سارة خليل

تسعى الولايات المتحدة، في الوقت الحالي، للمزيد من السيطرة على الموانئ الرئيسية في اليونان، من خلال موجة النشاط الدبلوماسي الجديد في أثينا؛ حيث يُركز المسؤولون الأمريكيون، بأوامر من الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة "دونالد ترامب"، أنظارهم على موانئ سالونيك وألكسندروبوليس، وحتى بيرايوس، الذي تُديره حالياً شركة "كوسكو" الصينية المملوكة للدولة. وعلى هذا النحو، تزايد الحديث في الصحافة اليونانية، عن قيام دبلوماسيين أمريكيين ببعض التحركات الجادة من أجل تحويل الموانئ في اليونان إلى بوابات استراتيجية تفتح الولايات المتحدة على أوروبا. ويأتي هذا الاهتمام الأمريكي بعد فترة طويلة للغاية، لم يُبدِ فيها الأمريكيون ولا حتى الأوروبيون اهتماماً يُذكر بالموانئ اليونانية، وغيرها من البنى التحتية التي خرجت عن سيطرة الغرب.أهداف واشنطنتتعدد أهداف إدارة "ترامب" للسيطرة على موانئ اليونان، والتي تتجلى من خلال حالة النشاط الدبلوماسي الجديدة لواشنطن مع أثينا، والتي يمكن إجمالها فيما يلي: 1- الحد من النفوذ الصيني في الموانئ اليونانية: لطالما نظرت الولايات المتحدة بعين الريبة إلى ملكية الصين لميناء بيرايوس، أكبر موانئ اليونان، وأكبرها أيضاً في البحر الأبيض المتوسط ​​من حيث حركة الركاب والحاويات، وراقبت عن كثب أنشطة شركة "كوسكو" الصينية للشحن والخدمات اللوجستية. فمنذ أكثر من 15 عاماً، بدأت الصين من خلال شركة "كوسكو" في الوصول إلى أوروبا، مُركزة على اليونان عبر تشغيل ميناء حاويات في بيرايوس عام 2008. وبشكل عام، تعمل الشركات الصينية، منذ إطلاق الصين مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، على تطوير مصالح اقتصادية في الموانئ الحيوية في البلدان الأوروبية.2- الاستفادة من الموقع الاستراتيجي لليونان في المنافسة مع الصين: تُمثل اليونان أهمية استراتيجية بالغة للولايات المتحدة بفضل موقعها المتميز، الذي يجعلها بوابة للأسواق الأوروبية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وتضارب المصالح الناجم عن التحالفات الدبلوماسية من جهة، والشراكات التجارية من جهة أخرى، ومن ثمَّ تجد اليونان نفسها في مشهد معقد ذي أبعاد جيوسياسية، ولا سيما مع تنامي المخاوف الأمريكية إزاء سيطرة الصين على أحد أكبر موانئ البحر الأبيض المتوسط من حيث الإنتاج، وهو ميناء بيرايوس. ونتيجة لذلك، توقَّع عدد من المحللين اتجاه واشنطن نحو تقليص نفوذ بكين في بيرايوس، مع بذل جهود متضافرة لوضع الميناءين الرئيسيين الآخرين في اليونان تحت السيطرة الأمريكية، وهما سالونيك وألكسندروبوليس.3- موازنة النفوذ السياسي الصيني في أوروبا:&nbsp;بالطبع، يمكن أن تُشكل استثمارات الموانئ مصدراً غير مباشر للضغط السياسي، فكلما استفاد اقتصاد الدولة من وجود مشغلي الموانئ الصينيين، زاد اعتماده على العلاقات الجيدة مع الصين. وفي الوقت ذاته، أثار البعض مخاوف بشأن الاستثمارات واسعة النطاق من قبل الشركات الصينية في الموانئ الأوروبية، وبعضها عبارة عن محاور لوجستية لمعدات الناتو، بحسب خدمة الأبحاث البرلمانية الأوروبية. وتاريخياً، لعبت الموانئ في أوروبا دوراً أساسياً في التنمية الاقتصادية للقارة، حيث كانت بمثابة أدوات للتجارة البحرية والتوسع الاستعماري.فعلى الرغم من مساعي الولايات المتحدة خلال الولاية الأولى للرئيس "ترامب" لمحاصرة مشروعات مبادرة "الحزام والطريق"، فإن حجم الاستثمارات الصينية في مشروعات البنى التحتية في أوروبا يتزايد، خاصة في أوروبا الشرقية ودول الجنوب الأقل تطوراً مثل اليونان.