د. صدفة محمد محمود


        
<p>تُمثِّل الأزمة الأوكرانية، سواء التهديدات الروسية بغزو البلاد، أو اعترافها باستقلال إقليمي "أوكرانلوجانسك" و"دونيتسك" عن أوكرانيا؛ اختباراً حقيقيّاً لقدرة أوروبا على صياغة سياسة أمنية ودفاعية مشتركة. وقد صرح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية "جوزيب بوريل"؛ بأن "روسيا أحدثت في أوكرانيا التهديد الرئيسي للسلام والاستقرار في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية"، كما حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من أن "العالم يتابع في هذه الأيام أكبر حشد للقوات في أوروبا منذ الحرب الباردة".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ورغم خطورة الأزمة الأوكرانية على أمن أوروبا، تولت الولايات المتحدة زمام المبادرة والقيادة والتنسيق لجهود شركائها في مواجهة روسيا، وقدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وهددت إدارة بايدن بفرض عقوبات اقتصادية خانقة على روسيا إذا غزت أوكرانيا، كما حظرت على الأمريكيين "القيام بأي عمليات جديدة، استثمارية أو تجارية أو تمويلية، إلى أو مِن أو داخل ما يسمّى جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية في أوكرانيا".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وفي المقابل، كان هناك خفوت واضح للدور الأوروبي في هذه الأزمة، مرده الأساسي الانقسامات العميقة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التي ساهمت في تهميش دوره في الأزمة، وهو ما اتضح في إجراء مسؤولين كبار من الولايات المتحدة وروسيا مباحثات في جنيف حول الأزمة الأوكرانية دون مشاركة أي مسؤول من الاتحاد الأوروبي في المباحثات. وفي بروكسل، عُقدت مباحثات ثنائية في إطار مجلس الناتو–روسيا في مقر حلف الناتو لا داخل مقر المجلس الأوروبي؛ ما دفع الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والأمنية "جوزيب بوريل"، إلى تأكيد أن "أي نقاش حول الأمن الأوروبي يجب أن يشمل الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مؤشرات الضعف الأوروبي</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>تُعَد أزمة أوكرانيا بمنزلة "لحظة كاشفة" عن مدى هشاشة وضعف منظومة الأمن الأوروبي، وهو ما يبرز في عدد من المؤشرات؛ منها:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– الانكشاف الأمني والدفاعي الأوروبي أمام الخارج:</strong> بالرغم من مرور ثلاثين عاماً على الموافقة على معاهدة ماستريخت، في عام 1992، التي نصَّت على إنشاء اتحاد اقتصادي ونقدي، مع إنشاء البنك المركزي الأوروبي، والتي اقترحت تبني سياسة خارجية وأمنية مشتركة يمكن أن "تؤدي إلى إقامة منظومة دفاع مشترك"؛ لا يزال الأمن الأوروبي يعتمد في الأساس على القوات العسكرية من خارج الاتحاد. ويترك فراغ القوة الأوروبية مجالاً خطيراً للمناورة بين القوتين النوويتين؛ حيث تسعيان إلى توسيع منطقة نفوذهما في أوروبا أو منع القوة المنافسة من القيام بذلك، في حين يتراجع نفوذ الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالقضايا الأمنية الملحة في جواره الجغرافي المباشر؛ لذلك كان واضحاً حرص روسيا على التفاوض مباشرةً مع حلف الناتو، وبالأحرى مع "الولايات المتحدة" العضو الرئيسي فيه، لا مع الاتحاد الأوروبي كتجمع، في ظل مخاوف موسكو من امتداد الحلف إلى حدودها الشرقية؛ ما يهدد أمنها واستقرارها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– محدودية القدرة على الاستقلال