإضافة إلى ذلك، أُثيرت مخاوف بشأن تجاوز المتطلبات الدستورية لموافقة الكونجرس الوطني على نشر القوات الأجنبية في البلاد، والتي يمكن أن تشمل حتى الغواصات الأمريكية في أوشوايا.

من جملة ما سبق، يمكن القول إنه على الرغم من أن مصلحة الولايات المتحدة في بناء قاعدة تواجه جنوب المحيط الأطلنطي، والوصول المباشر إلى القارة القطبية الجنوبية، حقيقية وملموسة؛ إلا أن هناك عدة عقبات يمكن أن تعرقل إحراز تقدم جوهري في إنشاء القاعدة البحرية المتكاملة في المدى المنظور. من بين هذه العقبات، تركيز إدارة ترامب في الوقت الراهن على خوض معارك أخرى مع الصين في أمريكا اللاتينية حول الممرات الملاحية الدولية، مثل قناة بنما، وهو ما يفسر تأكيدات وزارة الدفاع على أن إدارة ترامب لم تتحدث مع حكومة ميلي حول تمويل محدد للمضي قدماً في إنشاء القاعدة. بالإضافة إلى ذلك، إذا قررت حكومة ميلي السماح بوجود قوات عسكرية أجنبية داخل البلاد، فلا بد من الحصول على موافقة الكونجرس الوطني في الأرجنتين. علاوة على ذلك، فإن حكومة ميلي لا يبدو أن لديها نوايا جدية في الوقت الراهن في الإسراع بإنشاء القاعدة، خاصة مع تركيزها على خفض النفقات ووقف مشروعات الأشغال العامة، وكذلك الأعمال التي كانت تقوم بها وزارة العلوم والتكنولوجيا بخصوص أنشطة البحث العلمي في القارة القطبية الجنوبية.

هل تتحول الأرجنتين لمنصة للتنافس الأمريكي الصيني في القارة القطبية الجنوبية؟