د. صدفة محمد محمود

كشف الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا"، في 6 أغسطس 2025، لوكالة رويترز عن خططه لسياسة وطنية جديدة تتعامل مع المعادن الاستراتيجية على أنها مسألة "سيادة وطنية" من أجل تجنب تصدير المعادن دون إضافة قيمة محلية. كان ذلك رداً على إعلان القائم بالأعمال في السفارة الأمريكية بالبرازيل، غابرييل إسكوبار، عن اهتمام الولايات المتحدة بالمعادن البرازيلية الاستراتيجية، خلال اجتماعه مع معهد التعدين البرازيلي (إبرام)، وهو كيان خاص يمثل الشركات في هذا القطاع. ومع فرض إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" تعريفات جمركية على الصادرات البرازيلية بقيمة %50، اكتسب التوتر المتزايد بين البرازيل والولايات المتحدة، زخماً جديداً مع بروز المعادن الحرجة كموضوع رئيس للنقاش بين البلدين. أهمية متزايدةأضحت المعادن الأرضية النادرة في قلب المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والبرازيل، وذلك للعوامل التالية: 1- احتفاظ البرازيل بكميات ضخمة من المعادن الحرجة: تؤكد البيانات الحكومية أن البرازيل تمتلك حوالي %94 من الاحتياطيات العالمية للنيوبيوم، الضرورية لصناعة الصلب، البناء المدني، التوربينات، القطارات عالية السرعة، البطاريات، والمعدات الفضائية والعسكرية، كالصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت. إضافة إلى امتلاكها حصصاً كبيرة من النيكل والجرافيت والمنجنيز. تقول الخطط الحكومية وتقارير الصناعة إن البرازيل يمكن أن توفر ما يقرب من 15% من الليثيوم العالمي بحلول عام 2030. ترتكز احتياطيات البرازيل من هذا المعدن، في المنطقة الشمالية الشرقية بولايتي ميناس جيرايس وباهيا. لدى البرازيل نحو 23 % من إجمالي الاحتياطي العالمي من المعادن الأرضية النادرة، وهي الثالثة عالميًا بعد الصين وفيتنام. مع ذلك، فإنها تُمثل أقل من %1 من الإنتاج العالمي، لأن العديد من الاحتياطيات غير المستغلة موجودة في مناطق كغابات الأمازون، مما يُمثل تحديًا للبرازيل للموازنة بين حماية الغابات المتدهورة واستغلال ثرواتها المعدنية الوفيرة.2- سعي إدارة ترامب للضغط على البرازيل في المفاوضات التجارية: فرضت الولايات المتحدة تعريفة جمركية بنسبة %50 على الصادرات البرازيلية، تحت ذريعة حماية الوظائف الأمريكية وتعزيز الأمن القومي من خلال تشجيع معالجة المعادن وتصنيعها في الداخل. في هذا السياق، ألمح مسؤولون أمريكيون إلى مطالب بالوصول التفضيلي إلى&nbsp;الموارد المعدنية&nbsp;البرازيلية مقابل صفقة تجارية مواتية، مما يُشير إلى رغبة واشنطن في استخدام المعادن الحيوية في البرازيل كورقة مساومة في المفاوضات التجارية معها. ورغم وفرة المعادن في البرازيل، إلا إنها لا ترسل سوى حوالي 3 % من صادراتها المعدنية إلى الولايات المتحدة، وهذا يفسر رغبة واشنطن في زيادة إمدادات البرازيل من المعادن، وكذلك ضغطها من أجل مشاركة أكبر لشركاتها في قطاع التعدين البرازيلي. 3- تنامي المنافسة العالمية على المعادن النادرة: خلال السنوات الأخيرة، تزايد التنافس بين القوى الكبرى على&nbsp;إمدادات المعادن الاستراتيجية، خاصة الليثيوم. وأصبح الوصول إليها مرادفاً لحيازة القوة وعاملًا لضمان التفوق التكنولوجي، وذلك لدورها الحيوي في صناعات المستقبل، من السيارات الكهربائية والألواح الشمسية إلى المعدات العسكرية والهواتف الذكية المتطورة. بجانب أهميتها المتزايدة في التحول العالمي في مجال الطاقة. أثار وجود نحو %52 من احتياطيات الليثيوم في العالم فيما يسمى بمثلث الليثيوم، الذي يضم بوليفيا والأرجنتين