&nbsp;ويبدو أن "ترامب" خلال ولايته الثانية يستهدف، بصورة جادة، الحد من توسع النفوذ الصيني في اليونان؛ تجنباً لممارسة بكين أي ضغوط سياسية على أثينا قد تضر بمصالح واشنطن في اليونان.4- دور اليونان في مشاريع الممرات الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن: يرتبط الاهتمام الأمريكي بالموانئ اليونانية بأهمية هذه الموانئ في مشاريع الممرات الاستراتيجية، ويبزغ هنا ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، الذي يحظى باهتمام متزايد في الكونجرس الأمريكي، من منظور جيوسياسي واسع النطاق. فقد شكَّل مشروع الممر جزءاً أساسياً من جدول أعمال الاجتماعين بين رئيسي وزراء البلدين، اليوناني "كيرياكوس ميتسوتاكيس"، والهندي "ناريندرا مودي"، في أثينا في أغسطس 2023، ونيودلهي في فبراير 2024. وقد أعربت الهند أيضاً عن اهتمامها بميناء ألكسندروبوليس، كجزء من مشروع ممر (IMEC)، الذي سيسهم في تجاوز تركيا، حليفة باكستان، الخصم الرئيسي للهند. وربما تنظر اليونان بإيجابية إلى هذه الخطوة، خاصةً بعد أن تراجع اهتمام الإدارة الأمريكية باستخدام ألكسندروبوليس، كجزء من تدفق الأسلحة إلى أوكرانيا ونشر قوات الناتو في أوروبا الشرقية بشكل كبير.5- توظيف التقارب بين البلدين للحفاظ على استقرار المنطقة: عادة ما يؤكد رئيس الوزراء اليوناني على مكانة اليونان باعتبارها جسراً محتملاً بين الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما يعزز مكانتها في "الممر الاقتصادي" بين أوروبا والشرق، ويؤكد أيضاً على أهمية الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. فلا تزال الشراكة الجيوسياسية في مجال الطاقة بين اليونان والولايات المتحدة بالغة الأهمية في ظل إدارة "ترامب"، وفقاً لما ذكره وزير البيئة والطاقة اليوناني "ستافروس باباستافرو"، في مقابلة مع صحيفة كاثيميريني اليونانية، مستعرضاً زيارته للولايات المتحدة في مايو 2025.وعلاوة على ذلك، يبدو أن اليونان لا تزال حليفاً بالغ الأهمية للولايات المتحدة في ظل إدارة "ترامب" في مسائل الدفاع والأمن. ففي خلال الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واليونان في فبراير 2024، تمت إعادة تجديد اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك بين الولايات المتحدة واليونان. ومن خلال هذه الشراكة، لا تعزز اليونان دفاعها فحسب، بل تعزز أيضاً قدراتها الرادعة وتعزز دورها كركيزة للاستقرار في منطقة مضطربة. وفي الوقت ذاته، تدير الولايات المتحدة برئاسة "ترامب" سياستها الخارجية على أساس الواقعية ومصالحها الوطنية، في إطار الالتزام بشعار "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى". تحركات جادةثمَّة عدد من التحركات المتسارعة، التي تبنتها إدارة "ترامب" بمجرد توليها الولاية الثانية من أجل السيطرة على موانئ اليونان، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تعزيز التمثيل الدبلوماسي الأمريكي في أثينا: من المتوقع أن تصل "كيمبرلي جيلفويل"، التي اختارها "ترامب" لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى اليونان، في أعقاب فوزه بالانتخابات الرئاسية إلى أثينا هذا الصيف خلال عام 2025. وبصفتها حليفة مقربة للرئيس الأمريكي، كُلفت "جيلفويل" بمهام واضحة، تكمن في دفع خطة الرئيس "ترامب" لتعزيز النفوذ الأمريكي في الموانئ اليونانية، وخاصةً في ثاني أكبر مدينة في البلاد، سالونيك، وأيضاً منع الصين من توسيع نفوذها في اليونان؛ حيث تعد السيطرة على الموانئ اليونانية ركيزةً أساسية في المهام المُكلَّفة "جيلوفيل" بأدائها. وسينضم إليها دبلوماسيون من ذوي الخبرة. وعلى الرغم من تلك التحركات الأمريكية الدبلوماسية، فقد شكَّل قرار "ترامب" بإغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في مدينة ألكسندروبوليس باليونان، في فبراير 2025، تحولاً في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في المنطقة وأثار مخاوف بين المسؤولين اليونانيين، ممَّا يشير إلى الالتزام الأمريكي بالحد من الالتزامات الدفاعية بأوروبا، وأيضاً السياسات البراجماتية التي تُغلب المصالح الوطنية فحسب.2- إدراج "كوسكو" على القائمة السوداء: أدرجت الحكومة الأمريكية، في يناير 2025، شركة "كوسكو" للشحن البحري، أكبر شركة نقل بحري في الصين، على القائمة السوداء بسبب مزاعم ارتباطها بجيش التحرير الشعبي. ويعمل ميناء بيرايوس بشكل طبيعي رغم قرار الولايات المتحدة بإدراج شركة كوسكو، المالكة للأغلبية فيه، على القائمة السوداء، وفقاً لما أعلنته وزارة الدفاع الأمريكية.