د. عمرو عبدالعاطي

تُعقد قمة حلف شمال الأطلسي (حلف الناتو) في 24 و25 يونيو المقبل بمدينة لاهاي في هولندا، وسط تحديات استراتيجية متصاعدة تواجه الحلف، وفي طليعتها التهديدات الروسية المستمرة، والنفوذ المتنامي للصين، والتغيرات في ميزان القوى العالمي. وتُعد هذه القمة محطة مفصلية في مسار الحلف؛ حيث تسعى الدول الأعضاء إلى إعادة تأكيد التزاماتها الدفاعية، وتوسيع قدراتها العسكرية، وتعزيز التنسيق السياسي والعسكري؛ لضمان حماية المصالح الجماعية لدول الحلف. وتأتي الولايات المتحدة إلى هذه القمة بأجندة طموحة، تهدف إلى إعادة تأكيد دورها القيادي في الحلف، وتوجيه مسار التحالف نحو مواجهة فعَّالة للتحديات الحالية والمستقبلية، ولا سيما في الوقت الذي تركز فيه الاستراتيجيات الأمريكية، السياسية والاقتصادية والعسكرية، على مواجهة النفوذ الصيني عالميّاً، ولا سيما في منطقة الإندو–باسيفيك.أولويات لاهايتسعى الولايات المتحدة، خلال قمة الناتو في لاهاي في يونيو 2025، إلى تحقيق جملة من الأهداف، يتمثل أبرزها فيما يلي: 1– رفع الإنفاق الدفاعي لأعضاء الحلف إلى 3.5% من الناتج المحلي: تدعو الولايات المتحدة أعضاء حلف الناتو إلى الالتزام بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، في محاولةٍ لتعزيز قدرات الحلف الأوروبية، وتحقيق توزيع أكثر عدلاً للأعباء المالية بين الأعضاء. ويأتي هذا المطلب في ظل تحذيرات أمريكية متكررة من أن الولايات المتحدة لم تَعُد قادرةً على تحمُّل الجزء الأكبر من مسؤولية أمن القارة الأوروبية بمفردها، وهو ما دفع دولاً مثل السويد إلى الإعلان عن خطط لرفع ميزانياتها الدفاعية بشكل كبير لتتوافق مع هذا الهدف الجديد.يرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الإنفاق الدفاعي لأعضاء الناتو يجب أن يصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو هدف أعلى بكثير من الهدف الحالي البالغ 2% الذي اتُّفق عليه في عام 2014. وتخطط الولايات المتحدة نفسها للوصول إلى هذا المستوى بحلول السنة المالية 2026؛ ما يعكس رغبتها في تسريع تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، وتقليل الفجوة في الإنفاق داخل الحلف. ومن المتوقع أن يناقش قادة الناتو في القمة اعتماد هدف جديد للإنفاق الدفاعي يتراوح بين 3% و3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تأكيد ضرورة الالتزام بخطط زيادة الإنفاق تدريجياً خلال السنوات القادمة.2– تعزيز القدرات العسكرية لحلف الناتو وأعضائه: تركز قمة الحلف القادمة على تحقيق توافق بين الدول الأعضاء بشأن رفع أهداف القدرات العسكرية بنسبة 30%، في خطوة تهدف إلى تعزيز الجاهزية القتالية للحلف، وتحديث تشكيلاته العسكرية. تشمل هذه الزيادة تطوير وحدات متخصصة برية وجوية وبحرية، مع ترك حرية التنفيذ لكل دولة من دون إلزام بمواعيد نهائية صارمة. وقد وافق نحو 80% من أعضاء الحلف مبدئياً على هذه الخطوة، وسط توقعات بالتوصل إلى إجماع كامل قبيل انعقاد القمة.تأتي هذه المبادرة في ظل تحديات كبيرة يواجهها الناتو؛ إذ إن الأعضاء متأخرون حالياً بنسبة 30% عن تحقيق أهداف القدرات الحالية؛ ما يؤدي إلى فجوة حرجة في الجاهزية الدفاعية. وأشار الأدميرال بيير فاندييه القائد الأعلى لقيادة التحول في حلف الناتو، إلى أن تعزيز القدرات الهجومية بات ضرورياً لمواجهة التهديدات المتصاعدة، مؤكداً أن الاستراتيجيات الدفاعية وحدها غير كافية. ويتطلب تحقيق هذه الزيادة استثمارات طويلة الأمد وتنسيقاً عسكرياً عالي المستوى لضمان تكامل القوة العسكرية للحلف ومرونتها.