وتشيلي، اهتمام اللاعبين الاقتصاديين الرئيسيين في العالم وحفز سباقاً للحصول على هذا المعدن. ما بين عامي 2019 و2022، استثمرت الشركات الصينية حوالي&nbsp;4.5 مليار دولار&nbsp;في مشاريع الليثيوم في المكسيك وأمريكا الجنوبية. وتتدفق كميات متزايدة من معادن أمريكا اللاتينية، بما في ذلك تلك التي تستخرجها وتعالجها الشركات الصينية، إلى الصين نتيجة لهذه المشاريع. وفقاً&nbsp;لمركز سياسات التنمية العالمية التابع لجامعة بوسطن، نمت حصة الصين من الصادرات الاستخراجية من أمريكا اللاتينية من %1 في عام 2000 إلى 34 % في عام 2020. 4- الرغبة الأمريكية في تنويع سلاسل التوريد العالمية: يسعى الرئيس ترامب إلى تأمين الإمدادات الأمريكية من المعادن الحيوية، وينتقد هيمنة الصين على القطاع في ظل سيطرتها على نحو 60 % من الإنتاج العالمي للمعادن النادرة وحوالي 90% من التكرير أو المعالجة. تحصل الولايات المتحدة على %80 من وارداتها من المعادن الأرضية النادرة من الصين. مع فرض بكين - في وقت سابق من هذا العام- ضوابط صارمة على الصادرات على بعض المعادن، شرعت إدارة ترامب في عقد الصفقات مع بعض الدول، ومنها أوكرانيا لتأمين المعادن الحيوية. وفي يوليو 2025، استقبل الرئيس الأمريكي قادة خمس دول أفريقية في البيت الأبيض لحضور قمة استراتيجية، كان من بين أهدافها الرئيسة التفاوض على وصول الولايات المتحدة إلى المعادن الحيوية.&nbsp;وفي الشهر ذاته،&nbsp;أعلن ترامب عن تعريفة جمركية بنسبة 50 % على واردات النحاس من تشيلي وكندا والمكسيك، بدءا من أغسطس الجاري، في محاولة لحماية الصناعة المحلية والضغط على الموردين الأجانب. تشير نتائج الاستكشافات الأخيرة في البرازيل إلى احتياطيات كبيرة من الليثيوم، مما يؤهلها لأن تصبح مورداً رئيسياً لهذا المعدن في السنوات القادمة، وربما تكون بديلاً واقعياً للهيمنة الصينية في بعض أسواق المعادن الحيوية، مما يعزز تنويع سلاسل التوريد. استجابات برازيليةفي مواجهة الحديث المتواتر عن رغبة أمريكية في الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة في البرازيل، قامت حكومة الرئيس لولا بتبني عدة مواقف على مستوى الخطاب والممارسة العملية، من بينها:1- التعهد بحماية السيادة الوطنية على المعادن الحرجة: انتقد الرئيس لولا تصريحات مسؤول في السفارة الأمريكية تشير إلى إدراج معادن "أرضية نادرة" برازيلية في المناقشات الثنائية. وأكد أن هذه الموارد ملك للشعب البرازيلي وينبغي أن تفيدهم بشكل مباشر. وشدد لولا على إن البرازيل لا يمكنها السماح لاستكشاف الأتربة النادرة والموارد المعدنية الأخرى باتباع النموذج الذي تبنته أوكرانيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة، حيث ورد أن المساعدات الدفاعية الأمريكية كانت مشروطة بالوصول إلى الموارد الاستراتيجية في أوكرانيا. وتعهد لولا بالتعامل مع المعادن الاستراتيجية على أنها قضية "سيادة وطنية"، مشددًا على ضرورة مناقشة هذه المسألة عبر المفاوضات وليس التهديدات الاقتصادية أو التعريفات الجمركية. 2- تشكيل لجنة لرسم خرائط للثروات غير المكتشفة: كشف الرئيس البرازيلي أن بلاده تفتقر حالياً إلى خريطة كاملة لثروتها المعدنية، معلناً عن لجنة لرسم خريطة للاحتياطيات المعدنية غير المستكشفة. وكشف عن أن حكومته ستقوم بإنشاء المجلس الوطني للمواد المعدنية ومعاييرها، الذي سيكون مرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية لحماية قطاع المعادن وضمان إجراء الاستكشاف والمعالجة في الأراضي الوطنية، مما يسمح للبلاد بأن تصبح رائدة عالمياً في انتقال الطاقة، مضيفاً أن الشركات لن تواجه صعوبات بعد إنشاء المجلس. 