وفي المقابل، أكدت "كوسكو"، إحدى أكبر مجموعات الشحن في العالم، أن أياً من وحداتها المدرجة على القائمة ليست شركة عسكرية. وقد أثار إدراج الولايات المتحدة للقائمة السوداء قلق اليونان نظراً للدور التجاري المحوري الذي يلعبه ميناء بيرايوس.3- ممارسة الضغوط على أثينا: تسعى الولايات المتحدة للضغط على أثينا لتهيئة بعض الأمور، التي من شأنها دفع شركة "كوسكو" الصينية العملاقة إلى الانسحاب من ميناء بيرايوس، ذي الأهمية الاستراتيجية، الذي تديره؛ وذلك من بين أهداف واشنطن الرئيسية للسيطرة على موانئ اليونان. ويزعم البعض أن هذا جزء من جهود واشنطن لبناء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، حيث تُمثل الموانئ اليونانية نقطة دخول إلى أوروبا. وفي ضوء هذه الضغوط، بدت بوادر التغيير جليَّة بالفعل. فقد اتخذت الحكومة اليونانية موقفاً أكثر صرامة تجاه مُشغلي الموانئ، بما في ذلك شركة "كوسكو" الصينية في&nbsp;بيرايوس، وكذلك الأمر بالنسبة&nbsp;لمجموعة الأعمال الروسية اليونانية التي تُدير ميناء&nbsp;سالونيك. وإلى جانب ذلك، يُصرّ المسؤولون اليونانيون، في الوقت الحالي، على تسريع وتيرة الاستثمارات والامتثال الكامل للقواعد المحلية وقواعد الاتحاد الأوروبي، وهو تحوّل مفاجئ وغير معتاد، بعد سنوات من التعاون الهادئ نسبياً.كما تضغط الحكومة اليونانية على الجانب الصيني لإجراء التطويرات اللازمة وتحسين البنية التحتية في ميناء بيرايوس التي التزمت بها. وقد نوقشت هذه القضية في اجتماع عُقد خلال مايو 2025، بين وزير الشحن المعين حديثاً "فاسيليس كيكيلياس" والسفير الصيني لدى اليونان "فانغ تشيو". وفي مارس 2025، رفضت اليونان طلباً صينياً بالسماح للسفن الحربية بالرسو في موانئها، في رسالة واضحة لكل من بكين وواشنطن حول التوجهات المحتملة لأثينا.ويجري العمل حالياً في اليونان على سنّ تشريع جديد لتشديد الرقابة على أي استثمارات أجنبية في البنية التحتية الاستراتيجية، مثل الموانئ والكابلات البحرية، ممَّا يشير إلى رسالة مفادها أنه ستكون هناك رقابة على الاستثمارات الأجنبية، وسيُسمح لها بالعمل في البلاد طالما أنها لا تُشكل مخاطر وطنية أو جيوسياسية.4- إشارة تقارير إلى تزايد اهتمام واشنطن بميناء سالونيك: تشير تقارير إلى أن الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على ميناء سالونيك -الخاضع لسيطرة الملياردير اليوناني الروسي "إيفان سافيديس"، الذي يملك أيضاً ميناء فولوس- والذي يتناسب قربه من أوروبا الوسطى تماماً مع أهداف الهند، شريكة "ترامب" في مواجهة الصين، لإنشاء ما يُسمى ممر الهند والشرق الأوسط وأوروبامسألة معقدةوإجمالاً، يُمكن القول إنه منذ بداية الولاية الثانية للرئيس "ترامب"، اتخذ التنافس بين الولايات المتحدة والصين بُعداً جديداً. ويبدو أن هذه المنافسة تؤثر على الموانئ اليونانية؛ حيث تدور حالياً في اليونان حالة من الشد والجذب، قد تُعيد رسم مسارات التجارة العالمية وتُغير موازين القوى في البحر الأبيض المتوسط، في ظل التقلبات الجيوسياسية الحالية وعدم القدرة على التنبؤ، التي تزيد من تعقد الأوضاع.وفي الأشهر المقبلة، من المُرجح أن تكون موانئ اليونان في طليعة سباق جيوسياسي أوسع نطاقاً للسيطرة والنفوذ بين القوى الكبرى ذات الأهداف المتعارضة. فعلى الرغم من رغبة الولايات المتحدة في الضغط على اليونان لتخلي "كوسكو" عن بيرايوس، وصعوبة تنفيذها، لكن يبدو أن الحكومة اليونانية مستعدة إلى حد ما للامتثال لرغبات الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته، من غير المرجح أن تتنازل بكين طواعيةً عن السيطرة على ميناء بيرايوس، الذي يُعدّ مدخلاً حيوياً لممر النقل بودابست-بلجراد-بيرايوس المُخطط له.وفي حين لم تتبنَّ اليونان بعد استراتيجية واضحة في التعامل مع تلك القضية المعقدة، فإنها يبدو أنها ستقوم بتقييم التأثير المحتمل مع كافة الجهات الفاعلة، بحيث توازن بين علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك اتفاقيات التعاون الدفاعي، واعتمادها الاقتصادي على بيرايوس.

دوافع اهتمام الولايات المتحدة بالسيطرة على الموانئ اليونانية