وتعكس هذه الزيادة في القدرات تحولاً استراتيجياً داخل الحلف، مدفوعاً بتهديدات متنامية من روسيا، والحاجة إلى إعادة التوازن في تقاسم أعباء الدفاع، كما تهدف إلى تحسين قدرة الحلف على الردع والدفاع عبر تطوير أنظمة القيادة والسيطرة، وتوسيع استخدام التكنولوجيا المتقدمة كالطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية. ويسعى الناتو إلى بناء قوة أوروبية وكندية أكثر استقلالاً واعتماداً على الذات، مع استمرار القيادة الأمريكية في المجالات النووية والفضائية؛ لضمان استجابة سريعة وفعالة في جميع ميادين المواجهة المحتملة.3– تعيين القائد الأعلى الجديد لقوات الحلفاء في أوروبا: تعتزم الولايات المتحدة ترشيح ضابط أمريكي رفيع المستوى لهذا المنصب الاستراتيجي، الذي يُسند تقليدياً منذ تأسيس الحلف إلى قائد عسكري أمريكي. ويعكس هذا التعيين التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على قيادتها القوية في مجالات التخطيط العسكري والقيادة والجاهزية العملياتية لحلف الناتو. ومن خلال الاستمرار في شغل هذا المنصب، تؤكد الولايات المتحدة دورها المحوري في ضمان الدفاع الجماعي للحلف وقدرته على الاستجابة السريعة، لا سيما في ظل التهديدات الأمنية المستمرة من روسيا والمخاطر الناشئة على المستوى العالمي.ويُعَد منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا أساسياً لتنسيق عمل القوات المتعددة الجنسيات، وصياغة الموقف العسكري الاستراتيجي للناتو، وتعزيز التكامل العملياتي بين جيوش الدول الأعضاء. وترى الولايات المتحدة أن الحفاظ على هذا الدور القيادي أمر ضروري لضمان وحدة الصف عبر الأطلسي، ولتأكيد دعمها الثابت لأمن القارة الأوروبية في مواجهة التحديات المتزايدة.4– وضع استراتيجية لحلف الناتو تجاه الصين: تهدف قمة حلف الناتو المقرر عقدها في لاهاي إلى إضفاء الطابع الرسمي، وتفعيل نهج الحلف في مواجهة التحديات الأمنية التي تمثلها الصين، في إطار إدراك الحلف المتزايد لبكين كخصم منهجي واستراتيجي؛ فمنذ أن أشار المفهوم الاستراتيجي للناتو لعام 2022 لأول مرة إلى "طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية" بوصفها تهديداً للنظام الدولي القائم على القواعد ولأمن الحلف؛ يعمل الناتو على تطوير استراتيجية شاملة تجاه الصين تهدف إلى ترجمة هذه المخاوف إلى إجراءات جماعية فعالة.وستتناول هذه الاستراتيجية جوانب متعددة من التهديد الصيني، ومنها التصدي لحملات التضليل الإعلامي التي تقودها بكين، وعملياتها السيبرانية، وتوسعها العسكري، بالإضافة إلى إدارة تنامي نفوذها في النظام الدولي وشراكتها الاستراتيجية المتزايدة مع روسيا. ويُدرك قادة حلف الناتو أن تركيز الدول الأوروبية ينصب أساساً على ردع موسكو، إلا أن بمقدورها المساهمة في ردع الصين من خلال منع نقل التقنيات العسكرية الحساسة، وإدانة السلوك العدواني الصيني في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي، وتعزيز التعاون الدفاعي مع شركاء من منطقة الإندو–باسيفيك، مثل أستراليا واليابان وتايوان.وستشكل القمة فرصة لتسريع جهود التوافق داخل الحلف بشأن هذه القضايا، من خلال إيجاد توازن بين أدوات الردع والانخراط الدبلوماسي؛ لضمان حماية مصالح الحلفاء عبر مختلف المجالات، بما يشمل الأمن السيبراني، والتقنيات المتقدمة، والمجالات العسكرية والدبلوماسية.5– إعادة هيكلة الدعم المقدم لأوكرانيا ومواجهة التهديد الروسي: في قمة الناتو المقرر عقدها في لاهاي في يونيو 2025، ستتصدر مسألة دعم أوكرانيا والتصدي للتهديد الروسي المستمر جدول أعمال القمة. ومن المتوقع أن يحدث سجال حول التزام الحلف بتقديم الدعم المالي والعسكري المتواصل لأوكرانيا في دفاعها عن سيادتها في ظل استمرار النزاع الروسي الأوكراني؛ إذ من المرجح أن ترفض إدارة ترامب تقديم المزيد من الدعم لكييف، وأن تدعو إلى الانخراط في محادثات السلام بين روسيا وأوكرانيا.