الدفاعي عن واشنطن:</strong> في مواجهة التهديدات التي تمثلها الأزمة الأوكرانية لأمن أوروبا، دعا الرئيس "إيمانويل ماكرون" إلى إجراء محادثات أمنية أوروبية مع موسكو بشكل مستقل، وإنشاء "نظام أمني جماعي جديد في أوروبا"، وسبق أن أكد –في ظل تولي بلاده الرئاسة الحالية للاتحاد الأوروبي منذ يناير 2022– ضرورة تحقيق مبدأ "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي". ومع ذلك، تكشف أزمة أوكرانيا عن صعوبة تنفيذ ذلك، في ظل الاعتماد الأوروبي الكبير على الولايات المتحدة لمنع اندلاع صراع كبير محتمل على أراضيها من جهة، بجانب معارضة بعض الدول الأوروبية، بالتحديد، في أوروبا الشرقية والبلطيق من جهة أخرى لمبدأ "الاستقلال الاستراتيجي"؛ حيث لا ترغب في استبدال منظومة دفاعية أوروبية مكانَ المظلة الأمنية الأمريكية–الأطلسية، وهي تخشى من أن يؤدي تعزيز دور أوروبا في الأمن والدفاع إلى إضعاف حلف الناتو وتقليل الاعتماد على الأصول العسكرية الأمريكية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– فقر الغاز وتنامي تهديدات أمن الطاقة الأوروبي:</strong> لم تكشف أزمة أوكرانيا عن عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على تكوين قوة عسكرية مشتركة فحسب للدفاع عن أوكرانيا –وهي دولة أوروبية مستقلة وذات سيادة– في مواجهة تهديدات روسيا بغزوها، أو عقب الاعتراف بالإقليمين الانفصاليين؛ "أوكرانلوجانسك" و"دونيتسك" كجمهوريتين مستقلتين عن أوكرانيا، بل كشفت هذه الأزمة أيضاً عن ضعف قدرة أوروبا على ضمان إمداداتها من الطاقة؛ حيث يمثِّل الغاز الروسي أكثر من 40% من واردات الغاز الأوروبية. وفي ظل "عسكرة" روسيا قضيةَ الطاقة، فهناك مخاوف حقيقية من أن حدوث أي خلل في الإمدادات بسبب عقوبات غربية محتملة على موسكو، ستكون له تأثيرات مباشرة على الاقتصاد الأوروبي وقدرته التنافسية، وعلى أسعار الطاقة للمواطنين العاديين. وتؤكد الأزمة الراهنة أيضاً استمرار اعتماد الاتحاد الأوروبي اقتصاديّاً على الولايات المتحدة التي وضعت خططاً لتعزيز إمدادات الطاقة للاتحاد إذا ردت روسيا على العقوبات الغربية بقطع الوقود عن القارة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">عوامل الضعف المتعدد</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>يُمكن تفسير ضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على التعامل الفعَّال مع التهديدات التي تشكلها أزمة أوكرانيا لأمن دُوله؛ بعدة عوامل، من أبرزها:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– انقسام دول الاتحاد بشأن كيفية التعامل مع روسيا:</strong> ثمة تباين بين دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية بشأن كيفية الاستجابة للتهديدات الروسية، وبالتحديد فرنسا وألمانيا؛ إذ تتخذ الأولى موقفاً يطالب بأوروبا قوية ومستقلة استراتيجيّاً، فيما لا تشاركها الثانية الموقف نفسه؛ حيث عزفت ألمانيا عن القيام بدور قيادي في الأزمة، وقد رفضت بشكل قاطع تزويد أوكرانيا بالأسلحة، ولم تسمح لإستونيا بتصدير أسلحة ألمانية المنشأ إلى أوكرانيا. وبالنظر إلى أن إستونيا عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كما أن تصدير الأسلحة يتناغم مع الموقف الأمريكي الداعم لكييف في مواجهة موسكو؛ يمكن إدراك حجم الانقسام وعدم وحدة الموقف السياسي والدفاعي لدول الاتحاد. ولقد أدت المواقف المتباينة إلى التقليل من أهمية القوة الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي، وساهمت في ظهور أزمة في قيادة