3- تعزيز دور الدولة في أنشطة التعدين: تعمل حكومة لولا على زيادة مشاركة الدولة في استكشاف ومعالجة المعادن الهامة. يعد إنشاء شركة مملوكة للدولة مكرسة لمعالجة المعادن النادرة مثالاً رئيسياً على التوجه المتزايد نحو ما يُعرف بـ "قومية الموارد". وهو ما يعكس تحولاً في نهج إدارة الموارد في البرازيل؛ حيث يضع الأصول المعدنية كأدوات لتأمين الاستقلال الاقتصادي وتحقيق النمو المستدام، بدلاً من مجرد مواد خام للتصدير. في هذا السياق، قال لولا في تصريحات لوكالة رويترز: "لن نسمح لما حدث في القرن الماضي أن يحدث مرة أخرى، حيث تصدر البرازيل المعادن الخام ثم تشتري منتجات ذات قيمة مضافة عالية جداً". وأضاف: "نريد إضافة قيمة في البرازيل". 4- بناء قدرات التصنيع الوطنية: حذر تقرير لمنظمة الأونكتاد لعام 2023 من أن الاعتماد على تصدير&nbsp;المواد الخام مثل المعادن - يُمثل تحديًا كبيرًا للبلدان النامية ويمكن أن يخلق فخاخًا اجتماعية واقتصادية خطيرة. ويُجادل التقرير بأن هذا الاعتماد يُعيق التنمية الاقتصادية ويُديم أوجه عدم المساواة ونقاط الضعف في جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأمريكا الجنوبية والمحيط الهادئ والشرق الأوسط. ومن أجل التقليل من قابلية التعرض لتقلبات الأسعار الخارجية واضطرابات سلاسل التوريد، بدأت البرازيل، وهي مصدر رئيسي لخام الحديد والليثيوم، في إيلاء أهمية خاصة للاستثمار في التكنولوجيا والبحث وبناء قدرات تكرير ومعالجة محلية&nbsp;للمعادن الاستراتيجية، بهدف توليد فرص عمل وخلق قيمة مضافة. 5- تطوير ممارسات التعدين المستدامة: تُشير الأمم المتحدة إلى إن الصراع حول استغلال الثروات المعدنية يميل إلى النمو - داخل حدود الدول وخارجها، وإن من بين جميع النزاعات داخل الدول المسجلة في العقود الأخيرة، كانت %40 مرتبطة باستغلال الموارد الطبيعية - بما في ذلك الوصول إلى المعادن. في هذا الإطار، تعمل حكومة البرازيل على ترسيخ عمليات التعدين المسؤولة بيئياً وتعزيز مشاركة مجتمعات السكان الأصليين، والتي تعد من المبادئ الرئيسية لقانون المعادن في&nbsp;البرازيل. وهذا أمر بالغ الأهمية للحفاظ على صورة دولية إيجابية واجتذاب استثمارات مسؤولة، وضمان مشاركة المجتمعات المحلية، التي لديها سجل طويل في مناهضة أنشطة التعدين غير المستدامة بيئياً. 6- تنويع الشراكات الدولية: تستكشف البرازيل طرقًا جديدة لمواجهة الحواجز التجارية الأمريكية وتنويع أسواق التصدير، لا سيما المعادن الاستراتيجية، وذلك بعقد اتفاقيات تجارية واستثمارية مع دول خارج الولايات المتحدة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين. في وقت سابق من هذا العام، بدأ المسؤولون البرازيليون والروس محادثات حول الاستخراج المشترك لليورانيوم والليثيوم، كما استحوذت شركة BYD الصينية الرائدة في صناعات السيارات الكهربائية في فبراير 2025 على حقوق التعدين في منطقة غنية بالليثيوم في البرازيل.في ضوء ما سبق، يمكن القول أنه في ظل التحول العالمي إلى الطاقة النظيفة والحاجة المتزايدة إلى التكنولوجيا المتقدمة، من المرجح أن تشتد المنافسة على إمدادات المعادن البرازيلية، مما سيزيد من التوترات الجيوسياسية. وسيكون على البرازيل التصرف بشكل استراتيجي، عبر تطوير سياسة صناعية قوية ورؤية طويلة الأجل لإضافة قيمة إلى مواردها المعدنية، مما يجعلها من أدوات النفوذ الاقتصادي والسياسي في بيئة عالمية تتسم بمنافسة استراتيجية متزايدة.

كيف تستجيب البرازيل للاهتمام الأمريكي بمعادنها الاستراتيجية؟