وبجانب الدعم المباشر لأوكرانيا، سيركز قادة الناتو على تعزيز إجراءات الردع والدفاع في الجناح الشرقي للحلف. ويشمل ذلك تعزيز قوات الاستجابة السريعة، وزيادة انتشار القوات في المناطق الأكثر عرضةً للتهديد، وتحسين البنية التحتية والخدمات اللوجستية لضمان سرعة التعبئة العسكرية عند الحاجة، كما سيناقش القادة الحاجة إلى الحفاظ على وحدة الصف بين الدول الأعضاء في مواجهة أساليب الحرب الهجينة التي تنتهجها روسيا، ومنها الهجمات السيبرانية وحملات التضليل الإعلامي. ويهدف الحلف من خلال هذه التحركات إلى توجيه رسالة واضحة أن أي عدوان روسي إضافي سيُقابل برد حازم ومنسَّق، في إطار الالتزام الجماعي بمبدأ الدفاع المشترك المنصوص عليه في المادة الخامسة من ميثاق الحلف.6– دراسة آفاق توسيع حلف الناتو مستقبلاً: ستتناول قمة الناتو في لاهاي آفاق توسيع عضوية الحلف مستقبلاً، استمراراً لسياسة الناتو التاريخية القائمة على الانفتاح لتعزيز الأمن الأوروبي؛ فبحلول مطلع عام 2025، أعربت ثلاث دول رسمياً عن رغبتها في الانضمام إلى الحلف، من بينها البوسنة والهرسك التي تُعد الوحيدة حالياً التي تمتلك "خطة عمل للعضوية"، وهي خطوة أساسية نحو الانضمام. ويُعد انضمام كل من فنلندا والسويد مؤخراً تطوراً مفصلياً؛ إذ أدى إلى توسيع حدود الناتو المباشرة مع روسيا؛ ما يُظهر أن العدوان الروسي لم يُثن جهود التوسع، بل سرع وتيرتها.من المتوقع أن تركز المناقشات خلال القمة على الأبعاد الاستراتيجية والسياسية والأمنية لانضمام أعضاء جدد، لا سيما دول مثل البوسنة والهرسك وجورجيا، اللتين أبدتا اهتماماً صريحاً بالعضوية، لكنهما تواجهان تحديات سياسية وأمنية معقدة. ويؤكد قادة الحلف أن التوسع يسهم في تحقيق الاستقرار من خلال دعم الإصلاحات الديمقراطية، وترسيخ السيطرة المدنية على المؤسسات العسكرية، وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء. ومع ذلك، يظل الحلف متحفظاً في خطواته؛ نظراً إلى مخاوف من استفزاز روسيا، ولضرورة التأكد من التزام الدول الطامحة بالمعايير السياسية والعسكرية للناتو. وفي هذا السياق، ستؤكد القمة مجدداً سياسة "الباب المفتوح" التي ينتهجها الحلف، مع مراعاة الحفاظ على تماسك الصفوف وفاعلية الردع في ظل التهديدات الروسية المستمرة.تقاسم منصففي الختام، يشكل تحقيق التوزيع العادل للأعباء بين دول حلف الناتو أحد المحاور الأساسية في قمة لاهاي 2025، في ظل مطالبة الولايات المتحدة بزيادة مساهمات الدول الأوروبية وكندا في الميزانيات الدفاعية؛ فبينما تتحمَّل واشنطن نحو 15% من ميزانية الدفاع الإجمالية للحلف، تظل مساهمات العديد من الأعضاء دون المستوى المطلوب؛ ما يضع عبئاً غير متوازن على كاهل الولايات المتحدة. ومن هذا المنطلق، تدفع إدارة الرئيس دونالد ترامب باتجاه التزام الحلفاء بنسبة إنفاق دفاعي لا تقل عن 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، بهدف تعزيز الجاهزية الدفاعية وتحقيق تقاسم منصف للأعباء بما يضمن فاعلية التحالف واستدامة قدراته في مواجهة التهديدات المتزايدة، سواء من روسيا أو الصين.

أولويات واشنطن خلال قمة الناتو المقبلة في لاهاي