الاتحاد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تغليب الحسابات الداخلية للدول على القرار الأوروبي الموحد: </strong>ترتبط الانقسامات بين دول الاتحاد بشأن الأزمة الأوكرانية، بالحسابات الداخلية لكل دولة، التي تتعلق –على سبيل المثال– بمشكلة إمدادات الطاقة، ومشروع "نورد ستريم 2″، الذي تعوِّل عليه برلين كثيراً في تنفيذ خططها الرامية إلى تقليل الاعتماد على الطاقة النووية والفحم؛ ما يفسر التردد والتحفظ الذي أبدته ألمانيا وكذلك إيطاليا تجاه سيناريو التصعيد مع موسكو، في حين يسعى الرئيس "ماكرون" إلى لعب دور قيادي في هذه الأزمة والحصول على مكانة زعيم أوروبي "صانع للسلام"؛ لتعزيز حظوظه الانتخابية، خاصةً مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية في أبريل 2022.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تباين أولويات التهديدات الأمنية بين الدول الأعضاء:</strong> جانب أساسي يُفسر ضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على تبني سياسة أمنية ودفاعية مشتركة واضحة المعالم، بخصوص الأزمة الأوكرانية، وهو وجود تباين في رؤى الدول الأعضاء بشأن أولويات التهديدات الأمنية؛ فعلى سبيل المثال، لا يساور إيطاليا القلق الذي ينتاب بولندا ولاتفيا وغيرهما من دول أوروبا الشرقية والبلطيق حيال التهديد الأمني الذي تمثله روسيا شرقاً، كما أن بولندا التي تحملت العبء الأكبر للتصدي لموجة المهاجرين الذين كانوا يتطلعون إلى الوصول إلى أوروبا قادمين من بيلاروسيا؛ تخشى من موجات جديدة من المهاجرين. وفي فرنسا والسويد، تتركز المخاوف على الهجمات السيبرانية الروسية في انتخاباتهما الوطنية. وبالنسبة إلى الألمان والإيطاليين والرومانيين، فإن نقص الطاقة هو أكبر مخاوفهم، إضافةً إلى تراجع الوزن النسبي للقضايا الأمنية في ترتيب اهتمامات الاتحاد الأوربي، الذي أبدى على مدار السنوات الماضية اهتماماً راسخاً بتعزيز الشراكات الاقتصادية، في مقابل محدودية الإنفاق على الدفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– غياب التوافق حول جدوى توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي:</strong> تثير مسألة توسيع الاتحاد الأوروبي جدلاً واسعاً بين الأوروبيين؛ فبينما يرى البعض أنها فرصة تاريخية لتوحيد أوروبا وأنها تساهم في تحقيق الأمن والاستقرار والرخاء فيها؛ يعتبرها البعض الآخر خطراً يهدد الوحدة الأوروبية؛ لأنه سيزيد الأعباء الاقتصادية ويُعمِّق مشكلات الهجرة. وفي حين تؤيد بعض الدول، مثل إيطاليا، ضم دول من البقان إلى عضوية الاتحاد الأوروبي؛ فإن فرنسا والدنمارك وهولندا تعارض ذلك.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">محددات المستقبل </span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>من جملة ما سبق، يمكن القول إن المعطيات الجارية التي تفرضها الأزمة الأوكرانية، تحتِّم على الاتحاد الأوروبي الخروج من عباءة "القوة الناعمة" التي تقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية، إلى أن يصبح "قوة صلبة" من الناحية الجيوسياسية، بيد أن هذا التحول يتطلب الوصول إلى إجماع أوروبي بالغ أهمية، وتجاوز الخلافات بين بلدان الاتحاد. وفي حال فشل الاتحاد الأوروبي في توحيد الدول الأعضاء فيه خلف أجندة مشتركة للأمن الدفاع، سيفقد زمام المبادرة، وسيتحدَّد مستقبل القارة الأوروبية من قبل الولايات المتحدة وروسيا.</strong><strong></strong></p>

      

لماذا تمثل أزمة أوكرانيا تحدياً حقيقياً لمنظومة الأمن الأوروبي؟